الرحالة البريطانية فريا ستارك في بغداد.. مشاهدات نادرة وذكريات طريفة

الرحالة البريطانية فريا ستارك في بغداد.. مشاهدات نادرة وذكريات طريفة

ابتسام حمود الحربي
احتلت الأراضي الواقعة بين الشرق والغرب لعدة قرون خاصية جذب للرحالة الخياليين الذين سحروا بالحضارات القديمة والحديثة خلال المائة سنة الاخيرة، ومن هؤلاء الرحالة الذين لم يرفدوا أدب الرحلات بالمزيد من المعلومات فحسب، بل رفعوه الى مستويات جديدة الرحالة البريطانية فريا ستارك. وعلى الرغم من ان استكشافاتها ورحلاتها القليلة

في مناطق الآثار القديمة اقل خبرة من تلك التي انجزتها غرترود بيل، اذ انها لم تكن عالمة آثار، ولم تمتلك الجانب العلمي في هذا العلم على الاطلاق ، بل كانت متخصصة في وصف الشعوب البشرية Ethnographer ، اذ كان لفريا ستارك خاصية، او ميزة كونها رحالة ومراقبة، كما انها ادركت ان الصفة الرئيسة للسفر تكمن في تسليم المرء نفسه الى التجربة والاندماج الكلي مع الناس المحيطين به، وتقبل ما هو آت، وبهذه الطريقة يصبح جزءا من الارض.

زارت فريا ستارك غالبية مناطق العراق من الشمال الى الجنوب، واختلطت مع طبقات الشعب المتعددة ورؤساء الطوائف الدينية وشيوخ العشائر والنساء والاطفال، ولم تترك منطقة شعبية الا ودخلتها، اذ كانت هوايتها ومتعتها مراقبة الحياة الاجتماعية والعادات الشعبية في العراق، ودونت ما شاهدته في مجموعة من مؤلفاتها التي اثمرت عن زياراتها المتكررة للعراق. كانت رغبة فريا ستارك لزيارة العراق سبقت زيارتها، ففي تشرين الاول من العام 1927طلبت من بعض اصدقائها في العراق، التحدث مع جعفر باشا (العسكري)، وكان حينها رئيسا للوزراء لكي تحصل على تأشيرة دخول، وقد دعاها فعلا للحضور الى
العراق. هذه الخطة تزامنت مع تغير الاوضاع في العراق فاصبح، الباشا وزوجته يمثلان العراق في لندن، لذا استبدل مكان الدعوة الى هناك، اذ دعاها جعفر باشا وزوجته لتناول طعام الغداء، ولبت الدعوة بكل سرور. امتاز الباشا بضخامته ولحيته وسرعة بديهيته وخبرته بالقانون الانكليزي، وكانت زوجته اقل نشاطاً منه، وهي ذات عيون سوداء مستديرة. ومن خلال هذا اللقاء حصلت على تأشيرة دخول عراقية، وحصلت ايضا على خارطة لبغداد، ثم بدأت بمطالعة كتب عن العراق، ومن بينها كتاب عن بلاد اشور واهم ملوكها. وفي نهاية تشرين الاول 1929 عبرت فريا ستارك الصحراء بواسطة سيارة مع ثلاثة مسافرين، وسائق ارمني.
وعندما وصلت الرمادي كانت ممرات السيارات كثيرة، اذ ان كل سيارة تمر تترك اثرا لها، وهناك (مكتب جوازات سفر العراق) محاط باشجار النخيل وقطيع الاغنام، والعرب كلهم يبدون هنا اكثر سمرة بكثير من السوريين، كما انهم اكثر جاذبية منهم. وكان ضباط الجوازات العراقيين يستقبلون المسافرين بابتسامة سريعة وجذابة، وهم كفؤون جدا في عملهم، اذ حذفت تاشيرة الدخول ولم تعرضها، ويرتبط ذلك باشارتها الى تناول طعام الغداء مع جعفر باشا. وبعد ساعتين تم التوجه عبر طريق صخري منخفض عند الفلوجة، وهي قرية تقع على جسر من القوارب عبر الفرات. سارت السيارة بعدها لمدة ساعة عبر اشجار النخيل حتى بغداد. وقد وصفتها فريا ستارك بانها مدينة الغبار الضار"Wicked dust"، فكل خدش في الجسم يمكن أن يتلوث اذا لم يكن الشخص حذرا، كانت دائرة الكمارك في بغداد مليئة بحمالين اكراد يرتدون عمامات حمراء وصفتهم بكونهم اناساً طيبين ونظرتهم حادة، ثم جاءت عبر نهر دجلة الذي يربط جانبيه جسر من الزوارق شبيه بمدينة البندقية بناءا وماءا.
ان عدم جاذبية الفنادق المحلية في ذلك الوقت، اضافة الى الحالة الاقتصادية المتردية التي تعاني منها فريا ستارك والتي لا تساعدها حتى على السكن في اردأ الفنادق، دفعها لقبول السكن في النادي البريطاني، لكن بعدما علمت انه لا يسمح للعرب بدخوله رأت ان من الحماقة على شخص يقطع كل هذه المسافة لتعلم اللغة العربية ويبقى منعزلا عن المجتمع العربي. فقررت السكن في احد الاحياء الشعبية، اذ استأجرت بيتا ذا جدران من الطابوق والنوافذ الكبيرة. وفي باحة الحديقة الصغيرة قرب المنزل كان هناك عشرون او ثلاثون طفلا يتعلمون دروسهم على يد الملا الذي يجلس بينهم، ووضعت بينهم عشرة كتب، وهم يجلسون على شكل مجموعات من ثلاثة الى اربعة حلقات، ويرتلون آيات القران الكريم، وكان بالقرب من المنزل محل الصائغ والبقال، ومحل القصاب، وجامع ملون بالقرميد الازرق، ويقع بالقرب من الدار شجرة النبق التي تضرب على شبابيكه الجديدة والمصبوغة باللون الابيض. وايجار الدار اليومي من سنت الى ثلاثة سنتات.
اشترت فريا ستارك اثاثا بسيطا لمنزلها من سوق الحرامية، وكان الجيران متعاطفين معها، وقد اعتادت فريا ستارك ان تصحو كل صباح على صوت النساء يتقاطرن على البيع والشراء، وكان كل جزء في بغداد له لكنته وطريقته في الكلام، ومن الكلمات التي اعتادت على سماعها"والله"و"يله"، وكانت النساء يأتين الى الجامع لغرض التزود اليومي بالماء للمنزل، وكن يتحركن برقة، فكان الماء يوجد في بغداد، لكن بعض الاغنياء يحصلون عليه بواسطة الحنفيات، ومن الامور التي اعتادت عليها ايضا سماع صوت الملا وهو ينادي المصلين للصلاة.
كانت فريا ستارك محاطة باناس بسطاء، ويملؤها احساس بالألفة والصداقة على الرغم من ان اخبار الصحف في بغداد كانت معارضة للبريطانيين، الا ان ذلك لم يزعجها، كما انها ذكرت بان مبدأ الوطنية لم يزعج البريطانيين عموما، وان الناس كانوا لطفاء معها باستثناء الصائغ الذي كان محله قريباً من منزلها، وارسل لها رسالة تهديد يذكر فيها انه سيقتلها اذا خرجت من منزلها.
تقع بغداد في أرض منخفضة ومنبسطة كثيراً، بحيث لا يوجد مجال لتصريف المياه الزائدة، لذا كان كل بيت في بغداد يبني على جزء معبد صغير أو كبير وفي وسط الساحة يوجد سرداب لتصريف المياه الزائدة، لذا تكون هناك رائحة كريهة في الدار طوال اليوم، وتكون حالتها اسوا في ايام الشتاء بعد المطر، اذ ترتفع المياه الاسنة. لان نظام التصريف كان بدائيا جدا، وعلى الرغم من ذلك احبت فريا ستارك السكن في هذه المنطقة رغم ما سمعته من الخدمة المدنية البريطانية التي عدت السيدات اللواتي يسافرن الى الشرق للمتعة شاذات، وانها لا تشجع النساء للذهاب اليه. وعدت السلطات البريطانية فريا ستارك جاسوسة ومتمردة. وان النساء البريطانيات الشابات لم يكن متعاطفات معها، وغير مرغوب بها من ازواجهن، لكنها لم تابه لذلك كله لانها عدت بغداد قريبة الى منظر حدائق عدن، واعتقدت بمرارة ان الجنة التي يديرها مكتب المستعمرات البريطاني اذا لم تكن هناك فرصة على الاطلاق لدخولها فانها سوف تشكر الله على ذلك. وانها ستستغني عن تلك الجنة بمشاهدة بغداد عن كثب.
بعد مدة انتقلت فريا ستارك الى مسكن جديد، وكان غرفة في بيت نجار يدعى الياس، وزوجته تدعى نجلاء، كان المنزل في الجزء الغربي لنهر دجلة ويضم خمس نوافذ تشرف على النهر باتجاه مقر المندوب البريطاني، كان النهر يبدو منخفضا ثم يرتفع وقت الربيع، ويحيط بالبيت اشجار النخيل، وكان لالياس وزوجته طفلان، وقد شاركتهم فريا ستارك بالسكن في المنزل والمصاطب التي تشرف على النهر، ومعها خادمتها الارمنية ماري.
قابلت فريا ستارك عدة اشخاص خلال الشتاء الاول لها في العراق، ومن بينهم السير كنهان كورنواليس الذي اصبح فيما بعد صديقا لها، وقد إنشغلت ستارك آنذاك يتعلم اللغة العربية في منزل السيدة دراور وزوجها الذي كان يعمل مستشارا قانونيا للحكومة العراقية.
كانت ستيفانا دراور تتكلم اللغة العربية بطلاقة، مما اشعر فريا ستارك بالسعادة لدخول اصدقاء جدد في حياتها، اذ قابلت ايفان جيست Evan Gust الذي كان يدير مزرعة في الرستمية، ودعاها فيما بعد لزيارتها، وذلك في 1930، كما تعرفت على هيربرت يونغHerbert Young الذي كان يعمل مستشارا لدى المندوب السامي البريطاني في العراق تعرفت على زوجته روز Rose وكانت رسامة مهتمة بالحدائق.
عانت ستارك في بغداد عام 1932 من ازمة مالية، مما اضطرها الى ترك المنزل الذي كانت تسكنه، وانتقلت الى دار قدمته لها عائلة سترجسSturgis قرب السفارة استنزف منها جهدا عضليا للذهاب اليه، وجعلها تشعر بالفراغ في بداية ايامها في العراق، ووافقت على العمل في جريدة"بغداد تايمز"Baghdad Times لتغطية نفقاتها المادية، على الرغم من انها كانت تكره فكرة الارتباط بالعمل الرسمي، الا ان الازمة المالية دفعتها للقبول، بحيث كانت تحصل على اجر شهري يصل الى ثلاثين باونا شهريا. بعدها اتخذت بغداد منطلقا لقيامها بثلاث رحلات صعبة الى ايران ما بين 1929و1931: رحلة الى جبال مازندران، جنوب بحر قزوين، واثنتان الى جنوب لورستان. واثناء قيامها بهذه الرحلة اصيبت بالحمى لشعورها بالوحدة، وفي زيارتها الثانية غادرت في الخريف لمدة شهرين لتسلق الجبال لوحدها في جنوب لورستان، لكن ظهور اشاعات عن وجود عصابات وقتلة في ذلك المكان جعلها تقطع رحلتها بناء على اوامر شرطة الحدود العراقية الذين ارجعوها تحت الحماية الى العراق، وكانت حزينة لكنها تخلصت من ذلك الحزن بعد وصولها الى بغداد. وبعد مدة قامت برحلة الى الكويت ووجدتها مازالت مدينة محافظة على تقاليدها القديمة، وتعرفت على تقاليدها الاجتماعية، وزارت اسواقها والتقت بنسائها وتعرفت على ادوات التجميل التي تستخدمها المرأة هناك، كما التقت بشيوخها وعبيدها ومعظم المناطق الموجودة هناك، ثم عادت الى العراق. وبدات بتكوين علاقات صداقة مع شخصيات متعددة، ومنهم السر أدجر لودلو هيوت Sir Edgar Ludlow Hewit الذي كان قائدا للقوة الجوية، والجنرال روان روبنسن Rowan Robinson مستشار الجيش العراقي، وقد اصبحا مع زوجتيهما اصدقاء لفريا ستارك،
ارادت فريا ستارك تحسين لغتها العربية بالذهاب الى مدرسة عراقية حكومية للبنات، وهو مكان مغلق بأسوار عالية في الحيدر خانة في بغداد، اعتادت الذهاب اليه سيرا على الاقدام على طول الطريق الضيق الذي يطل على نهر دجلة عبر الاسواق المظلمة للضفة الغربية على طول الشارع، ودخلت الازقة الملتوية وسارت مع فتيات يرتدين السواد، والجميع مسرع بنفس الطريق لا يميز الفرد بينهن الا بعد عبورهن حارس البوابة ذو اللحية البيضاء،اذ يرفعن براقعهن فتظهر الوجوه المبتسمة لزميلاتها، وكان عدد التلميذات في المدرسة خمسمائة تلميذة، يدرسن صباحا. قسم منهن يسكن في القسم الداخلي واعمارهن تتراوح بين الخامسة والثلاثين عاما وكانت غالبيتهن مسلمات مع القليل من المسيحيات واليهوديات، اما المعلمات فكن سوريات او عراقيات وكانت مديرة المدرسة سورية الاصل، والتعليم سطحيا بسبب ان اغلبهن غير مدركات للمستويات العلمية للطالبات.
اصبحت فريا ستارك في الصف الثالث، وكان يضم ستة وعشرين فتاة شابة اندفعن الى فريا ستارك لاعارتها كتبهن واقلامهن واوراقهن، وقمن بمساعدتها والاستماع اليها عندما تقرأ بصورة بطيئة ، وكانت اعمارهن تتراوح بين (12-25) سنة، وكن يدرسن في الساعة الاولى قواعد اللغة العربية والقراءة وتخصيص (3-4) دروس كل يوم.
لاحظت ستارك معاناة الطالبات بسبب اعمارهن الكبيرة وعدم قدرتهن على التعلم السريع، مما كان يشعرهن بالحزن، وخصصت فريا ستارك وقتا لدراسة التاريخ، وكانت مسرورة لدراسة (التاريخ الاسلامي) الذي تناول حياة الخلفاء الراشدين، واجتازت الامتحان بنجاح، فانتقلت بعدها الى الصف الرابع. وبعد بضع سنوات، ولادراك فريا ستارك لواقع التعليم في العراق، بذلت جهودها لتحسين التعليم، وخاصة تعليم الاناث الذي شبهته بمد البحر، فالفتيات الشابات يلعبن في رغوته بين الحطام والانقاض التي تتداور في حلبة صغيرة من الامواج، وتزيلها بعيدا.
وقد توسع الطاقم لمجاراة الزيادة السريعة في تسجيل الطالبات، واصبح ذلك يشكل مشكلة خطيرة مما ادى الى قبول بعض التركيات الباقيات من النظام القديم، وبعض النساء العربيات الصغيرات اللواتي قدمن لوظائف التدريس، وكانت مؤهلاتهن لا تتعدى معرفة تلاوة القران واعمال الابرة والعربية غير الصحيحة، ومسائل حسابية بسيطة كالجمع والطرح، تجنبا للزخم الفائض جدا من الطالبات، وكان ذلك محزناً جدا، فقد كان هناك اطفال اذكياء جدا يدرسون على يد هؤلاء المعلمين، وظهرت برامج تعليم جيدة، لكنها اقتصرت على مدارس الذكور فقط، اذ كان المسؤولون عن التعليم من المحافظين تماما. فتذكر صديقة فريا ستارك أن وزير المعارف في ذلك الوقت قال لها:"علموا بناتنا القرآن الكريم والطبخ وغير ذلك من واجبات المراة في البيت"، واستمر هذا الوزير في الوزارة لعدة اسابيع فقط، وبقيت الوزارة تعاني من نقص حاد في المعلمين الكفوئين، مع استياء خفي من المسلمين نحو الكادر المسيحي المؤهل، وذكرت صديقة ستارك ان واجبها كان صعبا، وكانت تأمل القليل من المستشار الايرلندي لوزارة المعارف في ذلك الوقت الذي لم يكن مهتما بتعليم الاناث، على العكس من الانسة غرترود بيل التي لخصت موقفها بهذه الكلمات:"ان هذا عمل رائع واعملي ما تستطيعين عمله ولا تاخذي بكلام الوزراء بصورة حدية جدا، كانت هذه نصيحة غرترود بيل الى مديرة احدى مدارس البنات وهي صديقة فريا ستارك"، لذا عملت بنصيحتها وقدمت برنامج قراءة للمعلمين، ولبت حضورهم، وتم اختيار الاذكى من بين البنات الاكبر سنا واللواتي اظهرن الرغبة في مهنة التعليم، وتم حصرهن في صف، كانت تلك هي الخطوة الاولى نحو دار المعلمات، بعدها"تم فتح مدارس جديدة في اجزاء متعددة من المدينة.
وفي الوقت نفسه كانت وزارة المعارف قد اصبحت اول وزارة هيئتها التنفيذية عراقية منذ العام 1923، لذا تضاعف عدد المدارس الحكومية الابتدائية والمتوسطة،وفتحت دور للمعلمين، والمعلمات لاعداد الطواقم التعليمة للمدارس التي افتتحت بمختلف مدن العراق. فعندما زارت فريا ستارك العراق عام 1929 كان هناك مدارس متوسطة، اذ ان المعلمين يصلون من أي مكان ممكن وجودهم فيه من مصر وفلسطين وسوريا. وفي زيارة فريا ستارك الثالثة للعراق عام1941 كان هناك مدارس ثانوية، وليس هناك مدينة من أي حجم ليس فيها مدرسة متوسطة للبنات، والعديد من القرى فيها مدارس ابتدائية، وان المعلمين يتم تدريبهم في بغداد، ومن ثم يرسلون الى المدن ومن المدن الى القرى.

عن رسالة
(فريا ستارك وأثرها السياسي والاجتماعي في العراق)