الحنين إلى أريحا.. حكايات ومشاهد

الحنين إلى أريحا.. حكايات ومشاهد

فيصل خرتش
يسرد كتاب «الحنين إلى أريحا..استعادة لتجربة حياتية وسياسية»، لمؤلفه غطاس أبو عيطة، حكاية المؤلف وما عايشه، منذ دخوله إلى مدينة أريحا، على متن حافلة قديمة، وكان ذلك في عام 1968، تاريخ تسلمه لعمله الأول. ويشرح انه منذ اليوم الأول، لفتت انتباهه قلة عدد الطالبات في الصفوف وتميزهن.

ويوضح أبو عيطة أنه ما إنْ تدخل المدينة، حتى تطالعك تلك الخضرة العجيبة، فعلى مدخلها شجرات عملاقة، وتحت تلك الشجرات استراحات صغيرة، وأمام الساحة التي تشكل مدخل المدينة، يستقبلك جامع الشيخ صالح عبده. وهذه الساحة الصغيرة تدخلك إلى شوارع هي أقرب إلى الخمائل الكثيفة الأشجار، ففي ناحية الغرب تتجه إلى شارع العشاق، وإلى الشمال تتجه نحو شارع المتنزهات..وكذلك نحو شارع «عين السلطان»، وهي: الخديوي، قصر هشام..وإلى الشرق تتلقفك الخضرة الزاهية لتقودك نحو النهر..حيث غابات النخيل والحمضيات، ومع مرور الأيام تتعرف على أنواع من الثمار التي تمنحها تلك المدينة للإنسان، وهي أنواع تتدرج من ثمار منطقة المتوسط كالحمضيات والزيتون والتوت والإكيدينا، والعنب والتين وأنواع الخضار، إلى ثمار المناطق الموسمية والاستوائية، مروراً بالمناطق المدارية وواحات الصحارى، حيث الموز الريحاوي.. والقشطة، والبلح بأنواعه.
يشير المؤلف الى أن خصب هذه المدينة، وجاذبية مناخها، وما اختزنته من ثروات، أمور حفزت أبناء المدن الأخرى للهجرة إليها والاستقرار فيها، وإقامة المنازل والقصور والمزارع فيها، وغالبيتهم من أبناء القدس، ومن أبناء الخليل والعيزرية وأبو ديس وغيرها. وحافظ أبناء أريحا على زيّهم التقليدي، وخاصة بالنسبة لكبار السن، فارتدى الرجال القمباز والحطة والعقال..
بينما ارتدت النساء الثوب الأسود، الذي ينسدل على الجسم بطول أربعة أمتار يجري طيها عند الخصر الذي يلفّه زنار قماشي عريض، فيتحول إلى طبقات ثلاث بحيث يحمي الجسم من حرارة الجو، بينما تغطي الرأس عمامة واسعة مثل خيمة.
يبين المؤلف أنه مارس التدريس، إلا إنه كان لا يزال يذكر كم كان يرهقه الجلوس على مقاعد الدراسة، ليستمع إلى دروس لا رابط بينها وبين الحياة التي يحياها الطفل أو الصبي، فكانت المدرسة بمثابة سجن، لذلك عمل على ألا تكون الحصص، حين شرع في التدريس، ثقيلة على الطلبة.
ومارس لعبة التنس التي لم يكن يعرفها، وكذا السباحة.. ولم يكن يتقنها، وتخفف من الثياب الرسمية وربطة العنق التي كان يكبل المعلمون أنفسهم بها، وكان أوّل من استخدم الدراجة الهوائية بين المعلمين، وخلال فترة عمله في التدريس تجنّب إظهار سلطته كمعلم..
وتصرف كصديق أو أنّه يمكن الإفادة من معارفه وخبراته، وخلال الرحلات المدرسية، كان لا يستفيد من موقعه كمدرّس، ويقول هنا: «كنت أشارك الطلبة في الألعاب وفي الغناء، وفي العزف على الناي، وفي اليوم التالي كنت أعود إلى شخصية المعلم».
لفت نظره من خلال عمله في التعليم، أنّ فقر اللغة العربية، كأداة تفكير وتعبير لدى الطلبة، ترك أثرة السلبي على قدرتهم في استيعاب دروسهم، بسبب الانفصام القائم بين اللغة المحكية واللغة الفصحى، ورأى أنّ صعوبة اللغة العربية لدى الطلبة، تتأتى من أسلوب تدريسها، ويضيع الطالب بين اللغة المحكية التي تعوّد على التفكير بها..وعلى التعبير عن أفكاره من خلالها، وبين تلك اللغة المنحدرة إليه من عصور أخرى في الجاهلية وصدر الإسلام، وإذا كنا نسلم بدور اللغة العربية، والقرآن الكريم بوجه خاص في حفظ الهوية العربية خلال عصور الظلام وإبان السيطرة الأجنبية، فقد بات مطلوباً، يقول الكاتب: «أن تكمل هذه اللغة دورها ووظيفتها، بأن تعود مجدّداً لكي تغدو ملكاً لكلّ أبنائها..وذلك بفرض إعادة إنتاج هذه اللغة وقواعدها وقواميسها بما يتلاءم مع احتياجات العصر، ومع الاحتياجات اليومية لأبناء الأمّة، يفرض جهداً منظماً دؤوباً تضطلع به المؤسسات المعنية، وتتجاوز في فعاليتها وحيويتها المؤسسات القائمة التي ظلت معزولة عن الجماهير».
كان أوّل ما فعله هو استعادة وحدة اللغة، والتخلي عن عملية التمزيق القسري التي تجري لها، بتقسيم عملية التدريس إلى حصص للقراءة وأخرى للقواعد والنحو، والمحفوظات والتعبير والبلاغة والإملاء، فقد ركّز على كتاب القراءة، ثم يعود بعد ذلك إلى تفكيكه وتركيبه وإجراء عملية إعادة إنشائه شفوياً، ثم يجري بعد ذلك ترسيخ القواعد الأساسية في ذاكرة الطلبة التي ترد في هذا النص،..
فيعودون للتعرف على موقع الفعل والفاعل والمفعول به، وحروف النصب والجر... الخ، ومع التكرار، تترسّخ هذه القواعد في وعي الطالب، ويغدو قادراً على القراءة الصحيحة.
وعبر هذا الشكل من القراءة، كما يلفت المؤلف، كانت تجري عملية إدخال دروس التعبير والاستظهار، وبذا تحولت دروس التعبير إلى جمعيات خطابية. ومن هنا أمست الطالبات ممسكات بزمام هذه اللغة. وأفاد بعض المدرسات والمدرسين من هذه التجربة المتواضعة، واستخدم فيها ما تعلمه من مدرسين آخرين، وأضاف إليها مدفوعاً بحبّه لهذه المهنة التي أعرب أمير الشعراء عن تقديسه لها.
عن البيان