ذكريات شاهد عيان عن انقلاب 8 شباط 1963 الأسود

ذكريات شاهد عيان عن انقلاب 8 شباط 1963 الأسود

عدنان رجيب
يوم الجمعة 8 شباط 1963، كنت كالعادة أنوي الذهاب إلى مقر اتحاد الطلبة العام، الكائن في منطقة الوزيرية – مقابل كلية التربية-. حينما خرجت من بيتنا صباحا قابلت في الطريق بعض الجيران الذين أخبروني عن حدوث انقلاب.... فهزني الأمر... وسرعان ما عادت بي الذاكرة إلى أحداث جمة متسارعة كانت قد حصلت قبل فترة قصيرة.

كانت بغداد لفترة زمنية طويلة تموج بمظاهرات عديدة نظمها الحزب الشيوعي العراقي في مناطق عديدة من بغداد، كان هدفها تشديد وعي الجماهير ضد مؤامرات الاستعمار والرجعية المحلية ضد الحكم الوطني. وكان آخرها مظاهرات حاشدة انطلقت يوم الخميس 7 شباط في مناطق عديدة من بغداد. أكبر المظاهرات تلك التي انطلقت من المتحف العراقي، بالقرب من محطة القطار العالمية. فلقد تناهى إلى علم الحزب الشيوعي العراقي عن نشاط رجعي استعماري لتنفيذ مؤامرة ضد الشعب العراقي لإسقاط الجمهورية. وقد كانت مظاهرات يوم الخميس 7 شباط حاسمة قوية وبعنفوان شديد. تعالت هتافات المتظاهرين داعية لتعميق الوعي الجماهيري من أجل الحفاظ على مكتسبات الشعب وضرورة التصدي للمؤامرات الرجعية الاستعمارية.
لقد ارتعب رجال الأمن وهربوا مذعورين، ومنذ انطلاق المظاهرة. وسمعنا إن أحد رجال الأمن تم قتله، لأنه حاول التصدي للمتظاهرة. عند مرور المظاهرة من أمام مديرية شرطة اليرموك، لاحظنا الشرطة عند الباب يصفقون للمظاهرة خوفاً من احتمال الهجوم على مديرية الشرطة، كدليل الرعب والهلع من ضخامة المظاهرة وشعاراتها. استمرت المظاهرة الهادرة حتى جسر الشهداء (جانب الكرخ)، حيث تم قراءة المطاليب الجماهيرية التي دعت الشعب إلى الحذر والوعي لما يخطط ضده من خونة الشعب، كما شددت المطاليب على وجوب أن تتخذ السلطة (سلطة عبد الكريم قاسم) الإجراءات الرادعة الحاسمة ضد الرجعية ومؤامراتها. وتفرقت المظاهرة بعدها، دون أن يفكر الأمن في اعتقال أي متظاهر خوفاً من نتائج ذلك بسبب عزيمة المتظاهرين.
لقد عمد الحزب الشيوعي العراقي في أوقات سابقة إلى تحذير سلطة عبد الكريم قاسم من وجود تحرك رجعي إمبريالي يجري التخطيط له لإرجاع العراق إلى حضيرة الأحلاف العسكرية والتبعية الغربية. كما ثابر الحزب على رفع وعي جماهير الشعب والتصدي للقضاء على أي تحرك رجعي. فلقد كانت مظاهرات ومنشورات وبيانات الحزب الشيوعي، منذ فترة سبقت الانقلاب الفاشي، تعلن هذه التحذيرات وتحفز عزائم الجماهير. لكن سلطة عبد الكريم قاسم لم تكن بالمستوى المطلوب لتلك الأحداث. كذلك كانت شأنها شأن أية سلطة للبرجوازية الوطنية، منخرطة في التضييق على نشاطات الحزب الشيوعي والتضييق على الحريات الديمقراطية للجماهير. لقد دفعت بيانات وتحذيرات الحزب الشيوعي السلطة إلى لقيام ببعض التدابير الإيجابية لفضح التآمر. وتم في هذا الصدد تتبع خيوط التآمر، ومن ثم اعتقال بعض الضباط البعثيين وغلاة القوميين الرجعيين، ومنهم صالح مهدي عماش. وخلال التحقيقات معهم انهار الكثير منهم واعترفوا بالتخطيط للمؤامرات المعادية للوطن. إلا إن صالح مهدي معاش، المسئول العسكري في حزب البعث، استغل حادثة وفاة والده ليحصل على إجازة من السجن للاشتراك في تشييع جنازة والده، وليستفيد من ذلك في إخبار أقرانه المتآمرين بضرورة تنفيذ المؤامرة بأسرع ما يمكن، وإلاّ فإن زملاءه سيفشون كل الأسرار. لذا جرى تقديم تنفيذ المؤامرة، واختير يوم 8 شباط 1963 موعداً لبدء إغراق العراق بالدماء والإطاحة بالحكم الوطني، وذلك كعربون من البعثيين وباقي الرجعيين لصدق نواياهم في موالاة شركات النفط الاحتكارية والإمبريالية العالمية.

حينما سمعت بخبر الانقلاب الفاشي، ذهبت من البيت إلى بعض الأصدقاء، حيث كنا نسكن في الكرادة الشرقية، وإستقلينا الباص باتجاه الباب الشرقي. كان الناس من حولنا غاضبون وبحالة استياء كبيرة من الحالة التي ستؤول البلاد إليها. وكان حديث الناس يتسم بالحرص على الوطن وضد المؤامرة وما يجري في بغداد. وما أن وصل الباص بنا إلى نهاية شارع عرصات الهندية وبالقرب من دار الشهيد فاضل عباس المهداوي، حتى شاهدنا بعض المدنيين مختفين خلف الأشجار وهم يحملون غدارات، وعلى سواعدهم خرق خضراء مكتوب عليها حروف (ح. ق.). علمنا فيما بعد إنها تعني (حرس قومي)، على غرار"الأس أس"الألماني النازي. اضطرب المواطنون في الباص، كل يتكهن بشيء.... هل المسلحون متآمرون أم لا. قال بعض الركاب: لعل هؤلاء المسلحون هنا لحماية المهداوي. بعد فترة قصيرة سمعنا صوت اطلاقات نارية ثم سيارة عسكرية فيها المهداوي تمر أمامنا بسرعة. ويبدو إن أولئك المسلحين أطلقوا رصاصهم عليه لكن لم يصيبوه. فانطلقت حناجرنا، نحن ركاب الباص، بالهتاف للجمهورية وللشعب العراقي ولحياة المهداوي وضد المتآمرين. وعندما وصل الباص إلى منطقة الباب الشرقي، وجدنا ساحة التحرير والشوارع المؤدية لها تموج بمئات الآلاف من المواطنين.... حمل الكثير منهم الحجارة والعصي فقط، لا توجد أسلحة... هتافات هادرة تنشد: ماكو مؤامرة تصير عين الشعب مفتوحة. حناجر وسواعد توحدت تهتف لجمهورية الشعب ومساندتها، وضد المؤامرة والرجعية وسحق مؤامرتهم. شاهدنا خطباء وبضمنهم عسكريين يلقون الخطب الحماسية في أماكن متعددة من ساحة التحرير وسط الجماهير الغاضبة المتحفزة للانقضاض على المؤامرة. لم تكن هناك سوى الحجارة والعصي وبعض الأسلحة البسيطة في مواجهة أسلحة المتآمرين.
شق الآلاف من المتظاهرين الطريق نحو شارع الرشيد. وهدير الجماهير لا يهدأ متوعداً المتآمرين بسوء العاقبة، وهي تهتف"باسم العامل والفلاح يا زعيم إنطينه سلاح"، و"ماكو مؤامرة تصير...."، إلى جانب شعارات الحزب الشيوعي في التغني بالوطن وبالشعب. إثناء سير مظاهرتنا في شارع الرشيد، مرت علينا مصفحات عسكرية علقت عليها صور عبد الكريم قاسم. فكنا نقابل هذه المصفحات بعواصف التصفيق والهتافات، لاعتقادنا إنها ضد المؤامرة، ولكن تبين فيما بعد إنها قطعات عسكرية للمتآمرين، ولخوفهم من غضب الجماهير كانوا يضعون عليها صور عبد الكريم قاسم. استمرت المظاهرة الضخمة في مسيرها وكان المواطنون يرفدونها حيث كانوا يأتون من كل الشوارع والفروع الأخرى، موحدي الفكر والحناجر ضد المؤامرة ودفاعا عن الجمهورية. وكانت باقي مناطق بغداد والمدن الأخرى تغلي على هذا النحو. وقد أشار فيما بعد رئيس تحرير جريدة العراق آنذاك، وكان من غلاة الرجعيين من أدعياء القومية، محدثا بعض من معارفه:"خرجت يوم الانقلاب بالسيارة مع زوجتي فوجدت الشوارع عبارة عن كتل بشرية دعاها الشيوعيون إلى القضاء على الحركة. وفقدت وقتها الأمل في نجاح الانقلاب، فعدت إلى البيت وقلت لزوجتي، إذا جاء أحد لاعتقالنا فقولي ليست لنا علاقة بالانقلاب ولم نخرج من البيت أبدا". ولم يكن المتآمرون بأقل تشاؤماً في نجاح انقلابهم من رئيس تحرير جريدة العراق.
لقد كان من أهم عوامل نجاح الانقلاب هو تورط السلطة بإضعاف القوى التقدمية في البلاد ومنع الحريات الديمقراطية والحرب ضد الشعب الكردي. كما أن شحة، بل تقريباً انعدام، السلاح بيد الجماهير من العوامل التي لم تمكن المواطنين من القضاء على المؤامرة. ويتحدث المواطنون الذين تجمعوا في شارع الجمهورية صباح يوم المؤامرة، إن عبد الكريم قاسم مر من الشارع، وقد قابله المواطنين بالهتاف لحياة الجمهورية ولحياته، وطالبوه بالسلاح"باسم العامل والفلاح...". إلا إن عبد الكريم قاسم طلب إليهم الهدوء والعودة لبيوتهم، وأشار لهم بأصابعه في إنه سيقضي على المؤامرة في خلال ساعتين (؟!). فلم يشأ عبد الكريم قاسم حتى في ذلك اليوم العصيب أن يقتسم المسؤولية الوطنية مع الجماهير ليسلحها للدفاع عن نفسها وعن مكتسباتها.
تابعت مظاهرتنا اندفاعها في شارع الرشيد صوب وزارة الدفاع لرفع معنويات السلطة والمساهمة في مواجهة المتآمرين. وعند اقتراب المظاهرة من البنك المركزي، ظهرت مصفحتين مزدانتين بصور عبد الكريم قاسم... أخلا المتظاهرون لهما الطريق محيينهما بالتصفيق والهتاف...إلا أن المصفحتين وبعد وصولهما بالقرب من فتحة سوق الشورجة، توقفت إحداهما وفتحت النار على المتظاهرين. رأيت شهيداً يسقط وحمله بعض المتظاهرين. كما دوّت إطلاقات نارية كثيفة باتجاهنا قادمة من سطح البنك المركزي. تفرقت المظاهرة على جانبي الشارع، واشتد الغضب الشديد لدى المواطنين العزل بسبب جبن المتآمرين وخداعهم، مما عزز بقوة عزيمة الجماهير. وبعد أن غادرت المصفحتين باتجاه باب المعظم، عاودت المظاهرة الجماهيرية مسيرها بشكل أقوى وأهدر في ترديد شعاراتها. وما أن وصلنا بالقرب من ملتقى شارع الأمين، حتى ارتكبت جريمة أخرى... فالرصاص بدء ينهمر علينا من الخلف وكذلك من أمامنا، من الجهة الأخرى لشارع الرشيد. كانت هناك دبابة في مواجهتنا تصب جحيمها الأرعن على المتظاهرين. أنتشر بيننا رعب شديد... ولجأ المتظاهرون إلى الأزقة هرباً من حصاد الموت الإجرامي. لم أستطع اللجوء إلى أي ملاذ للاختفاء. فاضطررت إلى الاحتماء بمدخل عتبة أحد أبواب المخازن ضاغطاً جسمي بشدة عليها لاتقاء رصاص مدفع الدبابة. كانت عيناي مسمرتان على الدبابة التي رأيتها ترسل حمم الموت مباشرة على الشارع. لقد وجدت فروع الشارع، على قربها مني، بعيدة عني فلم أجازف التوجه نحوها تفادياً لاحتمال إصابتي بالقذائف.
مرت فترة حرجة وعاودت الدبابة بعدها التوغل في شارع الرشيد باتجاه باب المعظم وذلك لتساهم في تحطيم تحصينات وزارة الدفاع. بعد مغادرة الدبابة، سنحت لي الفرصة للهرب من احتمالات أسوء. لكن تجمع بعض المتظاهرين مرة أخرى وراحوا يرددون شعاراهم الوطنية. وأحسست بيد حنونة تمتد وتمسك يدي من رجل بادر بالقول:"لقد شاهدت خطورة وضعك"، ثم قال:"أمشي بسرعة اتقاء شر دبابات أخرى". وعرفت هذا الرجل فقد كان أحد مسؤولي المظاهرة. توجهنا إلى شارع الأمين، ولكننا أبصرنا في العمق سيارة عسكرية. فانحرفنا يساراً باتجاه المتحف القديم. قال لي الرجل:"سننجو بعد أن ندخل أحد الأسواق". كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن سلامتي لصغر سني. ما أن اجتزنا المتحف القديم حتى شاهدنا مجموعة مسلحين قادمين من جهة الكرخ، عبر جسر الشهداء. أحسست بقبضة الرجل تشد على يدي بقوة، وهو يقول لي هامساً ولكن بصرامة:"أمشي بهدوء وكأنك لا ترى شيئا". كنت في الحقيقة مضطرباً، فقد كانت حياتنا في خطر من هؤلاء المسلحين. وكان هروبنا إلى أيّة جهة في تلك اللحظات يعني الموت المحقق. كانوا بضعة عشرات مسلحين برشاشات، أحسست بأن وجوههم كالحة حقيرة ورأيت بينهم فتيان في الثالثة أو الرابعة عشر من عمرهم ويحملون الرشاشات. ويبدو إني تماديت في النظر إليهم، الأمر الذي أغضب صاحبي، إذ أحسست بضغط شديد على يدي، وصوت صاحبي يخرج صارماً من بين أسنانه الصاكة على بعضها:"أنظر إلى الأمام فقط". فامتثلت للأمر وأحسست بخطورة تصرفي.
كان الشارع خالياً تماماً، وكنا الوحيدون الذين نسير في الشارع أمام المسلحين. لذا يبدو إن المسلحين قد شكوا في أمرنا، وما كدنا نجتازهم، ونحن نمثل اللامبالاة، حتى سمعنا من الخلف أحدهم يسأل جماعته:"من هؤلاء؟"، ثم أعقبه رد من أحد الفتيان:"إقتلوهم". صعد الدم إلى وجهينا، وارتبكنا، إذ كان من السهل قتلنا. لكن صاحبي كان رابط الجأش لحد ما، وضغط على يدي وحث السير، وتابعته في ذلك، وما أن اقتربنا من أحد الفروع لأسواق السجاد والبزازين، حتى سحبني صاحبي بقوة، وقال (أركض). ركضنا بأشد ما نتمكن داخل سوق السجاد، الذي كان يبدو مظلما بالنسبة لضياء الشارع. ما أن دخلنا السوق راكضين حتى سمعنا إطلاقات نارية متجهة لداخل السوق، لكننا إست مرينا نركض بجوار حائط السوق، اتقاء الرصاص الذي انهمر علينا، ولم يكن المسلحين يميزوننا بسبب ظلمة السوق بالنسبة لهم. إست مرينا بالركض حتى سوق دانيال – للأقمشة- وقتها أصبحنا في منعطف بعيد عن فتحة الشارع، وتوقفنا لاهثين من التعب والخوف، ونظرنا إلى فتحة الشارع لكن المسلحين لم يدخلوا إلى السوق. ثم تعانقنا وبارك كل منا الآخر حياتنا الجديدة. اجتزنا السوق إلى شارع النهر، حيث وجدنا تجمعات المواطنين الممتلئين غضبا على المتآمرين... بعضهم أخبرنا عن المعارك التي حصلت قرب وزارة الدفاع واندحار متآمرين بيد الجماهير العزلاء.
أثناء انغمارنا مع الناس افترقت عن صاحبي، وذهبت مع مجموعة من الناس باتجاه ساحة حافظ القاضي. كنا، أثناء ذلك، نسمع القصف على وزارة الدفاع من طائرة، عرفنا فيما بعد، إن قائدها كان المجرم منذر الونداوي. عند ساحة حافظ القاضي والشوارع المؤدية إليه كان هناك ألوف من المواطنين موحدي الإرادة والحناجر، يهتفون للشعب العراقي وضد المؤامرة والمتآمرين، فكان غليان الجماهير بشبه ذلك الذي وجدناه عند ساحة التحرير. بعد فترة وصلتنا مجموعة شبيبة يحملون – زنابيل – مليئة بالمنشورات صادرة من الحزب الشيوعي العراقي، تفضح المنشورات المؤامرة وتوضح إن شركات النفط الاحتكارية قد خططت لها، وتدعو المنشورات للتصدي بكل الأشكال لهذه المؤامرة، وإنهاء كل الجيوب المتآمرة العميلة، كما تشيد المنشورات بالشعب العراقي البطل وتدعوه للتضحية من أجل مكتسباته. نادي علي بعض ممن أعرفهم لكي أشارك في توزيع المنشورات، فكنا نوزع المنشورات التي كانت الجماهير تتلقفها بروح عالية. أتذكر بأننا وزعنا منشورين مختلفين يؤكدان نفس المضامين وحسب الظروف المستجدة خلال ذلك اليوم، وصل المنشور الثاني خلال فترة حوالي الساعتين من وصول الأول. عرفنا فيما بعد إن الرفيق الخالد سلام عادل كتبهما مع بعض من رفاقه الخالدين، بتلك السرعة ستجابه للمسؤولية الوطنية بظروف تلك المحنة العصيبة. كانت أول تجربة توزيع علنية واسعة أقوم بها، وأتحاور مع الجماهير باسم الحزب الشيوعي. لقد لمست تجاوبا رائعا مباشرا من المواطنين، ولا أنسى رجلا كهلا أخذ مني المنشور وطبع عليه قبله وهو يبكي، وقال لي:"عمي ألله يخليكم، سووا فد شي بسرعة". وطمأنته في القضاء على المؤامرة.
تابعنا سيرنا لتوزيع المنشورات وكنا نجد الجماهير لا تنقطع عن هتافاتها ومساندتها للجمهورية والقضاء على المؤامرة، وكانت هذه الجماهير تتسلم المنشورات بفرح وتعبر عن تضامنها مع الحزب الشيوعي. خلال مسيرنا شاهدنا مواطنين يوقفون بعض من المتعاونين مع المتآمرين... يحاوروهم وطنيا ويبينون لهم إنهم مطايا لصالح الاستعمار وضد الشعب العراقي، ولا يجد مساندو المتآمرين ما يردون به، فبدوا تافهين بعيدين عن الشعور الوطني. كانت هناك وحدات ثورية وتثقيف شعبي وطني يقوم بها مواطنون بأماكن عديدة، ارتفعوا بجدارة لمستوى المسؤولية الوطنية العالية، يفكرون بمصير الناس والبلاد ويدينون المؤامرة والمتآمرين والجهات الاستعمارية. وصلنا بعدها إلى منطقة"حي الأكراد"، وجدنا هناك عنفوان الجماهير الوطنية شديدا ضد المؤامرة والرجعية. كان هناك نشاط مثابر، كل يقوم بعمل توجب عليه القيام به... اجتماعات ونقاشات خاصة لكنها في الشارع. قامت مجموعتنا بتوزيع منشورات الحزب على الجماهير الذين تلقفوها بلهفة، ثم انغمرنا بينهم ومع نشاطاتهم. كنت ألحظ نشاط متميز لشاب كان عندما يتواجد يتجمع حوله عدد من الناس، يبدون مهمين، لتجري النقاشات بينهم، وتبدي الجماهير الأخرى اهتماما لهذا التجمع تنتظر ما يسفر عنه... فجأة يركب الشاب دراجته الهوائية ويذهب إلى مكان ما، وعندما يعود يحصل حوله التجمع. كان هذا الشاب يتكلم وكل جسمه يتحرك، إحدى المرات التي عاد فيها بقي جالسا على دراجته.. غاضبا بشدة، وسمعته يقول بصوت مسموع"ماكو سلاح"وكرر كلامه حانقا. فيما بعد قيل لي إنه الرفيق محمد العبلي، شهيد الحزب والشعب.
خلال المباحثات تقرر أن يتم أخذ السلاح من مركز شرطة باب الشيخ، الكائن في نهاية حي الأكراد. ذهبنا مجموعة كبيرة للمركز لكن الشرطة أغلقت الباب، وذهب وفد منا لداخل مركز الشرطة، حيث أظهر مسؤولو الشرطة تعاطفا معنا وتمسكا بالجمهورية والزعيم، وإنهم ضد الانقلاب، لكنهم اعتذروا عن إعطاء أي سلاح، لأن المسؤولية، كما قالوا، تقضي بعدم ذلك، لكنهم وعدوا بأن يقاوموا الانقلابيين.