رعد عبد القادر.. (يكتب كل يوم قصيدة موته)

رعد عبد القادر.. (يكتب كل يوم قصيدة موته)

صفاء ذياب
أضع عيني على الفتحة
انظرُ في الداخل إلى الخيوط
إلى الدمى المتحركة..
إلى خيالي يلتصق بوردة الظلِ
في الضفة الأخرى من الحياة،
إلى وردة المكان المهدمِ.
أضع عيني على فتحةٍ في جدار.

هذا أحد النصوص التي أهداها الشاعر رعد عبد القادر (1953 – 2003) لصديقه المقرب الشاعر عبد الزهرة زكي، فقد كتبت هذه النصوص التي عنونها بـ»رسائل إلى الضفة الأخرى»بتاريخ 1 آذار 2001، ضمن مجموعة غير منشورة في وقتها»في ذكرى ساعي البريد».

علاقة عبد القادر بزكي لم تكن عابرة، بل إن أحد أسباب انهيار صحة عبد القادر وإصابته بالنوبة القلبية التي أدت إلى وفاته في الثالث عشر من كانون الثاني في العام 2003، كانت بسبب اعتقال زكي من قبل»المخابرات العراقية»في عهد النظام المباد. كان عبد القادر يمشي من دون وعي ولا يعلم بوجود آخرين طوال أيام اعتقال زكي، وكنّا نرى صحته تنهار شيئاً فشيئاً حتى فوجئنا برحيله في يوم لم يكن كباقي الأيام، ففي الوقت الذي كنَّا نتألم لاعتقال زكي، ومحاولات بعض الأصدقاء لمعرفة مكان اعتقاله، والأسباب التي أدت لذلك جاء خبر رحيل عبد القادر ليفجر الألم الحقيقي، الذي كنا نختزنه منذ عشرات السنين. كانت أمنية عبد القادر قبل رحيله هو أن يرى زكي حرّاً، غير أن هذه الحرية لم تأت إلا بعد الرحيل بأيام ليست بالطويلة، فبدلاً من أن نذهب لعبد الزهرة زكي لتهنئته على إطلاق سراحه، كنا نذهب إليه لنعزيه برحيل صديقه الذي لا يقبل بفكرة حريتنا المنخورة.

الشعر وتحولاته
ابتعد رعد عبد القادر عن صخب السبعينيين؛ أصدقائه وشعراء جيله، على الرغم من انه في أكثر من حديث يرفض أن يركن في خانة جيل، فكان يحب أن يبقى محلقاً في الشعر من دون تقسيمات ولا تبويبات جيلية أو شكلية في القصيدة. فكانت مجموعته الأولى (مرايا الأسئلة) التي صدرت في العام 1979 تحمل روح المغامرة والمغايرة، ومن ثمَّ كتب مجموعته الثانية (أوبرا الأميرة الضائعة) التي لم ينشرها إلا في العام 2000. أكثر من عشرين عاماً كان يخبئ هذه المجموعة في خزانته حتى صدورها، وقد أسماها (كتاباً شعرياً)، لأنه»تولدت لدي أحلام شعرية ممتزجة بأحلام حياتية في كتابة سيرة حلمية شعرية تمسك بثيمة الجمال، وتخلق من حولها عالماً يوازي نهارات الروح ولياليها الضاجة بالكشوفات، رافقني حلم الكتابة، وكنت واقعاً بين منطقة عالم الخيال وعالم الواقع.. أو أقع في منطقة الجدل والتجاذب والحوار. وفي مرة صحوت على وقع كلمة كانت صوتاً ورؤيا جمالية خالصة، تحيط بها تفاصيل شديدة الواقعية»، هذا ما قاله عن أوبراه في حوار نشر بجريدة»الحياة»اللندنية، فهذه»الأوبرا»كتاب شعري، يتقدم كثيراً على قصيدة النثر التي شاعت كتابتها في العراق بعد منتصف الثمانينيات، وهي كتابة جديدة، أخذت شكل الرواية الشعرية، من حيث توزيعها إلى فصول، أو شكل الأوبرا من حيث توزيعها إلى مشاهد، للكلمة فيها علاقة- من حيث التحسس- بفن الموسيقى. ولهذا قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام، وثلاث حركات، وأعتقد أنني كنت مدفوعاً في كتابة هذا العمل الذي أنجزته في بداية العام 1980، ونشرته في مجلة»الطليعة الأدبية»العام 1986، ثم صدر بكتاب منفرد، بقوة الشعر.. الشعر بوصفه كشفاً معرفياً، وبقوة الروح بوصفها باحثة أبدية عن سر تكوينها، ولم يكن يشغلني إلى أي جنس تنتمي هذه الكتابة، وما هي درجة مغامرتها التجريبية، وأين ستضعني شعرياً. كل ذلك جاء متأخراً.. من آخرين، وصفوا تجربتي في كتابة «الأوبرا» بأنها تجربة ريادية في كتابة قصيدة النثر الطويلة، أو في كتابة النص المفتوح».
سبق إصدار»أوبرا»عبد القادر هذه مجموعتان شعريتان: (جوائز السنة الكبيسة)، و(دع البلبل يتعجب)، وقد كانتا مختلفتين عن التجارب السبعينية والثمانينية التي رافقت إصدار هاتين المجموعتين، فـ»جوائز السنة الكبيسة»صدر بالكامل بخط يدوي يشبه المخطوطات العربية من جهة، وكتب الطلاسم من جهة أخرى. أما»دع البلبل يتعجب»فقد كان أنموذجاً للشعراء التسعينيين في كتابة القصيدة اليومية التي اشتغل فيها عبد القادر من خلال تمثُّل كل ما يمكن أن يحيط بنا، نحن العراقيين، من حيوات لم تمرَّ إلا علينا نحن.أما كتابه المثير للجدل (الأطروحة الشعبية)، وقد ذيله (نص في الكتابة الشعرية الجديدة) فعلى الرغم من إنجازه في العام 1994، إلا أنه لم يتمكن من طباعته حتى يوم رحيله.

قصيدة نثـر خاصة
على الرغم من كتابة رعد عبد القادر أكثر من مجموعة شعرية كقصائد نثر، غير أنه كان يبحث عن أنموذجه الخاص، الأنموذج الذي يسعى للتفرد به عن نصوص النثر العراقية والعربية. فبعد أكثر من كتاب شعري- يؤكد عبد القادر أن اشتغاله دائماً ضمن كتاب شعري وليس مجموعة قصائد مجموعة في كتاب- أصدر مجموعته الشعرية الأخيرة- في حياته- تحت هامش»قصائد نثر»، وقد كانت بعنوان (صقر فوق رأسه شمس).لم يصدر هذا الكتاب ضمن دار نشر معروفة، بل أصدره بطريقة الاستنساخ وكان الغلاف»كارتونا»جلديا خُطَّ عليه العنوان بالسكرين، إلا أنه أخذ شهرة كبيرة أكثر من أية مجموعة شعرية سابقة لعبد القادر. فالأسلوب الخاص الذي اشتغل عليه في كتابة هذا الكتاب كان واضحاً، ولغته كانت أقرب للغة اليومية التي تسعى قصيدة النثر العراقية للوصول إليها. وعلى الرغم من المجموعات الكثيرة المخطوطة التي كانت لدى عبد القادر، إلا أنه أصر على إصدار هذه المجموعة لأهميتها عنده، ولمعرفته بالمغايرة التي كان يبحث عنها، والتي أراد أن يعرف بها. وربما كانت من أواخر قصائد المجموعة نبوءة تضاف للنبوءات الشعرية العراقية، وهي نبوءة عبد القادر بموته القريب:يكتب قصيدة موته.يكتب قصيدة موته كل يوم.
يكتب كل يوم قصيدة موته الجديدة.
وكلما انتهى من القصيدة
توقع إنه وضع خاتمة لحياته