شكسبير… الحاضر أبداً

شكسبير… الحاضر أبداً

عبد الواحد لؤلؤة
بعد وفاته عام 1616 بقي هذا الشاعر العالمي حياً طوال هذه الأربعمئة سنة. فهو حقاً قد ملأ الدنيا وشغل الناس: ملأ الدنيا، لأن أعماله من مسرحيات وقصائد قد تُرجمت إلى أغلب لغات الدنيا المعروفة، إن لم تكن لأجمعها. يا ترى كيف يبدو إيقاع قصائد شكسبير باللغة الصينية، أو اليابانية، أو الملاوية، وفي هذه اللغات العجيبة وأمثالها ترجمات من قصائد الحب الشكسبيرية ومسرحياته؟

لغات عجيبة بالنسبة لنا، نحن القراء بالعربية، مثلما تبدو لغتنا العربية عجيبة لأهل تمبكتو وجزر القمر… ولكن.. وكل يدّعي وصلاً بليلى!
ولأن شكسبير قد ملأ الدنيا، نجد بعض شعوب الأرض ترى أن الشاعر ينتسب إليها. وراح بعضهم يدقق في اشتقاق كلمات وأسماء وردت في القصائد والمسرحيات لينسبها إلى لغة قومه. فهذا أديب عربي قال إن مسرحية «أوثلّو»هي تحريف من (عطا الله) وان اسم شكسبير نفسه أصله (شيخ زبير).. وثمة أديب من الساحل السوري يرى أن (شيخ أسبر) هو الأسم الحقيقي للشاعر! والأنكى من ذلك أن أستاذاً جامعياً خطط صورة شكسبير بلحية أندلسية وعقال سعودي مقصّب، نشرها في مجلة معروفة قائلاً: أليس هذا الرجل عربياً؟
هذا الهذر دليل على تغلغل شكسبير وأعماله في مخيال البشر، ليبرهن على قـــول أديب معــاصـــر إن شكــسبير شاعر لجـميع الفصول، ونزيد: لجميع البشر!
يدلل شكسبير على أن الموهبة تصنع الشاعر قبل التعليم… والثقافة. لم يكمل وليم شكسبير المدرسة الوحيدة في ستراتفورد ـ أون ـ ايفن، وبالطبع لم يلتحق بأية جامعة. لكن سلاحه الوحيد هو القراءة التي قدحت زناد موهبته الفطرية. وفي أول شبابه، لا نعرف بالضبط متى، نزل إلى لندن، والتحق بالمسرح، ممثلاً أول الأمر، دون تدريب، وما لبث أن بدأ يؤلف المسرحيات، معتمداً على القليل من «ثقافته». لكن نجاحه المذهل أذهل من حوله من المؤلفين المسرحيين، فتحركت غيرتهم وهاجموا هذا «الغراب المتقافز الذي يتجمّل بريشاتنا». فهو «يعرف قليلاً من اللاتينية، وأقل من ذلك من الإغريقية» في إشارة قاسية إلى أنه لم يتثقف جامعياً… مثل المسرحيين «الجامعيين». وربما كان ت.س. اليوت خير من أنصف شكسبير بقوله «إن هذا الشاعر قد أفاد من ترجمة (نورث) لكتاب «مشاهير الإغريق والرومان»أكثر مما أفاده كثيرون من مكتبة المتحف البريطاني برُمتها». من هذا الكتاب الوحيد أخذ شكسبير حبكات مسرحياته وشخصياته الإغريقية والرومية (وليس الرومانية).
من هذا الكتاب الوحيد، ومن حكايات التاريخ العالمي والبريطاني، وربما من الإصغاء إلى حكايات البحّارة الأجانب القادمين إلى المرفأ في لندن وخاناتها التقط الشاعر حكايات عن عوالم غير أوروبية، فصاغتها موهبته مسرحيات شتى.
وقد ألّف شكسبير 38 مسرحية، منها اثنتان بالاشتراك مع مسرحي آخر، وكان هذا أمراً مألوفاً في القرن السادس عشر. وفي أواخر ذلك القرن شاعت كراهية شديدة لليهود في بريطانيا، مستعيدة تراثاً بريطانياً يعود إلى عهد الملك إدوارد الأول، الذي أصدر إرادة ملكية عام 1290 بطرد جميع اليهود من بريطانيا، وبقي اليهود محرومين من الدخول إلى البلاد إلى أن جاء أوليفر كرومويل فألغى ذلك الوضع عام 1656، أي بعد أكثر من 350 سنة.
قد يتساءل المرء بحسن نية، طلباً لجواب مقنع: لماذا هذا الموقف العالمي من اليهود منذ سبي نبوخذ نصّر إلى هتلر؟ سؤال يدخل المنطقة المحرّمة من الأسئلة… ولكن… ولكن!
استجاب شكسبير لذلك الشعور العام في بريطانيا القرن السادس عشر، فكتب مسرحية «تاجر البندقية»وكان عنوانها الأصلي «يهودي البندقية»وقد سبقه في ذلك معاصره كريستوفر مارلو الذي كتب مسرحية «يهودي مالطة». ثمة مقاطع في مسرحية شكسبير يتعاطف فيها مع اليهودي «إنسانياً» لكن صورة (شايلوك) الجشع المرابي هي التي علقت في ذهن الأجيال. ولكن في أمريكا يصرّون على تهمة شكسبير باللاسامية، ولو أنه عاش قبل النازية بقرون! أخبرني أستاذ أمريكي أن مسرحية «تاجر البندقية»غير متداولة في المدارس والجامعات الأمريكية، وممنوع الحديث عنها في أغلب الأحيان منعاً باتاً. وقد لا نستغرب إذا علمنا أن تهمة اللاسامية شملت ت.س. اليوت نفسه، لسبب أقل من سخيف. ثمة إشارة إلى «واليهودي يُقعي على عتبة النافذة، مالك الدار»المهدمة التي يسكنها جيروش بطل القصيدة، وهو ليس ببطل، بل مواطن مسحوق تحت استغلال الملاّكين.
ولكنها الحماسة الأمريكية العجيبة الغريبة، وشيء من «الغيرة»الأغرب من كل حضارة أقدم وأعرق من «مدنية» ولا أقول «حضارة» ناطحات السحاب.
في أواسط الخمسينات نشرت الصحف الأمريكية خبراً عن حماسة وطنية، لأستاذ جامعي ادّعى، مثل غيره من المهووسين، ان أعمال شكسبير ليست له، بل لفلان أو علان من معاصريه. وأنه (يعلم) أن الوثائق بخط يد شكسبير مدفونة معه حسب وصيته. فاتصل هذا الوطني الفهلوي بمجلس عمدة لندن وطلب السماح له بفتح قبر شكسبير لاستخراج الأوراق الثبوتية. حسناً: تدفع مليون دولار؟ أجاب الفهلوي: حاضر. كان العمدة بحاجة إلى تمويل لإصلاح مجاري الصرف الصحي في لندن، وجاءه الغيث. وفُتح قبر الشاعر ولم يجدوا الكنز المطلوب وعاد الباحث العبقري بخُفي حَسَنين، لعدم وجود حُنين.
تُهمة اللاسامية، الموجهة ضد شكسبير وجدت قريباً منها في بدايات القرن التاسع عشر بين بعض الباحثين الأمريكان: تهمة المثلية. هنا موضوع طريف من عمى البصيرة وعدم القدرة على تمييز ظلال المعاني وسياق ورود الكلمات. كتب شكسبير 154 «غنائية»يصرّ المصابون بعقدة الخواجا على ترجمتها سونيتات، بدل تعريبها غنائيات، وهي كلمة تفيد المعنى بدقة. كان شكسبير (يحب) فتى من علية القوم، وليم هربرت، إيرل أوف بمبروك. أولاً، كلمة (حب) غير واضحة المعنى في الانكليزية وغيرها من اللغات الأوروبية، لكن أهل الحضارة الغربية يفهمون الحب بالمعنى الجنسي دون غيره، فقالوا إن شكسبير (يحب) الفتى (بمبروك) إذن هو حب شذوذ جنسي. لكن دراسة الغنائيات في نصها الحرفي لا تُظهر اية إشارة جنسية أو جسدية من جانب المحب والمحبوب على الإطلاق، فمن اين جاءت مثلية الشاعر؟ الغنائيات 1 ـ 27 رجاء وتوسل من الشاعر للفتى الوسيم خلقة والجميل أخلاقاً ليتزوج، لكي يخلّف للعالم ذرية تديم وسامة الأب وجمال أخلاقه: «من أجمل المخلوقات نبتغي المزيد/فبذلك لا تغيب وردة الجمال أبداً». هذا اللحن الرئيسي يستمر طوال السبعة والعشرين الأولى. وما يتبع حتى الغنائية 126 حديث عن الحب والجمال والطبيعة دون إشارة جنسية واحدة من المحب أو المحبوب. بعد ذلك مباشرة، الغنائيات 127 ـ 152 قصائد تعج بالشبق تجاه «السمراء»التي اختلف الباحثون في تحديد هويتها. هذا الخلاف الشديد في موضوع الجنس بين جميع غنائيات القسم الاول وبين غنائيات «السمراء»السوداء بأخلاقها، هل يُعقل أن يغيب عن أي باحث أو قارئ… ذكي؟
هذا ما يناقشه باحثون معاصرون من المتخصصين في أعمال شكسبير، مثل إنكرام، رِدياث، وبوث وغيرهم. فكيف نتجاهل النصوص الأصلية ونستمع إلى القيل والقال، مما لا يعتمد على دليل ملموس؟
نشرت الغنائيات أول مرة عام 1609 في حياة الشاعر. وبعد ذلك بثلاثين سنة قام بنسن باعادة نشرها عام 1639 بتحريف بعض الاسماء والإشارات. واستمر النشر واعادة النشر وليس من اشارة إلى مثلية جنسية عند الشاعر، مع أن حسّاد الشاعر كانوا كثيرين، فهل يعقل أن أحداً لم يُشر إلى تلك التهمة لو كان لها ظلّ من حقيقة؟ وفي عام 1711 نشر لنتوت طبعة جديدة من الغنائيات يقول في مقدمتها إنها «قصائد في مدح خليلته» ولم يخطر بباله تهمة المثلية. لأن المثلية لم تكن معروفة في الثقافة الأوروبية إلا في سياق توراتي يلعن قوم لوط وعامورة.
غير أن بدايات القرن التاسع عشر في أمريكا تقول حتى الفيلة أفضل وأكبر من أمريكا عما يوجد في بلاد أخرى.