سليم علي الوردي: شهادة عراقية

سليم علي الوردي: شهادة عراقية

توفيق التميمي
ترددت كثيرا قبل مفاتحتي للدكتور والباحث الاجتماعي وعالم الاقتصاد د. سليم علي امين الوردي للادلاء بشهادته للتاريخ،تقديرا مني لسعة تجربته وتنوعها ومسيرته العلمية وشهادته على أحداث امتدت مجريات وقائعها من العهد الملكي حتى ايامنا هذه، وكنت أراهن في ذلك ليس بصفته مشاركا وفعالا بهذه الاحداث، بل كنت أعول كثيرا على توظيف مهاراته العلمية

وقراءاته الموضوعية للاحداث التي رسخت في ذاكرته وحفرت لها موضعا من الصعب زواله او نسيانه،كما كان يشدني في هذه المحاولات أمنية بأن القارئ لها سيجد في النهاية نصا مرويا ادبيا محبوكا بلغة سلسة وعبارات جزيلة احترف صاحبها مع تأليف الأبحاث السياسية والاقتصادية والتاريخية كتابة المسرح والترجمة له وتأليف القصص والروايات المطبوعة منها التي مازالت مخطوطة، فستكون إجاباته جملا متسلسلة حاوية على عناصر متكاملة ومغرية للقراءة تجتمع فيها مع القراءة التاريخية الموضوعية والمنصفة تلك الاسلوبية المشوقة والممتعة التي تجذب قراءها في عالم تعددت به خيارات القراءة وتتراجع فيه قوة حضور الكتابة الورقية، ومنها الصحف والكتب بالطبع.

وكان لترددي في مفاتحته أسباب ومبررات وذرائع على حد تعبيراته العلمية التي يطلقها الوردي نفسه في توصيفه للظاهرات الاجتماعية والتقصي عن مسبباتها، ثمة اسباب تبرر ترددي في عرض اجراء مقابلة طويلة معه كنت استقيها من معرفتي القريبة من شخصية الدكتورسليم الوردي وقربي منه خلال السنوات الاخيرة ومتابعتي لكتاباته في الصحف وقراءاتي لمؤلفاته التي صدر الثاني منها 2005 بعد انقطاع ثلاثة عقود عن الكتابة بسبب ما اسماه مرحلة العقم الثقافي والبؤس السياسي التي عاشها العراقيون خلال حقبة البعث الثانية (2003-1968).
وكما كنت اطلع على كتبه التي تأتي عبر مخاضات طويلة ومكابدات عسيرة ومراجعات متأنية للمصادر والوثائق، والتاكد منها كما يفعل اي عالم حريص على سمعته وكتاباته،كنت قريبا من هذه المخاضات التي تولد في اتونها مؤلفاته ومطلعا الى حد ما على طقوس كتابته التي تستدعي منه التفرغ والتامل والمزاج الخاص بالكتابة الذي قد لايؤاتيه في كل حين.
وهذا ما حصل فعلا عند المحاولات الاولى لاقناعه بالابحار في ذاكرته والاحتدام مع اسئلتي التي جاءت بفعل اطلاعي ما استطعت على تجربته ومعرفتي المتواضعة بمنهجيته في رواية الاحداث وتوصيف الظواهر والأفراد والمسميات، ولأنه متابع دؤوب لمسلسل شهاداتي التي تواصل»الصباح»نشرها منذ اربع سنوات متواصلة وجمعت بعضا من مقابلاتها في كتاب صدر بجزأين حتى هذه اللحظة، فكنت طامعا أن أغريه بالاصطفاف مع بقية الشخصيات السياسية والاكاديمية والدينية التي تمكنت من الغور في ذاكرتها واستنطاق مخزونها.

تواضع العالم
ولكنه كان يتعذر وبتواضع العالم الجم في كونه ليس بالشخصية التي تعد ذا مأثرة يشار لها بالبنان، وحتى ان اسمه قد لايثير شهية القارئ كالأسماء الأخرى التي تناولتها الشهادات كشخصية السكرتير الاسبق للحزب الشيوعي عزيز محمد مثلا او شخصية اسلامية اشكالاوية كالباحث غالب الشابندر وسواها من الشخصيات التي ظهرت عبر مسلسل شهادات،وكان يضيف بان فعاليتي الثقافية وانتاجي التأليفي لايعدان بضع مقالات متفرقة هنا وهناك نشرتها بعد سقوط النظام الذي قمع قلمي لثلاثة عقود متواصلة،ولكني تجاوزت ترددي وبدأت فعلا بمفاتحته وتمكنت في النهاية من اقناعه كما نجحت من قبل في اقناع الشخصية المشهورة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد الذي كان يبخل كل هذه السنوات على سرد ذاكرته او الاقتراب منها، ولهذا نجاحي في هاتين المحاولتين يحسب لي في سيرتي الصحفية والتأليفية،رغم الفارق النوعي بين الشخصيتين واختلاف ثقلهما الشعبي والحزبي هنا والاكاديمي هناك.
لابد من الاشارة هنا الى ان د. سليم الوردي واجه ظلما لايستحقه في انحسار شهرته ومحدودية توزيع كتبه وانتشارها المحدود التي لاتستحقه ولاتستحق ما يثار فيها من اسئلة ومثابات يمكن اعتبارها منهاج عمل وطريقة انقاذ لكثير من الاوضاع والحالات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية التي تتطلب اصلاحا او تدخلا اجرائيا من الباحث الاكاديمي،لاسيما ان الوردي ينتمي لجيل من الاكاديميين او امتداد له، من امثلته استاذه علي الوردي والعلامة حسين محفوظ والدكتور مصطفى جواد والعلامة الدكتور جواد علي وعالم الاقتصاد ابراهيم كبة وكل هؤلاء كانوا لايبخلون على توظيفهم معارفهم الاكاديمية التخصصصية في انقاذ ما يمكن انقاذه من خراب بلادهم مع اداء واجباتهم الاكاديمية والمهنية في الدوائر والجامعات.
ولكن الوردي سليم كان لسوء حظه ان ظهرت مؤلفاته بعد غياب زمن هؤلاء العمالقة واصبح الكتاب الورقي منافسا ضعيفا لايقاع حياتي تتحكم به ريموتات التكنولوجيا وثقافتها الاستهلاكية التي لم تتصالح مع مزاجية الوردي الذي مازال يكتب افكاره ويدبجها على ورق صقيل مستمتعا بمنظر جمالية خطوطه التي كانت تعد جزءا من متطلبات الثقافة العامة لجيله الذهبي،فلم يأبه الوردي بما تحققه كتبه من مكاسب مالية او شهرة اعلامية تأتي عبر قراءات مجتزأة بالصحف اليومية بقدر ما تجد أذانا صاغية لدى صناع القرار والمعنيين بصياغة الحياة بأوجهها الشاملة،وحتى ذلك لم يتحقق له،ومع ذلك فهو لايشعر بالاحباط ولايعتريه اليأس في مهمته النبوية هذه.بل يواصل ويواصل لاراحة ضميره واستجابة لما تربى عليه من قيم ومثل خلال سنوات طويلة.وكان من أسباب ذلك ان علاقاته محدودة برجال الصحافة وعلاقته أكثر سلبية مع رجال السياسة، بل هو يحمل داء آل الوردي في تجنب السياسيين وعدم الخوض في السياسة، ولهذا فأضواء السياسة لاتغريه،طلب مني ذات مرة مسؤول لجنة العشائر في البرلمان دعوة مجموعة من الاكاديميين وعلماء الاجتماع لمناقشة وظيفة العشيرة من منظور جديد واعادة الاعتبار منها واقترحت اسم الدكتور سليم الوردي لان لديه بحثا علميا رصينا في هذه القضية، معززا بالأدلة العلمية والشواهد التاريخية الدقيقة و رفض الذهاب للبرلمان للقاء رئيس لجنة العشائر وقال انا استاذ مساعد في كلية التراث الجامعة ومن يريدني فليأت الى هناك وانا تحت امره.

موضوعية صارمة
وبالمناسبة فان استنتاجه ومفهومه الجديد عن العشيرة هما مغايران لقناعاته السابقة في هذه القضية وهو لايتوانى عن الرجوع عن رأي أو فكرة آمن بها ان توافرت لديه ادلة كافية لدحضها، وكانت هذه السمة واحدة من أسباب أصراري على مواصلة المحاولة معه لثقتي بموضوعيته حينما احمله امانة الحكم على الاحداث التاريخية وتوصيف ابطالها الفاعلين في تحريكها وصناعتها،وهناك مثال اخر ففي كتابه الاول (علم الاجتماع بين الموضوعية والوضعية ) الصادر العام 1978 وجه سليم الوردي انتقادات لاذعة لمنهجية استاذه وقريبه وابن محلته الكاظمية علي الوردي في خضم مؤثرات الأفكار اليسارية التي كانت توجه مساراته البحثية ومعتقداته في تلك الفترة، ولكن مالبث أن تراجع عنها في كتابه (ضوء على ولادة المجتمع العراقي الصادر من دار الصباح العام 2009)، وذلك وفر لي قناعة باني امام باحث جليل يمتلك مرونة عالية في النظر للاشياء وتقييمها،ويجعلني ذلك مطمئنا وانا اودعه امانة الحديث عن مفاصل مهمة من تاريخنا المعاصر التي له تماس معها او احتدم بها من خلال معايشته او اشتراكه ببعضها أو قربه من بعض ابطالها الرئيسين.

محلل للمشروع السياسي
واثبتت مؤلفاته قدرته على تشخيص أسباب وجذور الهزائم المتتالية التي مني بها المشروع السياسي العراقي منذ بواكير تاسيس دولته وحتى يومنا هذا.واسماء كتبه تشهد على ذلك (مقتربات الى المشروع السياسي العراقي (2005)، ضوء على ولادة المجتمع العراقي 2009،الاستبداد النفطي في العراق المعاصر2013) وما يخفف من الفجيعة والصورة القاتمة لهذا المشروع ما تتمتع به لغة السرد لدى سليم الوردي، فهي لغة جذابة مشوقة سلسلة تدربت على سلاستها في كتابة الرواية والمسرح وربما في محاولات شعرية،ولهذا فالقارئ لايجد صعوبة في قراءة مؤلفاته رغم احتوائها على الكثير من جداول الاحصاء والبيانات والارقام الصماء، لأنه يضعها في سياق لغة مشوق وصادق وحميمي، ينأى عن التوصيف الفائض او الانشاء المنمق الكاذب مع ضخه لاكبر قدر من المعلومات التي يجهد بالحصول عليها من مصادر ومراجع عالية الثقة بالنسبة اليه.
وبعد مضي اكثر من ثلاث سنوات قبل بالفكرة مع القبول بشروطه التي تتطلب التأني في الاجابة واستحضار المزاجية الخاصة بالكتابة التي اعتاد عليها في كل كتاباته حتى الصحفية منها،وسررت جدا بموافقته ومبعث سروري ليس نجاحي بتقديم سيرة مختصرة لطفل مولود مطلع اربعينيات القرن السابق في ازقة الكاظمية تمكن من الفوز ببعثة هيئتها ثورة 14 تموز لأبناء الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى التي ينتمي اليها، فكل ذلك سيرة نمطية يمكن أن تجدها في تتبع حياة العشرات من امثاله.ولكن اهمية الشهادة تعود للمؤهلات التي اكتملت لدى الباحث والكاتب سليم الوردي، وفي مقدمته أمانته في رواية التاريخ كما عهدته منه في رواية ليس من مؤلفاته العلمية والاقتصادية والسياسية بل حتى في كتابة روايته المنشورة (غارات الثور المجنح، ثم ان الوردي لم يرهقني في استنطاق سيرته وتتبع اهم شواخصها السياسية والاجتماعية، بل وجدته احيانا مشاركا معي في صياغة اسئلة فاتني ذكرها او العبور منها دون ايلائها ما تستحقه من اهتمام واعتبار،كل ذلك ومع صرامة منهجية في قراءة الظواهر والاحداث جعلني اراهن على الخروج بشهادة من نسقها المألوف، وغير المثير الى شهادة ستكون بالتأكيد واحدة من المصادر المهمة للباحثين في تاريخ العراق المعاصر في جميع مجالاته الاجتماعية والانثروبولجية والسياسية، بعد تكامل ادوات البحث المؤهلة للنبش في المسكوت عنه من هذا التاريخ واعادة قراءة أبرز مفاصله من جديد.
وفي الاخير ربما ادرك الوردي بان تقدم العمر وزحف الشيخوخة سوف لايدعان له مجالا او فرصة في محاكمة ذاكرته واسترجاع مخزوناتها من الاحداث والاسماء والظواهر،ربما كان ذلك واحدا من اسباب اقتناعه في خوض هذه المغامرة التي حقق فيها ما كنت اراهن فيه على قدراته البارعة ليس في مجال التشويق السردي وحسب بل بعمق ورصانة المادة المروية تاريخية كانت ام سياسية ام اجتماعية؟
لايمكن أن انتهي من هذه المقدمة دون المرور بالتوطئة التي كتبها لي قبل ان يباشر باجوبته لاسئلتي وقبل مونتاج الاجابات وتحريرها حسب تحقيب الاحداث وازمان وقوعها قدر الامكان يقول سليم الوردي في سطور هذه الديباجة:
(فاتحني الصديق العزيز الكاتب والاعلامي السيد توفيق التميمي بالانخراط في مشروعه المبدع شهادات عراقية ولكنني كنت اتردد في الاستجابة ظنا مني ان اصحاب تلك الشهادات قد تميزوا بالضلوع في الاحداث السياسية الجسام التي تتناولها شهاداتهم،اما انا فلم اسجل ضلوعا يذكر في تلك الاحداث واخشى ان يبدو نشازا اصطفافي مع تلك الشخصيات، ولكن السيد التميمي قد اقنعني ان الشهادة على الحدث لا تفترض بالضرورة الضلوع فيه، فضلا عن ان الشهادة لا تقتصر على الاحداث السياسية فقط بل وجوانب حياة المجتمع العراقي كافة، فاستجبت لطلبه).

وليد في عائلة مكتظة
* لابد في البداية من تعريف القارئ بشيء عن طفولتك ومؤثراتها التي ترسخت في بلورة وصياغة توجهات سليم الوردي لاحقا، لاسيما انك ولدت في مدينة لها خصوصيتها المدنية والدينية؟

- ولدت في 26 ايار من العام 1942 في مدينة الكاظمية وكانت العائلة تتكون من احد عشر فردا، الوالدان وخمس أخوات وأربعة أخوة، كنت أصغرهم سنا لذلك حظيت مع اخي الشهيد محمد (الذي كان يكبرني بسنتين بحب ورعاية جميع افراد العائلة، لاسيما اننا كنا قد ولدنا بعد وفاة أربعة اخوة) اتصف والدي مهنيا بعدم الاستقرار، فكان يتنقل من مهنة الى اخرى ولم يفلح في اية منها ما جعل الوضع المعاشي للعائلة هشا، وساعد على تدبير أمور العائلة انصراف والدتي الى خياطة الملابس لابناء الريف الذين كانوا يتوافدون على مدينة الكاظمية لزيارة العتبة الكاظمية المقدسة وبيع منتجاتهم الزراعية والحيوانية، وكثيرا ما كانت مكافأة الخياطة عينية من تلك المنتجات.

أخي الطبيب
بعد ولادتي بزهاء سنتين طرأ حدث مهم في حياة العائلة فتح امامها افقا ولو بعيدا لتحسن وضعها المعاشي والاجتماعي.وتمثل في قرار التحاق اخي الاكبر حسين بالدراسة في كلية الطب ولم يكن اتخاذ ذلك القرار بالامر اليسير، اذ لم يكن ينتسب الى كلية الطب وقتذاك الا ابناء العوائل الموسورة، فضلا عن انه كان يعني حرمان العائلة من مرتبه كمعلم في الدراسة الابتدائية.وقد حث اعمامي وبعض رجالات اسرة آل الورد على اتخاذ ذلك القرار ووعد بعضهم بدعم دراسته ماديا، وذلك لما كان يحتله الطبيب من مركز اجتماعي مرموق،ولكن كما يقول المثل: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن،فقد تأثر اخي حسين بالافكار الشيوعية التي كانت متفشية بين الطلبة وانضم الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي ونشط في فعالياته الجماهيرية،ما رتب عليه ان يصبح من زوار السجون والمعتقلات بين الحين والاخر واستمرت اخر محكومية له ثماني سنوات (1949 – 1957)،وهكذا وجدت عائلتنا نفسها في صميم تلك الاجواء السياسية المشحونة، ما ادى بها الى الانفتاح على عوائل المعتقلين السياسيين الذين كانوا ينتمون الى طيف واسع من القوميات والاديان والطوائف والمناطق، فمنهم الشيعي والسني واليهودي والمسيحي والصابئي والكردي والعربي و التركماني وغيرهم، وكان لذلك المشهد المجتمعي المتعدد والمنفتح على بعضه الاخر اثره الكبير في تشكيل رؤيتي المجتمعية التي لاتحكمها الاعتبارات العرقية والطائفية والمناطقية.

الحلقة الاولى من سلسلة حلقات كتبت
بعد لقاءات مطولة مع الراحل الوردي