مريم مشتاوي ومنجم الحزن الكثيف

مريم مشتاوي ومنجم الحزن الكثيف

عدنان حسين أحمد
صدرت عن "منشورات لندن العربية" مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان "حين تبكي مريم" للشاعرة البريطانية-اللبنانية مريم مشتاوي. وقد ضمّت هذه المجموعة 42 قصيدة تتوزع ثيماتها بين المنحيين الذاتي والموضوعي. اتسمت غالبية القصائد بسِمات النص الشعري الناجح لجهة اللغة المكثفة، والبناء الرصين المغلق، والصورة الشعرية المُشذبة، والنهاية التنويرية التي تعْلق في ذهن القارئ.

قبل الولوج إلى الخصائص الأربع المُشار إليها سلفًا لابد من التنويه إلى صدق التجارب الشخصية التي عاشتها مشتاوي وكتبت عنها بأمانه مفرطة تُغبَط عليها، فالصدق بشقّيه الواقعي والفني هو الذي يمنح النص أصالته، وفرادته، ونبضه الخاص الذي ينتمي إلى خالق النص ومبدعه من دون أن تجد شذرات الثيمة وتشظياتها في نصوص شعرية سابقة، بل يمكن القول بكثير من الاطمئنان أن بعض هذه الثيمات الذاتية هي ماركة مسجّلة باسم مريم مشتاوي لجهة خصوصيتها، وطريقة معالجتها المرهفة من الناحية الفنية بلغة شعرية رشيقة خالية من الترهل والتورمات اللفظية الطنّانة التي تُثقل كاهل الصورة الشعرية وتُربك آلية التلقّي عند القارئ العضوي الذي يتفاعل مع النص وينغمس في سوْرته الإبداعية.
إنّ مهمة الشاعر هي إثارة الأسئلة، لا تقديم الإجابات فلاغرابة أن تحتفي هذه القصائد بأسئلة استفهامية كثيرة قد لا تساعد الشاعرة على فضّ الغموض، والخلاص من الحيرة، لكنها تحضُّ على التفكير، وتنشِّط المخيّلة البشرية في أقل تقدير.
يتكرّر سؤال الرحيل غير مرّة في قصائد هذه المجموعة، وهو من دون شك سؤال وجودي قد لا نجد له جوابا مُقنعا لأننا نعرف سلفا أن سبب رحيل الابن، وهو في عمر الزهور، يعود لإصابته بمرض فتّاك لا تنفع معه، إلاّ في حالات نادرة، كل وسائل الدفاع الطبية المألوفة، ومع ذلك ينبثق السؤال من فم الراوية مُستفهِما: "لِمَ رحلت. . . لِمَ؟" وكأنه غصّة أبدية لا تفارق الحنجرة المُختنقة على الدوام.
لابد لفراقٍ مُفجعٍ من هذا النوع أن يُفضي إلى العُزلة والتوحّد، ومتلازمة القلب المنكسر، ولابد للطريق التي تقطعها الراوية أن تكون طويلة وصامتة وكأنها تُدرِّب القارئ على الصمت المهيب الذي يتماشى مع فكرة الرحيل المبكِّر لطفل ملائكي المعالم نلمحه، كلما أغمضنا أعيننا، وهو يعوم ويلهو في فردوس سماوية زرقاء.
تزدان غالبية هذه القصائد ببنية معمارية رصينة بحيث تبدو القصيدة وكأنها وحدة متماسكة تشدّ بعضها بعضا ولعل القصائد القصار الأقرب إلى شكل الهايكو هي خير نموذج لما نذهب إليه في الرصانة والتماسك كما هو الحال في قصائد "حُب"، "ذاكرة"، "بكاء"و "شيء ما". تقول الراوية في قصيدة "ذاكرة": "سأضرمُ النار بذاكرتي / ما عدتُ أريدها / ولكني / سأراقب الرماد المتطاير من بعيد". هذه القصيدة وغيرها من قصائد الهايكو التي أشرنا إليها تواً تعوِّل على ثيمة مهمة، خاطفة، تُسرَد بشكل برقي، لكن نهايتها، في الأعمّ الأغلب، تستقر في الذاكرة بسبب ومضتها أو نهايتها التنويرية المُدهِشة على الرغم مما تنطوي عليه من ألم ممضّ.
يجترح الشاعر الذي يعرف لغة أجنبية أو أكثر صورا شعرية جديدة قد لا نجد لها مثيلاً في شِعرنا العربي ومردّ ذلك يعود إلى غنى الآداب العالمية بصورٍ ومعطيات غير مألوفة للمتلقي العربي . ومريم مشتاوي تتقن اللغة الإنكليزية، إضافة إلى تخصصها الدقيق في اللغة العربية، الأمر الذي يمنحها مرونة التعبير ومطواعيته الناجمة عن تلاقح لغتين عالميتين أو أكثر .
يبلغ الوجع الإنساني ذروته في باقة من القصائد الذاتية مثل "عيد الأم" الذي يُوقِظ في داخلها كل أشكال الألم فلاغرابة أن تطلب الراوية المستحيل حينما تقول: "إمّا أن تعود أو أن يكفّ العيد عن المجيء. ." وكلنا يعرف بتعذّر عودة الراحل، واستحالة توقف الأعياد التي تُترى على مدار السنة.
تأخذ مشتاوي بتلابيب القارئ في بعض قصائدها المؤثرة التي تحاور فيها الأشياء الصغيرة للمَلاك الراحل مثل ملابسه، وأحذيته، ولُعَبه المفضّلة. وقد نجحت في ترميزها تارة، وأنسنتها تارة أخرى كما في قصيدتي "ليلة الذكريات الشتوية" و "الحذاء الصغير" حيث لعبت بطريقة فنية على لون قميصه "الأزرق الصيفي" الذي اشترته من "سوق العصافير" فاستحال إلى "أحمرَ" عند الغروب، ثم انقلب في خاتمة المطاف إلى اللون الأبيض الذي يُكفِّن الطفل الراحل في أبديته.
أما قصيدة "الحذاء الصغير" فهي مشحونة بالعاطفة الإنسانية التي تفيض على القارئ وتضطرهُ لأن يحلّ محلّ الأم المفجوعة التي تعانق حذاء صغيرها في مفتتح النص وتترك الحذاء يعانقها في الخاتمة وكأنه كائن بشري مُفعم بالشوق والحنين وهو يحتضن أمهُ الملتاعة على فراقه الطويل. إنّ هذه القصيدة على وجه التحديد هي قصيدة مغلقة لا تحتمل الحذف أو الإضافة لأنها مكتفية بذاتها ومشبّعة بألم الفراق الممضّ. وهي تشبه إلى حدٍ كبير قصيدة "كيف سأحتمل مجيء العيد؟" التي تقول فيها: "سأصرخُ بوجهِ كل لعبةٍ جديدة / وكل واجهة مزيّنة / سأصفعُ كل شجرةٍ تقف أمامي / وأقتلعُ الأجراس / وأحرقُ نفسي وسط الساحات الكبيرة". ولا غرابة أن تُنهي الراوية المفجوعة نصها نهاية مؤسية مريرة تُكمل فيها دائرة القصيدة الحزينة بسؤال تعجبي إنكاري يتفجّر ألمًا وانفعالا: " كيف تركتني / أُقطِّع ثياب الأعياد القادمة؟".
تصلح قصيدة "حورية" أن تكون نموذجا للنص الشعري السلس، المنساب بعفوية كبيرة تآزرت فيه اللغة الصافية، مع الصورة الشعرية المرهفة، والنهاية التنويرية الذكية التي تنفتح على كل أشكال الدهشة التي فجرّتها الشاعرة في خاتمة هذه القصيدة الماكرة التي يمكن أن تتناغم مع عدّة ضمائر مُخاطَبة في آن معا. "وها أنذا حورية متعددة الألوان / تداعب شعابكَ المرجانية" .
تستلف الشاعرة مريم مشتاوي في قصيدة "المقهى البحري" أصداءَ من ملحمة كلكامش لكنها تتفادى التناصّ مع أي حدث معروف. وإذا كان كلكامش قد دخل المقهى وتجاذب أطراف الحديث مع سيدوري فإن راويتنا المعاصرة قد اختارت أن تجلس مع القدر أمام المقهى وتضع أمامهما كوبا من نحاس يرمي لهما الماروّن نقودا معدنية "تصدحُ رنّتها داخل الكوب" لتثير خيالنا السمعي قبل أن تستفز مخيلتنا البصرية وكأنها تريد أن تستحوذ على معظم حواس المتلقّين أو أكثرها أهمية على أقل تقدير.
ثمة إحالات تاريخية ودينية وحضارية وردت في متون عدد من القصائد مثل "رحلة المجوس"، "والطبل الكبير بالاق"، "بُوابة عشتار" وغيرها من المُخصِّبات النصيّة التي تمدّ القصائد الجديدة بطاقة إيجابية قد تنقلها إلى فضاء إبداعي مُغاير تماما لكن استثمار الأساطير القديمة وتوظيفها في النصوص الجديدة يحتاج إلى خبرات فنية تفعّل القوّة الكامنة في النسغ الأسطوري بحيث تصبح مادته جزءا من لُحمة النص وسداته وليست جسماً طارئاً أو فائضاً عن الحاجة، تماما كما فعلت مشتاوي في قصيدة "المَعبد" التي كشفت عن طول رحلة المجوس ومشقّتها من خلال الراوية التي تخشى أن تخونها قدماها.
حري بنا أن نشير في خاتمة المطاف إلى أن مريم مشتاوي شاعرة متمكنة من أدواتها الشعرية التي لا تكتمل من دون القراءات المعمقة المتواصلة، والتجارب الحياتية المتراكمة، والإفادة من الأجناس الأدبية الأخرى، والانفتاح على عناصر الطبيعة التي تمثل معيناً لا ينضب لصورها الشعرية الرقراقة كالماء الزلال.