الشاعر الرسمي للبرجوازية في مانهاتن.. وودي ألان.. مخرج عظيم لم يصنع أي فيلم عظيم

الشاعر الرسمي للبرجوازية في مانهاتن.. وودي ألان.. مخرج عظيم لم يصنع أي فيلم عظيم

إضافة إلى المخرج الفريد هيتشكوك، يُعدّ وودي ألان من أشهر المخرجين عبر تاريخ السينما في العالم. وفي عام 1984 نشر كتاباً لمحبي ألان، وكان يقصد به أن من يحب أفلامه القديمة فإنه سيحبه حتما. وربما أن العلاقة الغريبة مع الجمهور ناجمة عن حقيقة أنه كان يعمل كوميدياً فردياً (يؤدي على المسرح لوحده أمام الجمهور».

وحافظت تلك الأفلام على حس الأداء الكوميدي أمام الجمهور. وكان فيلم «اني هول"الذي عرض عام،1977 يتحدث عن الحميمية الزائفة الناجمة عن مخاطبة الجمهور.

ويدرك ألان أنه ليس هناك أكثر حميمية من النكتة المباشرة أمام الجمهور، ولذلك قام في فيلمه «اني هول"بتمثيل ذلك، ليظهر أن النكات تخلق التعاطف مع شخص آخر، وهي تدعو إلى ردة فعل، ومن هنا كانت اللحظة التي حاول فيها الفي سنغر (الذي لعب دوره ألان) تكرار الضحكة التي شاركته بها اني هول (لعبت دورها ديانا كيتون) حول محاولتهما التقاط جراد البحر الذي لايزال حياً من أجل طبخه. ونحن الجمهور أحرار في ما إذا كنا نريد الضحك أم لا، وإذا لم نضحك فربما يعني ذلك أننا لا نتعاطف مع الفيلم أو المخرج. وفي سبعينات القرن الماضي قال المؤرخ الأميركي كريستوفر لاش، إن «ألان يستخدم الفكاهة للحماية من كل ما هو جدي. ومع ذلك فإن حس ألان الفكاهي كان دائماً أكثر من مجرد ضربة وقائية ضد التكلف والتظاهر، ومن شأنه أن يقدم لنا إمكانية التعمق في النفس».
واستناداً إلى كل هذه الأسباب لا يمكننا تناول أفلام ألان إلا من خلال الاطلاع على مسيرته الفنية، إذ إن أعماله السينمائية لطالما كانت نتفاً من اعتراف عظيم، فالنسبة لفيلم «اني هول"كان ألان وكيتون عاشقين. أما فيلم «ايام الراديو"الذي أنتج عام 1987 فهو عبارة عن مذكرات. ولطالما تميزت أفلام ألان في الثمانينات بالتعمق في الافكار، والتعقيد الى حد ما، وكانت المرة الاولى التي يدخل فيها التحليل النفسي إلى السينما من خلال فيلم «حب وموت» الذي أخرجه ألان عام.1975
ويشعر ألان بالأسى نظراً الى أن أعماله ليس لها النفوذ السينمائي الكبير، أي أنه ليس لديه الكثير من الاتباع. وإذا كان ذلك حقيقياً، فيمكن أن يعزي نفسه بالحقيقة المؤكدة التي مفادها ان فنه قد انتشر في حياة الناس. وقلة منا الذين يتذكرون لحظات عن أعمال سكورسيزي، أو يقابلون شخصيات المخرج كوبولا، ومع ذلك فمن الذي لم يشعر بأنه عاش ولو للحظات داخل افلام ودي ألان؟ أو أنه يشعر بأنه منخرط في حياته اليومية تماماً مثل شخصيات ألان؟
وفي سبعينات القرن الماضي بدا ألان بأنه يمثل جيلا جديدا يظهر في هوليوود، فبعد نهاية العصر الذي كان فيه المخرجون يشاركون في تمثيل أفلامهم، جسده ألان من جديد، إذ انه كان الكاتب والمخرج البطل في أفلامه، كما أنه شارك في مونتاج أفلامه واختار الأغاني والموسيقا الخاصة بها والدعاية لها. وجاءت ريادته الحداثية من استعادة أفلامه الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، لكنّ أحداً لم يلحظ أنه على الرغم من كل الحديث عن العلاقة، إلا أنه أحجم عن تصويرها عملياً. كان ألان عصريا بما يكفي ليبدو جزءاً من مشكلة اجتماعية معاصرة، تمثلت في نموذج النرجسية الحديثة، والاستهلاك الحائر «للعلاقات».
وعلى الرغم من أن ألان كان يمثل «موضة"عصرية، إلا أنه في الوقت ذاته كان خارج العصر، ومرعوباً من فظاظة وسوقية معاصريه. وكان في الاربعين من عمره عندما ظهر فيلم «اني هول»، واختار موسيقى الفيلم للموسيقيين سيدني بشيت، وديوك ايللنغتون (عاشا في بداية القرن العشرين)، وليس لجيمس هندريكسن او فرقة الايجلز الذين تمتعوا بالشعبية في سبعينات القرن الماضي. وعلى الرغم من أن الممثلين المشهورين بالوسامة هم الذين كانوا يقودون الحركة السينمائية في هوليوود، إلا أن ألان قدم شخصية البطل الأبعد ما يكون عن الرومانسية، الرجل الاصلع الذي يرتدي النظارة ويشعر بالقلق وانعدام الثقة بالنفس.
وكان المزاج العام في فترة سبعينات القرن الماضي مناهضاً للأبطال وداعما للمتمردين، لكن بفضل بساطة ألان وقربه من المألوف أصبح أعظم من جميع المتمردين، إذ قدم طريقة يكون فيها الممثل هو الرجل من دون أن يصبح رجل هوليوود التقليدي، كما هي الحال ممثلين من امثال روبرت دي نيرو، وجاك نيكلسون. وكان ألان يتطرق الى الموضوع الجنسي، لكن لا يبالغ في ذلك كثيرا، كما انه لبق وحساس، إضافة إلى أنه كان فكاهيا، لكنه قبل كل ذلك جادا. وكانت إحدى أعظم مواهبه السينمائية هي نقل الافكار والاحداث من خلال تمثيله، ومن خلال حسن اختياره ممثلين امثال اوين ويلسون، في فيلم «منتصف الليل في باريس"عام.201
لكن هناك العديد الذين يكرهون أفلام ألان، ويبدو أنه فقد الشكل الذي تميزت به افلامه، ومما لاريب فيه أنه صنع العديد من الافلام السيئة، بدءاً من «سكوب"عام 2006 وانتهاء بـ«مهما كان العمل» عام،2009 الا انه صنع عند كل نقطة انعطاف في حياته المهنية أفلاماً جيداً، مثل «منتصف الليل في باريس"عام.2011
ويتجنب البعض مشاهدة أفلام ألان، إذ يشعرون بأنهم يعرفون سلفاً ما سيقدم لهم. وفي واقع الامر، فإنهم يشعرون عندما يشاهدون أفلامه تتناول افكاراً هي ذاتها مكررة دائما: مثل العجوز والشابة، والعصابي الفاشل، والمعماريون، والمؤلفون، والعاملون في مجال المسرح. ويمكن أن تكون أي شيء يحدث في نيويورك، ويستكشف الحياة الفنية والفكرية للطبقة المتوسطة البوهيمية التي لم تعد موجودة الآن.
ويظل انسجام رؤية ألان والتنوع الكبير في أفلامه أمراً مذهلاً: بدءاً من فيلم الخرافة الحديثة «زيليغ» 1983 الى فيلم الخيال العلمي الساخر «النائم» عام،1973 ومن الفيلم الخيالي «وردة القاهرة البنفسجية» عام 1985 الى مسرحية «الجرائم والجنح» عام.1989 وكانت موضوعات ألان تطورت خلال هذه المسيرة الفنية مع تطوره ونضوجه. وكانت أعماله الاولى تتعلق بالشبان في المدينة، ثم انتقل الى مشكلات الكهول، وأخيراً تحول الى مشكلات كبار السن، ومن المتوقع ان جمهوره تطور عمريا معه، ولم يعد ألان يعني الكثير لمن هم تحت سن الثلاثين من العمر. وأخيراً عرض فيلم «اني هول"على مجموعة من الشبان في سن العشرين، الذين اعتادوا أفلاماً مثل «اثر من الماضي» أو «التمرين»، فبدا هؤلاء كأنهم يشككون في ان ما يشاهدونه عملا كوميديا في الاصل. وقد أحب المشاهدون فيلم «منتصف الليل في باريس»، لكني ألان في السادسة والاربعين من العمر كنت من أصغر الحاضرين في الجمهور.
وربما يبدو ألان الآن شخصاً مرتاحاً مع ذاته؛ اذ انه الشاعر الرسمي للبرجوازية في مانهاتن، وفي واقع الامر فإنه احد اعظم كتاب السينما في اميركا، انه الرجل الذي يكرس نفسه للبحث عن أكبر عدد من الطرق المختلفة الممكنة لرواية الحكاية، ويبدو أن سنواته العديدة في دراسة التحليل النفسي قد آتت أكلها هنا. ويحاول فيلم «آني هول"بشتى الطرق الممكنة تجزئة الفرد وقصته، حيث المشاهد المجزأة على الشاشة، والاطارات الفارغة والاطارات السوداء والعناوين الفرعية على الشاشة، وكل ذلك لإظهار ما تفكر فيه شخصيات الفيلم.
انه ألان الشخص الغارق في كل ما هو اميركي، كما انه متشكك إزاء اميركا، ويمكن تبرير توجهه نحو السينما الأوروبية باعتباره هرباً من افتقاره إلى النجاح امام الجمهور الاميركي. ومن دون ولعه بالممثلين دبليو سي فيلدز، ومورت ساهل، كان من الممكن ان يكون ما هو عليه الآن تقريبا، اي إيريك رومير الاميركي (رومير هو مخرج سينمائي فرنسي، وصحافي، وروائي، وكاتب سيناريو، ومعلم).
في حقيقة الامر كانت لدى ألان موهبة عظيمة في الحب المبدع لكل من المخرج والممثل فيتوريو دي سيكا، وعائلة ماركس برذرز التي تمثل في الافلام، والمخرج والممثل انغمار بريغمان، ويعد ذوقه المعقد المصدر الحقيقي لكل ما هو رائع في افلامه، وكذلك لكل ما تحويه من تناقضات. وهو يميل نحو بطء الحركة في السينما الاوروبية، إلا أن افلامه التي اخرجها تظهر تفضيلا للحركة السريعة الاميركية، التي تميز الحياة المدنية، خصوصاً نيويورك. وفي بعض الاحيان يشك البعض في انه في فيلمه «غراهام غرين» يعمل على تقسيم الفيلم الى «روايات"و«تسالي»، ومن الواضح أن معظم اعماله، كما في غرين، تنتمي الى الحركة السريعة.
ولا يخلو أشد افلام ألان سوداوية من الكوميديا، ففي «جرائم وجنح» يكرر ليسر «شخصية في الفيلم»، وهو مخرج غبي لبرنامج كوميدي تلفزيوني جملته السخيفة دائما التي تقول «في الكوميديا تنحني الاشياء ولا تنكسر»، ومع ذلك فان العديد من أفضل أعمال ألان يكون فيها الكسر هو المبدأ الذي تسير وفقه الاحداث. وكما هي الحال لدى الكوميدي توماس هاردي، الذي يعتقد ان عالماً من دون الله ليس هل معنى، يعتمد ألان كثيراً على المصادفة والحوادث غير المتوقعة من أجل تطوير الحبكة.
ولطالما كانت الحياة المنظمة في كوميديا ألان، مؤقتة، ويأتي الانهيار مع قضية معينة. وإذا استعيد النظام فإنه يكون حلاً مؤقتاً ايضا. وفي أعمال مثل «جرائم وجنح» و«أزواج وزوجات"ثمة حبة رمل وجودية في قوقعة المحارة، أي ثمة مشاعر يأس حقيقية. وتبلغنا مثل هذه الافلام ان الحياة مرعبة جداً، وانه علينا أن نتمنى المضي فيها بأفضل طريقة، والمعنويات مهمة، لكن نتائجها مشكوك في أمرها.
ولا تؤمن نكات ألان دائماً بهذه الرؤية غير الثابتة، ونتيجة لكل هذه الاسباب فإنه كئيب لكنه لا يمكن ان يظل كذلك باستمرار. وقد حاول ان يكون فيلسوفاً، لكن الابتهاج ظل يقاطعه، وحاول ان يكون مهرجاً، لكن الفلسفة جعلته في حال تشكك دائم. واظهر فيلم «ميليندا وميليندا» عام 2004 مشكلته تماماً، إذ تُروى القصة ذاتها مرتين، مرة بصورة مأساوية، وأخرى كوميدية.
في الحقيقة لم يصنع ألان أي فيلم عظيم، إذ ليس لديه ما يشبه فيلم «العراب"أو «الثور الهائج»، وإنما تمكن عبر السنين من أن يصنع العديد من الاشياء الصغيرة، وروايات قصيرة هزلية بدلاً من روايات عظيمة، أي أعمال فنية تجلب الفرحة وجلبت إليه نتائج طيبة، ومن دون البحث عن العظمة، أصبح عظيماً ومحبوباً.

عن /الغارديان