جـــين شـــــارب من الدكتاتورية الى الديمقراطية / اطار تصوري للتحرر

جـــين شـــــارب من الدكتاتورية الى الديمقراطية / اطار تصوري للتحرر

حسب الله يحيى
الصراع الدامي الذي شهدته البشرية في حربين عالميتين، وحروب أهلية وأقليمية.. لم تتمكن ابداً من إرساء حياة بشرية آمنة ومستقرة.
هذه الحقيقة، هي التي أملت على المفكر الاميركي البارز جين شارب – ولد عام 1928 – افكاره وبناء فلسفته وموقفه في التأكيد على خطاب اللاعنف الذي دعا اليه في جميع كتبه التي ترجمت الى كل لغات العالم،

وهي التي رشحته مراراً لنيل جائزة نوبل للسلام، وهي – كذلك – تعكس طبيعة دعواته في العديد من المقابلات الثرية التي تحولت فيما بعد الى كتب، تعد نماذج أصيلة وحية في الخطاب الذي يعد اللاعنف من أفضل السبل التي تتطلب من الشعوب اللجوء اليها واستخدامها لبناء المستقبل الآمن المستقر.
يقول جين شارب في كتابه: (من الدكتاتورية الى الديمقراطية – اطار تصوري للتحرر) ترجمة: خالد دار عمر:
(ان المشكلة العامة هي كيفية القضاء على النظام الدكتاتوري، ومنع قيام نظام دكتاتوري آخر).
ويوضح الأمر: (لايجب تفسير هذا التحليل على أنه يعنى بانتهاء نظام دكتاتوري معين تنتهي جميع المشاكل، حيث ان سقوط نظام معين لايخلق المدينة الفاضلة، بل أنه يفتج المجال أمام جهود طويلة لبناء علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية عادلة، والى القضاء على اشكال اللاعدالة والاضطهاد الاخرى..)
ان أهم ماينبغي معرفته وبدء العمل على وفقه هو (تفكيك الدكتاتورية) بوصفها البؤرة الاولى للجريمة والفساد والاستئثار بالحكم ومن ثم بسط النفوذ الظالم والهيمنة على حرية وارادة الناس.
هذا الواقع الماثل امامنا، وجدناه في بلدان عديدة، تخلصت من دكتاتور ظالم، تنتقل الى دكتاتور أشد ظلماً وتعسفاً على حياة البشر.. وذلك بسبب استخدام اساليب العنف التي تم استخدمها من قبل.. وهو الامر الذي يتحتم الاتجاه نحو (استخدام النضال اللاعنفي على ترسيخ التوجه نحو الديمقراطية) ذلك ان (اللجوء الى وضع الثقة في اساليب العنف؛ انما يعني استخدام اسلوب للنضال يتميز الطغاة دائماً بالتفوق فيه) فماذا فعلنا إذا نحن استخدمنا ادوات الطغيان ذاتها التي استخدمتها الانظمة الدكتاتورية للهيمنة وبسط النفوذ؟
إن التجارب الحية تشير الى أن: (نجاح مقاتلي العصابات وتوليهم السلطة، فانهم يخلقون نظام حكم أكثر دكتاتورية من النظام السابق الذي حاربوا ضده بسبب تأثير مركزية القوات العسكرية الممتدة، وبسبب ضعف أو دمار مجموعات ومؤسسات المجتمع المستقلة التي هي بمثابة العناصر الحيوية في إنشاء مجتمع ديمقراطي دائم).
وهذا يعني ان سلسلة العنف مستمرة، وكل ما تغير هو العناصر المتنفذة التي تستأثر بالتغيير.. تغيير الوجوه الحاكمة والمتنفذة، وليس تغيير الاساليب القمعية التي كانت تمارسها تلك الانظمة الدكتاتورية.. التي تجد دعماً من الدول الأجنبية، لأن تلك الانظمة تحفظ المصالح الاقتصادية لهذه الدول وازاء ذلك قد تبيع الشعوب التي تزعم أنها تدافع عنها، لذلك يرى شارب ان السبيل الوحيد التحرر من الدكتاتورية (يعتمد اساساً على قدرة الشعوب على تحرير نفسها بأيديها.. باستخدام النضال اللاعنيف من أجل تحقيق أهداف سياسية) تعزز ارادتها في الحرية والعدالة والسلام ويشير شارب الى ان الدكتاتورية تعمد أحياناً الى التسوية السلمية مع القوى الديمقراطية الا ان أي التزام للدكتاتورية سرعان ما يتم انتهاكه.. وهو الأمر الذي يجعل مثل هذه التسوية أقرب الى الفشل منها الى النجاح.
ويورد شارب حكاية صينية تتعلق باقطاعي عجوز درب القردة على جمع الفواكه وتقديمها اليه.. وفي لحظة تساءل أصغر القردة:
هل زرع العجوز كل الأشجار؟ فأجابه أصحابه: بل هناك اشجار تنمو وتثمر لوحدها، عندئذ ادرك الجميع طبيعة الاستغلال الذي كان يمارسه العجوز فانقلبوا عليه وتمردوا وتخلصوا من عبوديتهم.. هذه الحكاية تشير الى امكانية خلاص الشعوب من الطغيان سلمياً حين تدرك واقعها بنفسها.. وعندئذ يصبح هذا الوعي مصدر إنطلاقها.. وهذا الوعي هو الذي يتبين فيه المرء نقطة الضعف لدى خصمه، كما هو الامر في اسطورة (كعب اخيل) الذي قاتل بضراوة في حروب طروادة، الى ان تمكن منه جندي كان يعرف ان مقتل (آخيل) يكمن في كعب قدمه التي لم تغمرها امه في النهر المقدس.. وكذا الأمر بالنسبة لأنظمة الحكم الدكتاتورية التي تحمل معها ضعفها ومن ثم قتلها ونهاية وجودها.
ويحدد جين شارب ثلاثة اساليب لاعنفية وصولاً الى إرادة الشعوب وهي: (الاحتجاج والاقناع، واللاتعاون، والتدخل) ذلك ان الاحتجاج وحده غير كافٍ ما لم يقترن بقناع الآخر بشرعية وحقيقة ومصداقية وعدالة هذا الاحتجاج، كما ان مقاطعة الانظمة الدكتاتورية وعدم التعاون معها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من شأنه أن يضعف تلك السلطة ويقودها الى الفشل.
أما التدخل فيكمن في اتخاذ شتى الأساليب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لالحاق وافراغ تلك السلطة من محتواها.
في حين تجد السلطة في استخدامها للعنف اهم وسائلها في مواجهة اعدائها.. لأنها لا تملك في خطاباتها منطلقاً سليماً يجعل الشعب يثق بها ويستجيب لنداءاتها.
وفي حالة تحقيق التغيير المنشود، يقول جين شارب:
(لايجب ان يعتقد أحد في أن مجتمعاً مثالياً سيظهر فور سقوط نظام الحكم الدكتاتوري، فسقوطه هو نقطة البدء التي تقع تحت ظروف حرية افضل تتيح المجال لبذل جهود طويلة الأمد لتطوير المجتمع وتلبية حاجاته الانسانية بشكل أفضل..).
وهو ما لاتنتظره بعض القوى التي لايشغلها امر سوى الوصول الى كرسي الحكم.. لتكون نظاماً قمعياً بديلاً، في حين تكون ارادة الشعوب المتلاحمة والمتآزرة هي الأمضى والأبقى.

* من الدكتاتورية الى الديمقراطية /
اطار تصوري للتحرر
تأليف: جين شارب / ترجمة: خالد دار عمر.
اصدار مؤسسة البرت اينشتاين.