امبراطورة الحبشة في مصر

امبراطورة الحبشة في مصر

لما نزلت في ضيافة يوسف سليمان باشا"المنزل العائلي"تركع خاشعة عند قدمي البطريرك، تزور جلالة الملكة فيتفضل الملك برد زيارتها.
تأكل السمان ولا تأكل الحمام، الغد لم يخلق بعد، 30 جنيها هبة للخدم

عيب!
المتبع في الدار البطريركية القبطية الارثودكسية ان يكون لصاحب الغبطة البطريرك، إلى جانب السكرتير المصري، سكرتير آخر حبشي هو بمثابة مندوب عن الحبشة في الدار، يعرض على البطريرك شؤون أمته الدينية ويستمد منه الرعاية والبركة وحدث في شهر مارس سنة 1923 ان ارسلت الحبشة الى الدار البطريركية رسالتين:
احداهما الى غبطة البطريرك (وكان المتنيح الانبا كيرلس) وخلاصتها ان الاميرة متن (زوجة ولي العهد والقائم مقام الامبراطورة) تطلب بركة قداسته لاعتزامها السفر الى القدس، وتستأذنه في الحضور الى مصر بعد ذلك للتبرك بدعواته الطاهرة واما الرسالة الثانية فكانت الى السكرتير الحبشي، تطلب فيها الاميرة ان يحجز لها ولحاشيتها جناحا خاصا في فندق فخم كبير دون ان يعرض الأمر على أحد لأن الزيارة غير رسمية.
وفكرالسكرتير الحبشي في ان يستأجر جناحاً خاصاً في فندق شبردن ولكنه رأى قبل ان يقدم على ذلك ان يعرض الأمر على غبطة البطريرك، فلما علم غبطته بالأمر تكدر لهذه الفكرة، ورأى انه من العيب ان تنزل اميرة شرقية (ولم تكن قد توجت بعد امبراطورة على الحبشة) في فندق عام وسط الاجانب والسائحين، ولهذا أسرع بالرد عليها يدعو لها بالبركة تشملها في حجها المبرور، ويذكر لها ان مصر ترحب بمقدمها، وستنزل في جناح خاص بمنزل"ابني العزيز يوسف سليمان باشا"..
وأعد الباشا العدة في قصره الواقع في نهاية العباسية، حتى اذا وصلت الأميرة استقبلت بالترحيب والاكرام، ونزلت مع حاشيتها في القصر المذكور. وكان ضمن حاشيتها وزير الخارجية، ووزير الحربية، واحدى اميرات البيت الملكي (زوجة الدكتور مارتن وزير الحبشة في لندن الآن) وغيرهم من العظماء، وكان يسهر على راحتهم مضيفهم الباشا وزوج ابنته صاحب العزة كامل بك ابراهيم (وزير الزراعة الآن) وفهيم بك سليمان القاضي.
المنزل العائلي
وكان طبيعياً ان يخصص الباشا معظم قصره لهم، فقد اقامت الحاشية في الدور الأول، واقامت الاميرة وسكرتيرتها الاميرة الصغرى في الدور الاوسط، واما عائلة الباشا فاقتصرت على الدور الثالث فقط.
واجتمعت"الاميرة"في اليوم التالي بحاشيتها على المائدة، ولاحظت ان احداً من أسرة الباشا لم يتقدم الى المائدة، فطلبت اليه ان يستدعي جميع أفراد عائلته لتناول الطعام معهم على مائدة واحدة، فقد اصبحت الرابطة عائلية. واصبح هذا.. المنزل منزل العائلة..
وقد نفذت إرادة الأميرة، واصبحوا يجتمعون دائماً على مائدة واحدة.
الزيارة الملكية
وبادرت الاميرة بعد ذلك الى زيارة صاحبة الجلالة ملكة مصر في قصر القبة العامر، وكانت الزيارة ودية دامت أكثر من ساعة وجلالة الملكة تبالغ في الحفاوة بضيفتها الكريمة.
وتفضل جلالة الملك بعد ذلك برد الزيارة، فتوجه الى منزل يوسف باشا سليمان حيث استقبلته الاميرة وحاشيتها واضحاب الدار اعظم استقبال.
وقد تفضل جلالة الملك فأمر ان تخصص احدى السيارات الملكية الخاصة لتنقلات الاميرة. كما قدمت لها الحكومة قطارات خاصة لتنقلاتها في اسفارها.
وكذلك احيطت بجميع مظاهر الاجلال والترحيب العظيمين.
البركة المقدسة
في صباح اليوم التالي لوصول الاميرة بكرت سموها وحاشيتها (وكان يوم الأحد) في القيام وذهبوا جميعاً الى الدار البطريركية، ولما رأت الاميرة غبطة البطريرك ركعت خاشعة عند قدميه، وقبلت يده في خشوع، والتمست منه الدعاء وان يبارك الجنين الذي في احشائها، فباركها البطريرك وبارك ذلك الجنين، (وهو الدوق اوف هرر: الامير ماكوتن) وهو الابن المحبوب الذي يؤثره امبراطور الحبشة على غيره.
لا تأكل الحمام
ومما يلذ ذكره في هذا المقال ان سمو الاميرة اعجبت بانواع اطعمتنا المصرية وطرق طبخها، وكانت تأكل مع حاشيتها على الطريقة الافرنجية بشهية حسنة. وتصادف ان تقدم اليها"السفرجي"ذات مرة يحمل طبقاً كبيراً يحوي بعض السمان المحشو، فلما رأته اعادت يدها رافضة ان تأخذ منه، ونظرت الى الباشا تسأله كيف يستبيح المصريون ذبح الحمام وأكله؟
فأجاب الباشا ان هذا اولا ليس بحمام، انما هو سمان، وثانياً: من الذي حرم أكل الحمام؟
فتناولت الأميرة السمان وقالت:
- آخذ منه مادام سماناً، اما الحمام فلا نأكله.
فكرر الباشا سؤاله فأجابت:
- لم تحرم الشريعة أكله ولكن كيف نبيح نحن لأنفسنا هذه القسوة، والحمام هو الطائر الامين الوديع الذي عاد الى نوح يحمل في فمه غصن الزيتون دلالة على رفع الاله غضبه عن الارض؟
الغد لم يخلق
والاحباش جميعاً شديدو التقوى والايمان، يقدسون البطريرك ويحترمون رجال الدين احتراماً شديداً، ويقومون بالفروض والعشائر الدينية على اكمل وجه وكان صاحب العزة كامل بك ابراهيم يرافق الاميرة في اثناء زيارتها للمعابد والكنائس والآثار، وتقدم اليها في اليوم الاول ببرنامج رحلة اليوم الثاني، والاماكن التي سيزورونها لمشاهدتها، وطلب الى الاميرة ان توافق على هذا البرنامج ليصبح معدا للتنفيذ.
فنظرت اليه الاميرة باسمة وسألته:
- ما هذا...؟
فقال:
- برنامج الغد..
فقالت:
- لم يخلق الغد بعد، فدع الغد لله وحده.
30 جنيهاً
وقد اقامت الاميرة في مصر ثلاثة اسابيع، سافرت خلالها الى الصعيد في قطار خاص على نفقة الحكومة حيث شاهدت آثار الاقصر.
ولما اعتزمت الرحيل شاكرة لمصر والمصريين ما لقيت من الحفاوة والترحيب، أمرت وكيلها ان يهب خدم البيت هبة مادية، واتصل الامر بسعادة المضيف فرفض بتاتاً ان تتكبد الاميرة او حاشيتها اي بذل او صرف، وعاد الوكيل ينقل الخبر الى الاميرة، فلم يكن منها إلا ان رجت من كامل بك ابراهيم ان يقنع الباشا باجابة رغبة الاميرة وهي هبة بسيطة للخدم وقدرها 30 جنيهاً فقط. فلم يرفض الباشا رجاء الوسيط!
***
كانت هذه اول زيارة حبشية ملكية لمصر، توطدت فيها العلائق بين الأمتين وكان لها في نفوس الاحباش قاطبة اطيب الذكر واعمق الاثر.
وقد توجت الاميرة متن بعد ذلك امبراطورة على الحبشة ولا تزال تحفظ لمصر في قلبها أسعد الذكريات.


كل شيء والدنيا/
تشرين الاول- 1935