مقاربة نقدية : بين لا أخلاقي (جيد)  ولا أخلاقي (وودي آلن)

مقاربة نقدية : بين لا أخلاقي (جيد) ولا أخلاقي (وودي آلن)

حلا السويدات
عن لا أخلاقي جيد:
تجدر بنا الإشارة إلى أنّ جيد (1868- 1951) يعدّ من الكتاب الفرنسيين الذين حصلوا على جائزة نوبل للأداب عام (1947)، وأنه كان من الكتاب النشيطين حيثُ كان يشارك في الكثير من الأمسيات الشعرية ويتواجد في الصالونات الأدبية، وهذا ما يشير إلى تلك الشخصية المتبلورة في العطاء الثقافي، وبعد ذلك بفترة نشر (1891) دفاتر أندريه فالتر، وأنه كان صاحب نزعة مثلية، وبشّر عن ذلك في روايته (كوريدون).

وما يهمّ أن نشير إلى ذلك تحديداً حين قراءة هذه الراوية؟ ربما تكمن الأهمية في اعتبارنا ميشيل بطل الرواية هو جيد نفسه، ولأن أحداثها وثيقة الصلة بأحداث حياته وتعتبر الرواية سيرة ذاتية له أو مفتاحاً حقيقياً للدخول لعالمه. حيث يتحدث عن رحلته مع زوجته الشآبية مادلين المصآبية بداء الصدر مثل زوجها، إلى الضيعة التونسية، وهي تأتي إلى المكان للمرة الأولى، بداية يبدو لها المكان موحشا، لكنها في المساء تسمع صوت أغنيات جميلة تأتي من المساكن القروية القريبة، فتسأل زوجها عمن يغني، وتعرف أنهم مجموعة من الأطفال العرب الذين يجتمعون في المساء تحت الشجرة القديمة لتبادل السمر، والحكايات القديمة حسب حنان العتال.
وحيث كانت هذه الرواية جزءًا من ذات/ مركز، تتعلق أفكاره بمنحى التأثير والتأثر الزمكاني، نجد أنّ فرنسا من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف العشرين كانت قد شهدت اتجاهات وجودية كثيرة على يد سارتر وكامبو وروسو، وغيرهم، أي أنّ عقولاً كاملة قد أعادت النظر فيما هو مألوف، من قيم ومبادئ وأخلاق، وكون جيد، أثار هذا النمط من التفكير في نفسه، وفي مؤلفاته كلها، لم يكن مبتكراً لتلك الثورة على المألوف من الأخلاق، بل كان قد سبقه ولحق به الكثير من الرواد الذين ألقوا بتلك التساؤلات في طيات ما يكتبون؛ أدباً، كما بدأت وجودية سارتر أدبية بحتة. وهنا يجدر بنا التسليم بدور الأدب، الواعي، لما هو منطلق فيه، فيجبرنا أن نأخذ هذا الوعي على محمل الجد، على أنه أساس لمذهب ما، ووجب علينا أن نميزه عن ذلك النوع من الأدب الذي يروم الإنسانية، من الذات إلى الكون، مبينا أثر الإنسان الآخر فيه، لا أثره في الآخر، ومبيناً مرحلة التطور لا مشكلاً لها، من ناحية الأساس، وهنا يمتاز بالأدب الثوري الفعال، الذي يحاول التغيير (التجسيد) وإعادة تشكيل الواقع، مبشراً بنمط جديد من الحقيقة، ومن المعرفة، وأكبر من أن يكونَ محضُ هاجس.
ونشير أيضاً لضرورة المقال فيما هو مبحوث فيه أدبيًّا، إلى أنّ العرض الأدبي (مدار الأيقنة الفكرية) هو تطور عام للفكرة، داخل الدائرة المقابلة للذات، أشبه بأن تتعرض أمّة لثورة ما، فتقلب معاييرها السياسية والنفسية والاجتماعية، لتتجه نحو مدار آخر، وهذه نقلة لم تحدث إلّا من أفكار القلة من المثقفين، إلا أنّ لكلّ أمة مثقفيها، وخصوصيتها، وثورتها، ومعاييرها، تشترك الأمم بسؤال الإنسان، لكنّه تختلف بجواب الذات، لذا تفضل أن تتوازى لا أن تتقاطع، وحتى أنّ مسائل مشتركة وهموم عامة يمكن أن تتحول إلى مسائل ذات، إذ تُخضع لنمط فريد ومبتكر من التفكير، وتحديدًا حين يكون المفكّر صاحب هذه الأفكار.

إيحاء الخطر بين الفكرة والموقف:
في (اللا أخلاقي)، نجد أنّ النمط الأدبي الخاص بالرواية، والمبنى الذي يشآبيه أن يكون مبنى لسيرة تحكى، من نقطة لنقطة، يكاد يحتفظ بالصورة الكلاسيكية للرواية، فالسرد الحكائي يجعل وقت الحكاية خارج وبعد زمن ابتداء نقطة الرواية ونهايتها، حيث يتحدث ميشيل البطل مع رفاقه مشيراً إلى الدهشة المنتظرة، وإلى الخطر الكبير، جراء الإثم، وفظاعة وقعه، وإلى خوفه أن يكون جزءاً من النفوس، وأن تكون هذه النزعة أصيلة، يثير المتلقي إلى نوع من الترقب، المفاجئ، لكن، يأتي سرد الرواية الذي يتصل أيما اتصال بقيمة الحدث لا أن ينفصل عنه تحليلاً، فهي تحكي صورة حدثية، من سفر وترحال، مرض وصفاء، شدة ورخاء، وأفكار حول الأحداث، حول العرب في تونس، والمثقفين في الوطن الأم، انطباعات مأخوذة سآبيقاً، وتذكر بسلاسة، دون أي تفلسف حولها، تشير إلى المعرفة المتصلة بالذات دون أن تلامسها، وتحدد مركزا فلسفيا واضحاً، يمكن أن يعدّ بؤرة، تنطلق منها الرؤيا للعمل الأدبي، والتوقع الذي سيكسر من هذه الحكاية. ففي طور الرحلة للشرق، كان ميشيل ومرسيلين، قطبين تتحد فيهما الرؤيا، إرهاصاتهما سبيلٌ لأن يكشف النقيض نقيضه، ذلك الرجل المريض، ميشيل، العالم وصاحب الرؤيا والأفكار والحتميات والمتمرد على ما هو متوقع أو ما يمكن توقعه والالتزام بهذا التوقع والافتراض، المتمرد على أنماط المعرفة العادية باحثا بتميز في العليا منها، لا يفتأ يجد في نفسه قيمة غير مرجوة، إلا وتضمحل.
إن اللا أخلاقي فكرة غير مكتملة، لا نستطيع أن نعدّها فكراً خالصاً يحاول أن يقيم شخصية أنموذج تحمل الوعي الكافي لتقدم نمطاً جديداً غير مألوف، بل كان ميشيل شخصية متطورة، غير ثابتة، متماوجة مع مزاج الترحال، تكتشف نفسها عبر مرسيلين، الضدّ المؤمن بالله، ميشيل ومرسيلين، لم يكونا زوجين فقط، بل كانا تجربتين متكررتين، لنمطين نقيضين، كأن يكشف الضد ضده بعد أن يمعن فيه، ويقيس نفسه عليه، فالملامح التي تأخذها شخصية مرسيلين بعد أن شهدت تجربة ميشيل المرضية نفسها، وكانت الإرهاصات على مدى دورين حياتيين، ما أحكامنا تجاه الآخر حتى لو كنا معرضين لنكون نحن الآخر؟ وتمحور ذلك في مشهد كانت تسعل فيه مرسيلين بشدة، حيث عجب من أن تكون قد استحملته وهو يسعل بالطريقة ذاتها، هنا لا يكون النبيل نبيلاً بالكامل، حتى لو أراد ذلك، ميشيل سبق وأن صمت عن سرقة طفل تونسي للمقص، دون أن يبلغ عنه أو حتى يظهر له أنه كان يعرف ويعظه، وكتم ما كان من سرقة، وعفا عن عامل المزرعة السكير، محترما ظرافته حين يسكر، وثقله حين يحزن، وغضب حين طُرد، وأراد البحث عنه وإعادته.
هل من يقبل ما يرفضه النمط يعدّ لا أخلاقيًّا، ودافعا لكلّ هذا التحذير والخوف منذ بدء الرواية؟ ربّما لم يكن إن أمعنا في نهاية مطاف مرسيلين المخلصة العليلة، حيث تركها زوجها في ليلتها الأخيرة ليسهر في مكان ما برفقة إحدى الغانيات، بعد أن تركها في شقة وحدها، ثم يعود ويراها تلفظ أنفاسها الأخيرة من المرض، إن استغناء ميشيل عن زوجته في وقت لاحق من أوقات بذل فيها كل ماله وطاقته لتشفى كان من شأنه أن يقلب المعايير(حسيًّا)، كما هي عادة الأدب في ذلك الوقت، والذي عمد إلى الأفكار انطلاقا إلى المواقف الكبرى، كما أشرنا لسارتر، وإلى ما سبقه من أنماط الأدب العالمي، ما قبل ثورة الحداثة، والتي ستؤتى أكلها في الأدب في زمن بعد ذلك،والذي سيعي ضرورته في تشكيل أكثر صراحة للمواقف.
ودون التستر الواضح والخائف خلف تقاليد الرواية، فأتقن الرواية التجريبية، وأخذ يعبر عن أفكاره ومواقفه قابلا التصنيف على نفسه، والأدب في مرحلة التقليدية كان يصنف أيضاً، لكنّه ظل يحفظ سمته الفنيّ، جاعلاً من نفسه منحوته جمالية على صعيد الشكل والمعنى والمضمون، خالدة على مرّ الأزمان، وربما لم يخلد لا أخلاقي جيد بصيغته الفكرية، لما حدث من تطور بعد ذلك على النمط الأخلاقي، والتي كانت أكثر جرأة من ناحية المضمون والتناول، لكن هذا العمل وبتصنيف مرحلي، كان من أعمال مهمّة لما يكشف عن براعة خفية في الأدب العالمي، ومما يجعلنا نعتبره مرحلة أساس للنقلة المفاجئة للقيم الإنسانية في عصور لاحقة، نقلة مترددة، ما بين الطبع الإنساني المائل للخذلان، - موقف ميشيل النهائي – و ذلك الرفض الواعي لما يسمى أخلاق، الدارس لأهميتها عند الشعوب، عارضًا سؤالًا حولها يُتتبع بطريقة فنية.

عن لا أخلاقي وودي آلن:

ثمّة في بلدة صغيرة خيالية، نيو انغلاند، وتحديدا حرم كلية Braylin، أستاذ فلسفة يُدعى آبي لوكاس (جواكين فينيكس)، يجد نفسه في أزمة وجودية، لكنّه في النهاية يكتشف هدفًا جديدًا في الحياة عندما يدخل في علاقة مع جيل بولارد (إيما ستون)، واحدة من طلآبيه. وتكون جيل دائمة الكلام عن آبيي أمام روي صديقها وآبيويها مما يؤدي إلى اضطرارها لتفضيل آبيي(الشخصية التي أثارت فضولها وسحرتها) على جيل.
وحدث أن سمع جيل وآبي محادثة أثناء عشائهما، كانت امرأة تقول إنها ستفقد أطفالها في معركة حضانة بسبب قاض على ما يبدو (غير أخلاقي) في محكمة الأسرة. مما استفز في آبي حنقه على الظلم المتفشي في العالم. ودون أن يخبر جيل، قرر مساعدة المرأة بطريقة غير مباشرة، في التخلص من القاضي الفاسد الذي لولا فساده لما ظلمت المرأة وحرمت من أطفالها. ويخطط آبي لجريمته الكاملة على حد تعبيره، يسرق من ريتا مفتاح المختبر للحصول على السيانيد بعد ممارسة الحب معها. راقب القاضي، وحفظ عاداته، ثم وضع له السم في العصير.
جيل وريتا اكتشفتا الأمر، بعد تواجه جيل له، آبي يعترف لها. وقالت إنها قررت قطع العلاقة بينهما، لكنّ جدلية الأزمة بدأت عندما اتهمت الشرطة شخصا بريئًا بالجريمة مما دفع جيل الأخلاقية للتهديد بإخبار الشرطة، لكنه وعدها زورًا بذلك ثم خطط لقتلها. وهو يحاول قتل جيل عن طريق دفعها إلى المصعد الذي كان قد عطّله، يقع في فيه ويموت، ويترك جيل لمحاولة إصلاح حياتها الخاصة.
لنفترض أوّلاً أنّ الوجودي أعاد النظر في الهيكل الأخلاقي، وطرح الأسئلة، تلك التي تجاوزت بدهيًا الحريات الأساسيّة التي منحتها الطّبيعة للإنسان، ولنعدّ الوجوديّ كان حائراً في البداية، حيث ميشيل، كان يخضع لطريقته وطريقة ما حوله، حيث كان يعترف باللا أخلاقية كشيء منبوذ، في بداية الرواية كان يعترف بالخطيئة والشرّ ويطلب العقاب والرفض، كان الوجودي/ جيد،"يتأرجح طيلة حياته بين نزوع للمثال وللطهرانية بفعل تربية بروتستانية لعبت فيها الأيام دورا كبيرا"حسب السويركي، ربما كان قبل أن يصل جيد إلى تسوية في كتابه (كورديون)، وقبل أن يؤثر كليّا على منظومة المجتمع الفرنسي، ربما نستطيع أن نعدّ جيد، قلقا في بداية سؤاله الأخلاقي، وأن نعدّ أيضًا هذا السؤال في تطوّر، يتأثر بالعوامل الثقافية والفكرية الأخرى، نيتشه مثلاً، إحدى المدخلات الفكرية (الأخلاقية المتمردة) التي أثرت بجيد، وحتى على مر سنوات، عُني نيتشه بثورة إعادة التكوين، من ناحية كلية، وعُني سارتر وكيرغارد، بإعادة التكوين من ناحية وجودية، وسنحاول أن نستعرض تأويل العملين اللذين يقومان في جوهرهما على الحكاية، من ناحية المقاربة بين ميشيل ونظيره Abe Lucas، أستاذا فلسفة ومركزين لعملين مختلفين ومتباعدين في الزمن، لكنّهما يظهران _ حسب إرداة المؤلف _ ضمن سياق وصفيّ يمّهد الأبعاد لأفكار يصرّح بها حينًا وتشير لها الحكاية حينًا آخر، اللا أخلاقي، والرجل اللا أخلاقي، إرهاصان وجوديان، يوضحان البَدء، وينتظران حتى تأخذ الفكرة الزمن الكافي ليعرف اللا أخلاقي ما يريد، لن يكون زمن نهاية الفكرة، بل زمن ما بعد الحداثة، ناصبًا الرجلين (ميشيل ونظيره) أمام حتمية المقارنة، حيث يعرف الضد نفسَه من ضده، ويختبر نموّ الأفكار، من الجذر حتى الأغصان المتمردة.
ميشيل يمثل المرحلة الوجودية فيما يمكن أن يميز بالذاكرة. أما الفلم يمثل مرحلة غير محدودة ومبهمة وعبثية. نستطيع أن نقول إنها مرحلة توقع ما هو مجهول في المستقبل. حيث احتوت الشخصية تجاذبية وتفاعلية غامضة مع قضايا الوجود الآنية من أهمها قضية العدل والشر في عالم ما بعد المرحلة الصناعية إذْ يتم تقسيم العالم تقسيمًا مجحفًا، هناك ملايين من الناس يتعرّضون للعنف والقتل يوميًا، وآبي من حيث هو يقيس مدى قدرة الفرد الحائر اليائس على التغيير بأنواعه، السطلة والسياسة، الاقتصاد والمال، تلك المشاكل التي لا تنتهي لأنّ الحل الجذري يتطلب ثورة على هذا الواقع، ربما رأى نفسه بغنى عنها كفيسلوف متنقل بين الجامعات، وهنا نلتمس تناقض الدحض الذي مارسه آبي في حديثه عن أعلام الفكر في العهد الحديث، أو الذين شكلوا اللبنة الأساسية لهذا العهد، وقد كانوا يبتكرون المصطلحات الفلسفية الصعبة، والتي شبهها آبي بعملية الاستمناء اللفظي، فهي عجزت عن التغيير، وجعل الواقع أفضل، حتى أنها لم تطرح فعلاً نموذجًا واقعيا للعدالة الكونية، حيث إنّ الأطروحات الفلسفية السياسية كالليبرالية وعقد جون لوك وروسو لم تكن كونية بما يكفي من جهة أخذ أخلاقيات وحدودها لتقيم مبادئها الأساسية كالعدل والحرية إلخ، بين كلّ الناس بنفس المقدار مهما اختلفوا باللون أو العرق، إنّ هذه المبادئ حيث آمن بها الفيسلوف لم تأخذ بها السياسة كممارسة واقعية، فتغترب المعاني السامية عن واقعها، ويظل المرء في حيرة وحاجة ماسّة لإقامة العدل، أن يظل هذا الكون دون ألم، وعند سماع آبي لمشكلة المرأة مع القاضي الفاسد، قرر أن يكون عادلا، وأن يأخذ دور الإله في قصة واحدة من ملايين القصص المؤلمة التي تملأ العالم، وقرر أن يقتل القاضي لتحقيق منفعة للمرأة، لكن بهتك أحد أهم الحريات التي يمتلكها الإنسان وهي حرية الحياة، وهنا قتل آبي لتحقيق العدل، ووجد اللذة في جريمته الكاملة، وعندما تورط شخصٌ بريء، العدل يقتضي أن يعترف آبي بجريمته العادلة، لكنّ المنفعة الشخصية تقدمت على المنفعة العامة، وهنا فقد الفعل الأخلاقي (القتل من أجل العدل) أخلاقيته، وصار آبي جزءًا لا يتجزأ من السياق الذي كان يرفضه، بعد أن حاول قتل جيل والتضحية بالمتهم البريء، هنا نجد التبرير لغيآبي القيم السامية واضحًا، هو أن الإنسان ليس ساميًا بطبعه، وأنّه لن يستطيع التخلص من الظلام في داخله، حيث هو مركز نفسه، ورغباته أقوى مما كان يعتقد.
الوجودية من اللا أخلاقية أم العكس أم إحداهما لا تعبر عن الآخرى؟
اضطلعت الوجودية في الحديث عن"المعنى الذي لا بدّ منه"في مراحلها، وكان المعنى هو جوهر الأشياء في المدارات الملتفة حولها، فإنها عندما تفكر بشيء تلتقي بافتراضات المعنى لديه، وتقدم له كذلك افتراضات لمعانيها، إلا أن أفكار سارتر آخذة في التحول إلى أفكار متخفية - حسب فوكو. فسارتر أراد إظهار أن المعنى موجود، ويشبه هذا شغف آبي للتطهر من المصطلحات الفلسفية التي تشبه الاستمناءات اللفظية كتشبيهه لها، ربما من ناحية كونها لذة منقوصة ومجزوءة تفصلنا عن المرحلة الاختبارية البحتة. مرحلة اختبار العدل في هذا الحيّز الملموس والآني، وهنا يظهر سؤال معنى المعنى، أي ما وراء العدل حيث تتجسد سلطة العدل، وطريقة استخدام هذه السلطة ومعاييرها الحقيقية في وقت يغيب فيه الله عن الخراب في هذا العالم، ولأنّ آبي/ الإنسان، بصفته إنسان لم يستطع إقامة العدل بالتضحية بنفسه قربانا للقانون البشري، والدفاع عن شرعية جريمته الكاملة العادلة، واكتشف أن حبه لنفسه أكبر من حبه للقضية، وحب ميشيل لرفاهيته بعد كل تلك التضحيات في سبيل زوجته، كلها تجعلنا نفترض أنّ المعنى علته التجسيد، وأن وجوده بحد ذاته واستنجادتنا له لا تكفي. فقضية المعنى التي شغلت شباب الوجوديين في مرحلتهم، تقتضي جانبا آخر في العصر الحديث، عصر الهيمنة والسياسة المطلقة والسلطة، عصر الإنسان الذي يتلقى دون أن يفهم على أي وجه يكون الأمر.
إنّ اللا أخلاقية تنجم من الانحرافات عن المعنى السايق للأشياء،واللافت أنها كانت ولادة للمعاني والانحرافات الجديدة حيث عمدت إلى إعادة تقيبم المألوف. لكن هذا المعنى كان يشكو من لبس شديد - حسب فوكو. ولأننا بالنسبة لسارتر قراء للمعنى وكتآبيه الآليين. نكتشف المعنى ونخضع له. نحاول أن نبحث في لا أخلاقية المعنى كمعنى مبتكر، جديد كل الجدة في محاولة الخروج من دائرة التصنيف المنحرفة والشاذة، لكن من يقيم قراءتنا للمعنى؟ آبي استطاع تقييم نفسه، وتحققت لديه غبطة الشغف والقيمة، وميشيل، أخذه السياق، انكسر في نفسه المعنى، قبل أن يفكر فيه ما ينبغي، إن الفلاسفة الوجودين حيث هم تامين، يستطيعون إرساءك إلى معنى خالص يتعلق بقضايا كبرى مثل الله والإنسان ويحكون بتروٍ عن الأبعاد الابتكارية للأفكار لكنّهم لا يقيمون حدودا لقرائتك الخاصة لهذه المعاني، وهنا نحتكم إلى النمط المعرفي والتكويني للذات.
الفكر الوجودي كان باطراد نحو حالة / مثال مرتجى، والفكرة أخذت تتطوّر وتنتقل عبر كتّاب كثر عبرّوا عنها أدبيّا وكتابيّا (سارتر، كامبو) وحتى حياتيّا صرفا (كيرغارد)، فالهاجس الوجودي لم يكن همًّا موروثا ومخلدًا بصيغة فلسفية متنامية كما نقرأه نحن الآن، بل بدأ ذاتيًّا يتعلق بالذوات وانعكاسات الأشياء فيها واجتهاداتها فيما هو (واقعي)، وتأتت هذه الانعكاسات على شكل سياقات مبتكرة، قصّة/ رواية، حكاية تكون مقدمة لفكرة واحدة على الأقل، وعندما قرأنا (اللا أخلاقي) وشاهدنا عمل وودي آلن، فإننا ملنا إلى قياس أبعاد الفكرة اللا أخلاقية فيهما، وتتبعناها تبعا لتوجيه من المؤلف، رابطين مناحي التأويل بالتاريخ النظري للوجودية من البَدء، حتى أثرها بعمل ألف في عصر ما بعد الحداثة.

عن جريدة الغد الاردنية