هل نحن حقاً بحاجة الى إضافة أخرى لصناعة بورخس؟

هل نحن حقاً بحاجة الى إضافة أخرى لصناعة بورخس؟

ترجمة: عباس المفرجي
أي خوف من أن صناعة بورخس المنشورة بعد وفاته كانت دخلت مرحلة الإنكماش ووريت التراب. كتابه الأخير،"بروفيسور بورخس: دورة عن الأدب الانكليزي"، يجمع ما يعادل فصلا دراسيا من المحاضرات، التي قدّمها الأستاذ الأرجنتيني في عام 1966 في جامعة بوينس آيرس. كانت المحاضرات مسجّلة على أشرطة صوتية من قبل الطلاب ونُقِلت كتابةً فيما بعد – لا بحافز،

كما يشرح محررا الكتاب، من حسّ التبجيل بل ببساطة كي يمكن للطلاب الآخرين من دراسة المادة. على نحو ملائم (لأننا نتعامل هنا مع كتاب حائز على تقدير خاص من الكتب المفقودة ومخالف للتقاليد)، إختفت التسجيلات نفسها. كما ورد في المقدمة، ((من المحتمل أنها استخدمت ليُسجَل عليها محاضرات صفوف أخرى، في مواضيع أخرى.))
"بروفيسور بورخس"هو إذن نقل عن نسخة مسجلة صوتيا لسلسلة من محاضرات مرتجلة كما هو واضح، ويجب على هذا الأساس، لسوء الحظ، أن تُقرأ. ((الآن، بالطريقة ذاتها التي رأينا بها كيف ان جونسون يشابه دون كيخوته، علينا التفكير أنه بنفس الطريقة التي يكون بها سانشو مرافق كيخوته معامَلا بشكل سيئ، نرى إذن كيف هي علاقة بوزوالد مع دكتور جونسون.)) الجملة تمثّل الإسراف اللفظي في الكتاب. مسلّمين بذلك، حين نتوصل في النهاية الى فهم ما يقال (أن بوزوالد بالنسبة لجونسون هو كما سانشو بانزا بالنسبة لدون كيخوته؛ أن الأبطال بحاجة الى أشياء تُظهِر بالمغايرة حُسْنَ أشياء أخرى)، تبدو المسألة مضبوطة تماما. لكن ألا يجب أن يقوم البروفيسور نفسه بالإيضاح؟
النثر الجيد هو ليس كل شيء، بالطبع. في"الأخلاقيات الخرافية للقارئ"، مقال هرطقي على نحو مميز من سنوات الثلاثينات، رفع فيه بورخس قضية ضد عبادة فلوبير والإنطباعة الشخصية ("هذا الغرور حول الإسلوب") بأن ((الصفحة المتقنة)) هي الصفحة ((التي لا يمكن فيها لأي كلمة ان تكون مُبَدَّلة من دون ضرر)). يجادل بورخس قائلا، على العكس، أن ((الصفحة التي تصبح خالدة يمكن أن تجتاز نيرانا من الأخطاء المطبعية تقارب الترجمات، ومن القراءات الغافلة أو الخاطئة، من دون أن تفقد روحها في السياق)).
"بروفيسور بورخس"يوحي بلا شك بإستمرارية تامة لأفكاره عن المسألة. في هذه الصفحات، الحبكة والشخصية، ’’ روح ‘‘ الكتب محل المناقشة، تأخذان أسبقية واضحة على التفرّد النصّي. ’’ الصفوف ‘‘ السبعة الأولى مكرّسة للأدب الانكلو- ساكسوني، وبينما نحصل على كتاب تمهيدي عن تعابير ’’ الكننغ ‘‘ [ تعبير مركّب في شعر الانكليزية القديمة والنرويجية القديمة بمعاني مجازية ] والقصائد الجناسية الاستهلالية [ تكرار حرف أو اكثر في مستهلّ لفظتين متجاورتين ]، يقضي بورخس معظم الوقت ليروي لنا ببساطة عن ماذا يحدث في"بيولف"،"معركة والدن"،"فينسبرغ فراغمنت"[ قصائد بطولية من الشعر الانكليزي القديم ]، وهلم جرّا. نافرا من التقييم اللغوي، نادرا ما يرتفع تحليل المدرّس فوق مستوى التعجب الحماسي. ((لكن هذه القصيدة كانت مكتوبة بحِدَّة كبيرة جدا بحيث تُعَّد واحدة من أعظم القصائد في الشعر الانكليزي.)) ((وهذه هي، بلا ريب، مذهلة.)) مهما كان تأثير مباشرية مثل هذه على الشخص (وعلينا أن نتذكّر أن بورخس كان يخاطب صفا من طلاب لم يتخرّجوا بعد ولم تكن لغتهم الأولى هي الانكليزية)، فهي في شكل طباعي ليست مثيرة.
وهكذا نتدحرج عبْر القرون. العصر الاوغسطي تاق الى ((الوضوح، البلاغة، وتعابير التسويغ المنطقي)). الرومانتيكية كانت تتميّز ((بإحساسها الحاد المشجي بالزمن)). الفكتوريون عاشوا في عصر ((من المناظرات والمناقشات)). كي نكون واضحين، كان بورخس بلا شك روحا ملهمة، وهذا المرجل التاريخي الأدبي له وظيفته التي هي نوع من المسح الدراسي في المحاضرات التي يدرّس بها. السؤال هو ما اذا كان فصله الدراسي يحتاج حقا الى أن يتحوّل الى كتاب.
في"مكتبة بابل"، يتخيّل بورخس كونا فسيحا بسعة شبكة من قاعات قراءة مربوطة مع بعض، رفوفها تحوي كل كتاب ممكن. كل مجلّد، كما يروي لنا، ((هو فريد، لا يُستبدَل، لكن (بما أن المكتبة شاملة)هناك دائما عدة مئات الألوف من نسخ طبق الأصل: إعمال تختلف فقط في حرف أو فارزة)). نصّ"بروفيسور بورخس"، الذي إعتمد على قراءتنا له في الغالب، يُقرأ مثل نسخة طبق الأصل غير كاملة – أو حقا، مثل مسوَّدة أولى من كتاب فائق. بطريقة ما، هذا ما هو عليه. الكثير من المادة التي يغطيها كان أعيد العمل عليه في محاضرات ’’ تشارلز اليوت نورتن لكتشرز ‘‘ [ قسم في جامعة هارفارد يلقى فيه سنويا بروفيسورا متميزا محاضرات ] التي ألقاها بورخس في هارفارد في عامي 1967 و1968، والتي كانت جُمِعت فيما بعد في كتاب"براعة القصيدة هذه". هناك أيضا تداخل ذو مغزى مع العديد من المقالات التي تؤلف كتاب"المكتبة الشاملة". أي شخص مهتم بالكتابات النقدية (أو لنقل، أي شخص مهتم بالأدب) عليه أن يبدأ مع هذه الكتب النيّرة العميقة.
((أنا أعتبر نفسي في الأساس قارئا،)) يقول بورخس في"براعة القصيدة هذه". ((كما أنتم مدركين، أنا غامرت في الكتابة؛ لكني أعتقد بان ما قرأته هو أكثر أهمية مما كتبته.)) صادرا عن كاتب ذي سمعة تاريخية عالمية، هذا يقينا جميل، و، حتى لو لم تعوّض عن لخبطة"بروفيسر بورخس، مستجيبية المؤلف غير الواهنة ترسلك على الأقل عائدا الى آثاره بشهية جديدة. ((السلك الذي يَنْظم كل هذه الصفوف،)) يكتب المحرران، على نحو توّاق ربما، ((هو المتعة الأدبية، والحب الذي يتعامل به بورخس مع كل هذه الأعمال، ونيته الواضحة في تعميم حماسه لكل مؤلف وكل فترة محل الدراسة.))
ذلك يبدو صحيحا تماما؛ ومع هذا لرؤية بورخس كجالب حظ لحياة الكتبيين هي لا في رؤيته بخط مستقيم ولا برمته. لم يكن بورخس سوى ديالكتيكي، وتجدر الإشارة الى أن أعماله، خاصة الروائية، تُظهِر في الغالب رعبا تاما من الكتب. في"مكتبة بابل"، الكثير من الذين حُكِمَ عليهم بالقراءة مدى الحياة، يختارون الإنتحار: ((اليقين بأن كل شيء كان مكتوبا يبطلنا أو يحوّلنا الى سراب.)) قصة شهيرة أخرى،"مخطوطة الرب"، تقلب السيناريو رأسا على عقب. بدلا من مكتبة شاملة مترعة بكتب أغلبها بلا معنى، ثمة ’’ جملة سحرية ‘‘ وحيدة، مكتوبة من قبل الرب في اليوم الأول للخلق. قراءتها تعني تسلّم قوة وإدراك سماويين، لكن كما يتعلّم راوي القصة (كاهن من المايا أُخِذَ أسيرا من قبل الفاتحين الاسبان)، هذه المعرفة تستلزم أيضا محو الذات: ((كلّ مَن رأى الكون، كلّ مَن لاحظ المقاصد المضطرمة للكون، لا يستطيع التفكير بلغة إنسان واحد، بذلك السعد او سوء الطالع لإنسان، رغم انه يكون ذلك الإنسان نفسه.))
أو ثانيةً، هناك القصة القديمة المتوعّدة"الانجيل وفقا لماركوس"، التي يجبر فيها فيضان مفاجئ طالب طب شاب على قضاء عدة أيام مع أسرة فلاحية جاهلة وأميّة. لتمضية الوقت، يقرأ الطالب لمضيفيه من واحد من الكتب القليلة في المنزل،"الإنجيل". العائلة متحدرة من مهاجرين اسكتلنديين لكن، بعد أجيال من التزاوج مع الهنود، يفقدون إيمانهم الكالفيني الذي كان لأجدادهم. برغم ذلك، قصة تضحية المسيح تحوّلهم. يمتحنون الطالب في مسائل اللاهوت. ((واولئك الذين دقّوا المسامير هل سيُنقَذون أيضا؟)) الأب يسأل، والطالب، الذي هو نفسه ملحد لكنه يشعر أن من واجبه أن يدافع عن ما قرأه لهم، يجيب بنعم. فقط في الصفحة الأخيرة ندرك الى أين يسير الأمر كله. في أحد الأماسي، إذ بدا أن الماء على وشك الإنحسار، تحيط الأسرة بالضيف، ويقودوه الى الخارج حيث شيّدوا صليبا. بورخس، مدّاح القراءة، عَرفَ أنه كان من المستحيل طلب، أو صنع، أكثر مما يلزم من الكتب.
أمّا بالنسبة الى كتاب"بروفيسور بورخس"، فالناس الوحيدون الذين سيصنعون أكثر مما يلزم منه هم بروفيسورون قلّة. دعهم يستمتعون بذلك. كان بورخس مولع بالفكرة التي تقول أن العجز عن النسيان يجعل الحياة لا تطاق وبلا معنى. ثمة العديد جدا من الأشياء التي نستطيع الإستغناء عنها."بروفيسور بورخس"هو واحد منها.