مانهاتن 1979 (وودي آلن):  سيرة ذاتية مختصرة عن شخص مشوش ومضطرب عصبيا

مانهاتن 1979 (وودي آلن): سيرة ذاتية مختصرة عن شخص مشوش ومضطرب عصبيا

بلال سمير
يفتتح وودي آلن (مخرج أمريكي يهودي ويهوديته هي اغرب ما فيه) فيلمه الواقعي الساخر هذا بالتهكم، فهو يتحدث عن نيويورك وولعه بها وحبه الشديد لها، وبغض النظر عن اي نسبة وبغض النظر ايضا عن المواسم والفصول.....

وهو يعتقد بأنها مدينة وجدت أصلا بالأبيض والاسود، لذلك فهو يصور فيلمه هذا باللونين الابيض والأوسود معنونا الاستهلالية هذه ب (القسم الأول)...ثم يعود ليكرر ويقول (القسم الأول)...
وهو مغرم أيضا بمانهاتن...والذي يحصل الآن هو استدراك اسلوبي يحصل اثناء البروفة أو كمن يحاول أن يبدأ كتابة شيء ما وهو تائه من حيث الموضوع ومن حيث الأسلوب...
بالنسبة إليه فنيويورك تعني النساء الجميلات والشوارع والأشخاص الأذكياء،ويعود إلى الاستدراك مرة أخرى ليقول(القسم الأول)،والاستدراك هذه المرة ليذكر السيئات ليقول أن نيويورك هي رمز لتعفن الثقافة المعاصرة وهي عبارة عن افتقاد للسلامة العقلية،وكل ذلك مصحوب بخلفية موسيقية(Rhapsody In Blue) وهي موسيقى شهيرة ل (Gershwin) تحمل بعضا من عناصر الأوبرا وعناصر موسيقى الجاز...هي رمز للمعاصرة.
إذا مانهاتن أيضا هي مدينة الأبيض والأسود،وربما تعلق وودي ألن بجيل الأبيض والأسود جعل من الفيلم يسجل كثيرا من الاسقاطات الذاتية...
إذا فوودي آلن شخص مشوش قريب جدا من الاضطراب العصبي،يتحدث عن نفسه في مجتمع الطبقة المتوسطة عالية الثقافة،في تهكم وكوميديا واقعية تصلح أحيانا أن نطلق عليها كوميديا سوداء،ويبدأ وودي ألن دائما بالذات،فهو يواعد فتاة في السابعة عشرة من عمرها وهو يبلغ اثنان واربعون عاما،كما أنه متزوج مرتين وزوجته السابقة تركته لتعلقها بفتاة من نفس الجنس،وهو يدخن بالرغم من عقدة خوفه من السرطان فقط لأنه يبدو وسيما بالسيجارة....
صديقه (يال) متزوج ولكنه معجب ويواعد ماري ويلي (الممثلة ديان كيتون)...
الفيلم يتحدث عن مجموعة من العلاقات المتشابكة من حول(ديفيد اسحاق) ولم يسمي وودي آلن نفسه بهذا الاسم إلا ليتحدث عن غربته كشخص يهودي في هذا المجتمع...
الحوارات الثقافية في الفيلم تكثر جدا...عن حبه لبيرغمان ويجرى ذكر كلا من فرويد وكيركغارد وستريندبرج ايضا...ولاحقا سيقع في غرام (ماري ويك) التي لاتريد أن تخوض في علاقة مع رجل متزوج لأن هذا كان سبب طلاقها من زوجها.
إذا فأكثر ما يركز عليه الفيلم ويلقي الضوء عليه هي الحوارات بين مجموعة من أفراد الطبقة المتوسطة المثقفة لدرجة كبيرة ومن المعروف أن وودي ألن تزوج فعليا من ديان كيتون وانتجا قصة انفصالهما في فيلم شهير لا ينسى(Annie Hall 1977)..
في كثير من لحظات الفيلم يكون ديفيد اسحاق يكون غاضبا،غضبا ثقافيا على وجهات نظر ماري ويك،ولكن وإن صح القول عن هذه الحالة بأنها غربة مثقف ولا يصح أن نقول عنها بأنها غربة يهودي،في مجتمع هو مندمج معه تمام الاندماج ولكن ينقصه بعض التواؤم.....
محور الفيلم هو النقاشات،فالنقاشات تحمل بعدا عاليا في التركيز على كل شخص وكيف ترى نفسها وودي آلن لا يتردد في الحديث عن علاقاته الجنسية ضمن منحى الزوجية وضمن منحى العلاقات الاخرى...
بينما ماري ويك تنسب نفسها دائما إلى فيلادلفيا،ولكن عند الحديث عن بيرغمان تقول:أنا من فيلادلفيا وأهل فيلادلفيا يؤمنون بالله،وعند الحديث عن الجماع تقول أنا من فيلادلفيا وأهل فيلادلفيا لايتحدثون بالعلن عن هذه الاشياء..
الفيلم بالرغم من كل ذلك ليس عبارة عن صراع فكري،بل هو تناقض اجتماعي صريح وواضح وواقعي لمجريات أحداث أشخاص تبدو بانها تسرد عفويا وتلقائيا على الشاشة ولكن المحور الوحيد الذي يربطها هو دافيد اسحق،الذي يقوم بمحاولة لكتابة كتاب عن القيم المتعفنة...
يتخلص من الفتاة ذات السبعة عشر عاما(تراسي) وينجح في ذلك ولكن ماري ويلي سرعان ما سوف تكتشف بأنها تحب يال،كما أن زوجة دافيد السابقة(ميريل ستريب) ستكتب كتابا عن علاقتهم السابقة،وسيتضع فعليا ما هو الشيء الذي يقلق دافيد...اسحق رجل متعلق حتى احشائه بالثقافة والاهم الذي يقلقه ليس هم السرطان فقط الذي من الممكن ان يحدثه من وجهة نظره التدخين أو الفاليوم أو أحد أنواع الأقمشة...إنه يعيش الاندماج لأن زوجته سوف تكتب عقده بشكل أوضح في كتابها،وهذه الاتهامات من غير الممكن أن نقول عنها أو نصدق بأنها اكتشفتها بنفسها بل وودي ألن هو من كتب هذه العقد عن نفسه وأدرجها في الفيلم أي في الكتاب الذي ألفته زوجته...
هي تتهمه بأنه مصاب ب(Jewish-Liberal Paranoi)،والشوفينية الذكورية والتبرير الشخصي لكره الجنس البشري وبأنه صاحب مزاج سيء وعدمي كما أنه يشتكي دائما من الحياة ولكنه في نفس الوقت لا يمتلك أي حلول...
البعض قال عن الفيلم بأنه عن العقدة اليهودية،وهذا لايبدو واضحا في الفيلم حتى لو كان صحيحا،فهذا الرجل مندمج مع مجتمه وعقده الداخلية لم تؤثر سلبا على اندماجه وعلاقاته مع المجتمع الذي يعيش فيه..إنه يواجه نفسه بعقده الداخلية وكأنها امتلكت بالوراثة ولكنه غير مضطهد...فلماذا هو مغموس بهذه العقد؟
دافيد اسحق هو تمثيل حياتي واقعي لسيرة ذاتية ضعيفة العقدة إذا نظرنا إليها من هذه الناحية،بل هي تصوير اجتماعي لحياة مدينة من خلال بعض الاشخاص ويمكن أن نقول عنه انه اختصار لمانهاتن ولكنه ليس كأي اختصار...اختصار مليء برموز وعمالقة الادب الغربي...عن انسان مشوش الفكر يُشرح نفسه ليرى أين الخلل،هل هو في مجتمعه أم هل هو في نفسه ولكن في الحقيقة كلا الطرفين-اي دافيد ومن الناحية الأخرى مجتمعه-ساهما في بقاء دافيد وحيدا في نهاية الفيلم.
سيرة ذذاتية مختصرة عن شخص مشوش ومضطرب عصبيا بسبب ظروف لن يكن هو السبب فيها ولكنها جعلته-لكثرتها وتكرارها-يعيد تشريح نفسه ضمن عقد هو غير بريء منها في نفس الوقت...
فيلم مانهاتن لا يحمل أي رؤية سوداوية،ومع ذكره للماضي لكنه لا يشرحه ولا يخطط للمستقبل بل هو فقط يقدم لحظات في حياة شخص كانت سببا رئيسيا في رسم وتأكيد مسيرة حياته القادمة..