جوزيف كونراد  يفضح الإمبريالية بروايات إنكليزية

جوزيف كونراد يفضح الإمبريالية بروايات إنكليزية

وائل شعبو
النوم بعد التعب.. الميناء بعد البحار العاصفة.. الراحة بعد الحرب.. الموت بعد الحياة.. كلها تبعث الكثير من السرور.. هذه هي الكلمات التي كتبت على شاهدة قبر الروائي البولندي جوزيف كونراد أحد عظماء فن الرواية في القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 الذي عاش حياة مليئة بالتعقيد والغرابة كما يطلعنا عليها كتاب"غافين غريفث"الصادر عن وزارة الثقافة السورية تحت عنوان"جوزيف كونراد..

سيرة موجزة"مبيناً التلازم ما بين حياته وإبداعه.ويبين المؤلف أن كونراد ولد ضمن عائلة بولندية برجوازية لكن ذلك لم يمنع من ولادته عليل الصحة ولم يجتز السابعة من عمره حتى أصبح لطيما وعبث القدر معه مرة أخرى فلم يعطه إلا سنوات أربع ليعيشها في كنف والد مثقف ثائر ومترجم عن الفرنسية فكانت هذه السنوات كفيلة في بذر حب المعرفة وروح المغامرة فيه ثم قام خاله بتعهده إلا أن كونراد وما إن بلغ السابعة عشرة حتى عافت نفسه المتمردة البقاء تحت وصاية خاله الذي استشعر حاجة تلك الروح للحرية فشجعه على الخروج من ظله والرحيل نحوما تتوق له نفسه من بحث ومغامرة متكفلا إعانته ماديا.ويضيف غريفيث أن كونراد أبحر عند أول فرصة إلى مرسيليا وفي هذه الرحلة البحرية جذبه عالم البحارة الطيبين الخشنين وعالم الإبحار المليء بالثورة والطاقة واللهو بما فيه من تنظيم وقسوة فعمل بحارا متدربا في عدة سفن إلا أن هذه الفترة من حياته كمتدرب وما حايثها من تجارب في تهريب السلاح والتبطل والمقامرة الخاسرة بل والانتحار الفاشل لم تكن إلا مرحلة تمهيدية للوصول بحياته إلى انعطافة جديدة حين حصل على فرصة عمل في إحدى السفن التجارية للإمبراطورية البريطانية فعلى الرغم من عدم معرفته الإنكليزية إلا أنه استطاع من خلال نهمه المعرفي وشخصيته العملية أن يكتسب اللغة الإنكليزية وطباع أهلها الجدية الصارمة متدرجاً في الرتب حتى بات رباناً.ويوضح المؤلف أن السفرات العابرة للمحيطات وفترات الاستراحة المطولة بعد الرحل البعيدة شكلت أمام كونراد فرصة لتجلي طاقاته الإبداعية فبعد سبع سنين من بداية إبحاره استطاع وخلال قراءات كثيرة وحيز جيد من التأمل والتفكر أن ينجز أولى رواياته"حماقة أولماير"وبعد إنهائها كتب مستبشرا لإحدى الأرستقراطيات اللواتي كن يدعمن الأدب والأدباء.."يؤسفني أن أبلغك بوفاة السيد كاسبر ألماير في الثالثة من هذا الصباح انتهى الأمر.. كل أولئك الأشخاص الذين تكلموا في أذني وتحركوا أمام عيني أصبحوا مجرد جمهور من الأشباح.. يتلاشى مع شمس هذا النهار الساطع إنما الكئيب"وقد لاقت هذه الانطلاقة الأدبية استحسان النقاد ما أعطى لكونراد دفعا معنويا بل وماديا للاستمرار في الكتابة.وهكذا تتالت الروايات وتتالى صداها الجيد وما كان لكونراد أن يعرف بأن روايته الأشهر"قلب الظلام"ستكون ملهمة فيلم فرنسيس كوبولا الأهم"القيامة الآن"الذي انتقد فيه الإمبريالية الأمريكية وحربها الأثيمة في فيتنام فهذه الرواية من أهم روايات الأدب الكولونيالي التي فضحت فظاعة الاستعمار الأوربي في أفريقيا والتي عاينها كونراد أثناء ترحاله في هذه القارة وهو رغم انتمائه الصلب للإنكليز إلا أنه هزأ بكيبلنغ أحد أهم روائيي إنكلترا الذي دافع عن أبناء جلدته في حربهم مع الهولنديين على أرض جنوب أفريقيا عندما رد عليه بقوله: إن كنت سأصدق كيبلنغ حين قال أن هذه الحرب خيضت من أجل الديمقراطية فهذا أمر مثير للضحك.ويرى غريفث صاحب السيرة أن الكتابة عند كونراد لم تصبح فقط مصدر رزق بل واجبا مفروضا عليه من نفسه فجولاته حول العالم وما عاين وعاش من تجارب لا يمكن بالنسبة له أن تبقى مجرد ذكريات يسترسلها أثناء جلساته ومسامراته بل يجب أن تكون وبمرآة عبقريته مرجعا معرفيا جماليا يكشف للناس جانبا مهما من حقائق المرحلة التاريخية التي عايشها.ويبين المؤلف أن هذا الواجب استجلب تبعات كثيرة على جسد وعقل كونراد لما كان يتحمل من ضغط نفسي في استيلاد ما تلقح في نفسه من حالات وفكر ومشاعر وذلك ما أوصله الى الانهيار العصبي وربما الجنون فقد ذكر في أحد رسائله:"أعتقد أن ما أنا فيه يسمونه الجنون"لكنه جنون العبقري الهاذي بأخيلة تستكشف حقائق ما في عقله وفي الحياة لدرجة التماهي مع الأفكار والشخصيات التي يبدعها فقد كتبت زوجته إلى ناشره بعد إنتهاء كونراد من رواية"تحت أنظار غريبة"..الرواية أصبحت جاهزة.. المخطوطة موجودة أسفل السرير وهو يعيش ممتزجا بالمشاهد ويحاور الشخصيات حتى كونراد قال لأحد أصدقائه عند نهاية رواية أخرى"أشعر كما لو أني عدت من جهنم وأنظر إلى حياة الأشخاص برعب".لقد أصبح كونراد ملهما للعديد من كتاب الرواية الأنكلوأمريكية ما بعد الكولونيالية مثل فوكنر.. همنغواي.. وولف حتى أن ت.س.إليوت بدأ قصيدته النقدية الإنسانية"الرجال الجوف"بآخر كلمات بطل"قلب الظلام"الفظاعة.. الفظاعة.. فهذه التجربة الأدبية الهامة التي خلفها كونراد جاءت من رؤية سياسية اجتماعية ثاقبة استطاع بها الكشف عن المنظومة الحقيقية التي تبرمج وفقها السلطة الإنسان هذه الرؤية يلخصها له غريفث:"إن المثاليات والمعتقدات لا تستطيع إنقاذ الفرد والمجتمع لأن المشاعر التي تتحكم بالبشر هي الأنانية والهوس بالذات وفوقهما الكره المرضي للحقيقة فما فتئت تحذيرات رئيس العمال في رواية"نوسترومو"بشأن مراعاة السلطة التي لا ترحم للمصالح المادية في الشرق الأوسط وكذلك كشفه في رواية"العميل السري"عدم قدرة الدول المتمدنة على فهم الإرهاب العنيف ومحاربته بشكل فعال ماثلة أمامنا.لقد اعتمد غريفث كاتب هذه السيرة التي ترجمها للعربية توفيق الأسدي في قراءته لهذا المبدع المنهج البنيوي التكويني في فهم حياة كونراد وإبداعه منطلقا من الوضع الاجتماعي المؤثر نفسيا وعقليا على إبداعات الكاتب وما مر به في تربيته وزواجه وعلاقته بأولاده وأصدقائه إضافة إلى روح العصر الذي كان يعيش فيه عصر الكولونياليات الأوروبية المتوحشة التي هاجمها في معظم رواياته.