دينامية  الراوي الفاعل  في تمفصلات الرؤية السردية

دينامية الراوي الفاعل في تمفصلات الرؤية السردية

إياد خضير
السارد مهدي على ازبين قدم نصاً سردياً في منجزه (هياكل خط الزوال) خارج إطار التجنيس النوعي فنصّه السردي لم يتموضع ضمن القصة القصيرة أو الرواية كجنس أدبي ينتمي إلى نوع أدبي ألا وهو فن النثر الإبداعي، هنا ينبثق وعي الكاتب ليستهدف القارئ الواعي ويجعله عنصر فاعل في امتصاص النص والتفاعل معه

هذا التعويم التجنيسي يجعل أمام القارئ المنتج أفق إيحائي تساؤلي عن قصدية الكاتب في هذا التعويم وهنا يبدأ النص بمغنطة وعي القارئ وجذبه للولوج في تفاصيل النص السردي هذه التساؤلية تفاجئ القارئ حينما يجد أن الذات السردية الفاعلة هي حيوان يستنطقه الكاتب وتتموضع فيه زوايا نظر متعددة ومستويات متنوعة للحكي إنّ الذات السردية الفاعلة تتجلى وتتماهى ليكون منطلق السرد وزوايا النظر من خلال تداخل الراوي بما يعرف بـ (العاكس) الذي هو الكلب والذي يحمل طاقة سيميائية متعددة المستويات الدلالية من خلال إحالات الدال بتداولية عالية إلى عناصر ارتباط دلالية يحملها الوجود الكنائي لهذا الحيوان من حيث النوع والترميز الإشاري الذي يحمله في المخيال الجمعي الإنساني كرمز للوفاء،وأيضاً جعل الكاتب من (العاكس) الذي تداخل معه الراوي في نصه السردي بؤرة دوامية ترتبط معه الشخصيات الأخرى بأواصر تناغمية أو تتقاطع معه بعض الذوات، إنّ الوظيفة الفاعلة التي أدّاها (العاكس) الكلب الراوي كوجود مركزي كونه كان العنصر الفاعل الذي يشد النسيج الحكائي وبذات الوقت هو ينفصل كثيراً عن الراوي و الذي هو من خلال وظيفته التحفيزية ضمن النص السردي تروى الأحداث وتقدم المعلومات: ((ويعني هنا نقل الصور نقلاً (فوتوغرافياً) محايداً، ومع ذلك فإنه قد يختلف عن (الراوي)، فقد يكون (العاكس) حيواناً أو جماداً، فتولستوي يعرض أحداث إحدى قصصه من خلال نفسية حصان، وتشيكوف يتحدث عن وعي كلبه عاكساً عالمها الخيالي...))* (1):
(يأخذون أمي وإخواني الصغار. أهرب ُ يتبعني الصبية والأطفال يطاردونني، يرجمونني، يحاصرونني، وأنا أعوي، أتوسّل. ألجُ بيتاً لأناسٍ لا أعرفهم... يصدّهم صبيٌّ من أهل الدار وأنا أتأوه من ضربات عصي الصبية وحجارتهم... تظهر فتاة متجهمة تستفهم عن سبب الجلبة عند الباب، فيتصايحون: - نريد الكلب، كلبنا) ص 7
لقد كانَ الراوي العاكس في هياكل خط الزوال هو (الراوي العليم) الذي من خلاله نعرف كل تفاصيل الشخصيات وصراعاتها وتقديم الأحداث وتداعياتها ويكون الراوي هو بؤرة ترتبط بها كل البنى النسيجية للعمل السردي وهو ما يعرف بالعمل السردي ذي البطل الإشكالي فكون الراوي للأحداث والمشرح لفعل الشخصيات هو حيوان وهو ما يعرف بالسرد الذاتي الذي يكون فيه الراوي"الراوي العاكس العليم"لا يقدم الأحداث إلا من زاوية نظره ويكون عارفاً بكل تفاصيل الشخصيات ويقدم تأويلات للقارئ يجعله يتفاعل معها بزاوية النظر (الرؤية من الخلف) والتي يكون الراوي محيطاً بكل رغبات الشخصيات وشارحاً لكل عناصر المكان الحكائي لكن الراوي العليم في هياكل خط الزوال هو بذات الوقت كيان موجود من ضمن العمل وشخصية فاعلة فيه (الأنا المشارك) وهو ما يعرف بالمتكلم في داخل الحكي (فهو إذاً راوٍ ممثل داخل السرد وهذا التمثيل له مستويات فيكون الراوي إما مجرد شاهد متتبع لمسار الحكي، يتنقل أيضاً عبر الأمكنة أو يكون شخصية رئيسية في القصة)* (2):
(تنظرُ في عيني تتفحصني. تشاور أخاها: - مسكين ما ذنبه يعامل هكذا...) ص8

(هدوء المدينة يتهرّأ في صبيحة أحد الأيام، تجفل سيدتي الصغيرة، وهي تعد الإفطار، يندلق الزيت الحار على كاحلها تفقد الوعي تستغيث الأم بالجيران. أنبح مستنجداً...) ص13
إنّ وجهة النظر أو زاوية الرؤية (التبئير) من خلال الصيغة والصوت والتي قدمت بصيغة (بانورامية) وهي التي يقدم فيها الراوي كل المعلومات للقارئ ويكون صاحب معرفة مطلقة والتي يرى القارئ من خلال عينيه الشخصيات وتفاصيل الأحداث لأنه جزء مفصلي ومحوري في العمل السردي وهو فاعل في النص السردي وبصيغة أخرى يكون الذات الثانية للكاتب في بعض الأحيان، إنما يقدمه الراوي الفاعل في التقديم البانورامي من حيث الصيغة هي زوايا وصف الأمكنة والمشاهد بمعنى من يرى ويسجل لنا الأحداث ويصف الأبعاد المكانية من خلال تبئيرات متعددة:
(نصل مشارف الواحة، الليل والصمت يلفانها، لا يقطعها سوى نباح الكلاب.. النخيل يرتفع بقاماته السامقة كحرّاس سود، فروعها أشدّ قتامة، تحجب النجوم المتلألئة في ليلة ربيعية صافية. الكلاب ترصدنا، فتبدأ معزوفة النباح المتواصل، تفترش الابنة الأرض تنطق البراءة بلسان التعب:
- ستفضحنا الكلاب يا أمي
- قوّي عزيمتك.. لم نقصد الشر.. هو الذي قصدنا. هل كانت لنا رغبة فيه؟)ص49
أمّا على مستوى المرتهن السردي الثاني ألا وهو(الصوت) والذي يكون فيه (المُبَئِّر) يتكلم عنه وعن زوايا جوانية من خلال التبئير الداخلي ليحكي بضمير المتكلم عنه وعن الشخصيات الأخرى ويقدم لواعجها ونزعاتها ونحن نجد في التبئير الداخلي الأنا المشارك يقدم لنا تفاصيل الأحداث أو مشاعره وما يحدث له من خلال سردها بانورامياً للمتلقي فمنه نعرف كل التفاصيل وغالباً ما يكون التبئير الداخلي في صيغة الصوت هو تشريح لأفعال الأنا المشارك والأنات المحيطة به :
(الآلام تتصايح في نصفي العلوي ونصفي السفلي متيبس لا أشعر به, أسحل بقاياي، ألملم أشلائي، أتحسّس الاتجاهات بيدي بحثاً عن جثة سيدي.. أجدها مستقرة في الحفرة واليدان مدفونتان... / الأسئلة تعصف برأسي، والصفير يتزايد.. أشعر بالبرد وجسدي يرتجف. ألتصق بسيدي... ) ص 79
إن وجهة النظر في هياكل خط الزوال متعددة لكن نجد في الترهين السردي (الصيغة) أنها تنقسم إلى المنظور والمسافة أو ما يعرف بالاتساع والعمق ففي المنظور نجد زاوية الرؤية التي تصف وتحدد الموجودات وتصف الأحداث والأمكنة أما في العمق فهو الغوص إلى أعماق الموجودات أو الشخصيات وتشريح مشاعرها ونقل أحاسيسها وهذه الصيغتين نجدها جلية في النص السردي من خلال الراوي المبئر والعليم والذي من خلاله يقدم لنا الأحداث ويصف الأمكنة وأفعال الشخصيات:
(تنسحبُ سيدتي إلى الباحة، تحدق في الباب الخارجي محتدمة الملامح، مشوشة التفكير تجلس في الظلام جاحظة العينين.. واجمة.. يبكي الصغير لا تبدو منها حركة، هل هي نائمة وعيناها مفتوحتان؟) ص 53
(رأسي لا أحس بما حولي، كأنني في علبة معبّأة بالسواد، يطبق غثيان على أضلعي، رأسي يترنح.. في سكون الليل قنينة فارغة ترمى من خلف السياج، تستقر في الحديقة، أركض نحوها أتفحصها.. مصفّحة لا غطاء عليها، رائحتها نفّاذة، أمسك بعنق الزجاجة أرفعها إلى الأعلى، فيندلق ما تبقى منها في جوفي...) ص 82
لقد كانت من خلال ما تقدّم الرؤية السردية في (هياكل خطّ الزوال) للسارد مهدي علي ازبين، تبرز فاعلية اختيار وجهة النظر أو زاوية الرؤية في تقنية (الرؤية من الخلف) التي يقدمها لنا الراوي العليم بصورة بانورامية وهو الراوي العاكس الفاعل وفي هذه الصيغة يكون في هذا العمل الراوي هو أنا مشارك في العمل ومن خلاله نتعرف على الشخصيات وأفعالها ونوازعها وصراعاتها ومشاعرها الخبيئة كما هو يقدم لنا كل تفاصيل التبئير الخارجي في الصيغة التي تصف الأمكنة والأحداث أو من حيث التبئير الداخلي الذي يغوص في أعماق الشخصيات فيشرح مشاعرها ويفصح عن أحاسيسها، ففي هذه التقنية يرى المتلقي عوالم العمل السردي من خلال هذا الراوي العليم وبضمير المتكلم من خلال مستوى الرؤية السردية التعبيري والسيكولوجي الذي ينقل لنا تحولات الفعل وانتقالات الحدث في منظور متعدد الزوايا، ليكون الأنا المشارك هو ذات الكاتب الثانية الضمنية في النص، لهذا جسدت هياكل (خط الزوال) أهمية زوايا النظر واعتماد السارد على نوع منها ليشكل عوالم متنه السردي من خلال اِعتماد ما يعرف بصيغة (الراوي < الشخصية (الرؤية من الخلف): حيث يعرف الراوي أكثر من الشخصيات)* (3) وهكذا كان الراوي العاكس في هياكل خط الزوال عنصراً فاعلاً في تمفصلات الرؤية السردية.

1- الراوي والمنظور في السرد الروائي دراسة نقدية للكاتب مصطفى جزائري
2- الدكتور حميد الحمداني بنية النص السردي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت
3- سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الطبعة الرابعة، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء