النظر إلى الماضي من شرفات ناطق خلوصي.. القرب من صدق الحدث

النظر إلى الماضي من شرفات ناطق خلوصي.. القرب من صدق الحدث

ايمان عبد الحسين
يقال ان الحقيقة التي تقدمها الكتب التاريخية اكثر امانة واصدق تعبيراً من الحقيقة التي تنقلها الكتب الادبية التي تطرح التاريخ سواء الماضي او المعاصر بصورة غير مباشرة، باعتبارها تعد أحادية الجانب، تحكمها النظرة الخاصة التي هي مزيج من أفكار صاحبها ومشاعره، الذي حتى ان استمد موضوعه أصوله من جذر عميق تاريخياً لا بد ان يحتويها التصور،

التخييل، والحوار الجواني، ولا بد يكون للموضوع الذي يعبرعنه حتما جهازه المعرفي الخاص الذي له حدوده المنبثقة من العلاقات التي تحقق فضاءه الخاص.
وهذا لا يمنع من أن العمل الادبي الذي ينقل جوانب من التاريخ لا يقل امانه ومصداقية عن الموضوع التاريخي فالروائي الجيد هو الذي يحاول تقديم الاحداث التي تحتوي على جوانب من التاريخ السياسي بقالب روائي يغري قارئه ويساعده على الاسترسال في القراءة من خلال لغته الخاصة، التي تقوم على الإحساس والإلهام، وتتولد من الاستعمال الفني الخاص للألفاظ والذي يعبر عنها بلغة جمالية، محاولا فيها الابتعاد عن التاريخ الرسمي التي تتحكم به وتوجهه المصالح السياسية، ويحاول الالتفاف على المعنى الذي يخرجه من سيطرة الرقيب، كي يبقى المتلقي مشدوداً إلى تجربته التي هي في حقيقتها تمثل مزيج من الترابط بين الذات والمجتمع في جوانبها المتعددة، عبر عودة الذات الى الذاكرة لا سترجاع مفردات التجربة التي ترتبط بواقعه الخاص.
وهكذا فان ترسيمة المبنى السردي الذي يحتوي حشد كبير من الأشياء والتفاصيل والتي تكون بنيتة مفتوحة على التاريخ والعلاقات الاجتماعية واليوميات ينبثق منها منتوجا اقرب الى السيرة الذاتية المستمدة احداثها من تاريخ المجتمع الذي يعد جزاءا من تاريخ الشخصية فأنت تجد فيها الخيال والرمز، كما تجد الحقيقة، إلى جانب ذلك تجد فيه حتما وقائع تاريخية يحددها جانبين يرتبط جانب بالذاكرة،التي حسب الفلاسفة مقدرة الاديب في استرجاع الصوره الأصلية من ماضيها الذي عاشه و استحضارها في الحاضر، وجانب الخيال من خلال إبداع صور من الواقع،وذلك بواسطة الذاكرة، التي تعد شبيهة بالتخيل في الاستدعاء التي تعمل على الاحتفاظ به، فالماضي احداث واقعية يمر بها الفرد و يقوم الخيال على استرجاعها، فحسب العالم والفيلسوف (جون ديوي) إننا لا نستعيد الماضي بذاته فحسب بل لأجل ما يحمله من اضافة إلى الحاضر، فتشترك الذاكرة والتخيل في استرجاع الصور الماضية، ولكن الاسترجاع في التذكر يتم وفق صورمحددة، أما في التخيل فهو يتميز بالحرية أي التخلص من بقايا معَوِّقة من قيود الزمان والمكان، من أجل مزيد من الحرية، والتخيل حسب الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار) ملكة ذهنية تحاول استرجاع الصور بعد انتفاء مسببها، أو تخلق صورا في نمط جديد، إلا أنهما تتمازجان مع بعضهما فالتخيل يضيف إلى الذاكرة ويعيد إحياءها، كما أن الذاكرة تمنحه اهم عناصره،وحسب (هال فاكس) عندما نتذكر فان الاخرون الذين يشكلون مخزوننا هم الذين يدفعوننا الى هذا التذكر، أي ينقلوننا من الحالة غير الحاضرة إلى حالة الحضور والراهنية، في اعتقادي هذه هي الحال في رواية (ناطق خلوصي) الصادرة بالقطع المتوسط عن (دار الشؤون الثقافية العامة) والمعنونة (شرفات الذاكرة) الذي استطاع الروائي فيها خلق عالمه الموازي، بالأسلوب والطريقة الخاصة، من خلال تجربته التي هي عبارات عن وقفات زمنية يفسح فيها المجال أمام مزيج من الرواح والمجيء على محور السرد، رواية يمكن أن تكون في جانب منها توثيقاً لفترة معاصرة ولكن دون ان يحمل الروائي كاميرا توثيقية ترتسم عليها صور لواقع تاريخية تمتاز برتابتها، رواية فيها المداخل السردية المبدئية توميء بصياغة خطاب يتجه فيه النص اتجاه موضوع يدور في فلك تقاطع العالم الخارجي مع الذات، عبر الاشتغال على الذاكرة، التي يصوِّر فيها التحولات التي يمر بها البلد عبر تاريخ شخوصه، من خلال حبكة تصل الآني بالتاريخي، والحديث بالقديم، اساسها الحقيقي الواقع بكل آفاقه، وفي محاولته استثمار وصف الأشياء والامكنة المحيطة به تاركا زمنه الداخلي الذي يربطه بعلاقات وصور ماضية يشيد عالمه، الذي يمثل انعكاساً للعالم المحيط به وهكذا استطاع تحقيق النص الإبداعي، ضمن ذاكرة، وبما يمتلكه من لغه وأدوات مناسبة للتعبير عن ما في ذاته، وايصالها الى القاريء كما يحس ويشعر بها، والتي حتما ان الروائي لا يسترجع إلا الأحداث التي تكون لها اهمية لديه في اللحظة الانية (تطل من شرفات الذاكرة وجوه عديدة) ذاكرتك هي سلاحك الرئيس في ما تكتب من خزينها تستمد الصور والرؤى الافكار وقد جئت اليوم تستجليها وتتبين اذا كانت شرفاتها ما زالت تحتفظ بمتانتها) ص10(تتانى وتشرع شرفات ذاكرتك لاستحضار ذلك الماضي البعيد) ص11 (شكل من اشكال التشبث المحموم باذيال الحياة وانت في وشالة العمر ام شكل من اشكال الهروب من واقع مثقل بالمرارة)ص13.
كما نرى ان الروائي الذي يريد العودة في مطلع الرواية بذاكرته إلى الماضي اشارة الى مسيرة الحياة يجهّز مستلزمات عودته بمفردات يرمز لها بالحافلة ومحطة القطار التي تتناثر على امتداد الرواية وعلى سبيل المثال لا الحصر(تقطع الحافلة المسافة المتبقية لتصل قبالة محطة القطار nوهها انها في الطريق المفضي الى المدينة وقد خلفت المحطة وراءها- تذكرك المحطة بتلك الليالي التي كنت تضطر للمجيء بالقطار خلالها – يجتاز القطار المحطة- القطار لا يتوقف طويلا فيها).
وهكذا فان الروائي ناطق خلوصي استطاع ان يقدم لقارئه التي انا احداهما والتي لا انكر انه منذ الوهلة الأولى شدَّتني الرواية ولا انكر انني لم اتركها حتى اتممت قراءتها دون أن ينتابني ملل السرد، وان هذه تمثل حتما قدرة الكاتب على الأخذ بيد القارئ الذي يجد نفسه مشدوداً لمعرفة ما سيحدث، أساسيات اظهار لجزء من تاريخ عاشه أجواء حميمية لفترات متعددة من حياته صورا كثيرة لتجربة حياة تمتد الى فترات ليست بالقصيرة، عكست في انسيابيتها صدقها مما يشعرنا اننا امام جزء مقتطع من سيرة ذاتية ولا سيما حين يتحدث الروائي منشغللا بذاتيته التي تحتل علاقته بالمراة قسماً غير قليل منها كما هي الحال في المواقع التي يذكر فيها اسماء النسوة التي رافقنه في حياته متأسفاً لأنه لم يستطع أن يتقرب لأغلبهن ويصف مغامراته النسائية التي تنقصها الجراءة، كما يوجه الروائي عنايته لوصف الاماكن والشوارع والازقة، كما يرد في ثنايا الرواية ذكر كثير من العادات والتقاليد فالروائي من اجل التعبير عن وطنه مستندا على عمقه الحضاري وأصالته، يسعى إلى توظيف عناصر التراث من شخصيات وأحداث كانت نواةً ومرجعية للرواية والتي تنوعت لديه اشكال توظيفها نرى في القائمة التالية، تمثيلاً حقيقياً للشخصيات التراثية (بيت الحائك بقامته الطويلة وعينه الحولاء وقد انزل نصف جسده في الجوكة محاطا بلفات الصوف الملون) ص11 (صورة ذلك اللمبجي الطيب تراه الان يتنكب سلمه الخشبي القصير قصر قامته وقد تدلى وعاء نفط من يده يسند السلم الى جدار في ركن الزقاق يفتح باب الفانوس يرفع وعاء النفط بيديه ويسكب منه في خزان الفانوس حتى يمتليء وما يلبث ان يشعل عود ثقاب فيض الفانوس بلون برتقالي)(النسوة ياتين نهارا يجلسن يعملن حفرا صغيرة في الارض تضع الواحدة منهن بيضة وقطعة نقود معدنية وربما خرقة من ثوب قديم ثم تهيل عليه التراب طقس شائع بينهن ولعله شكل من اشكال النذور) ص70 (ليلة العاشر من محرم كل عام وفي الفجر يرتدي كفنا ابيض ويحمل سيفا ويسرع ليلتحق بموكب التطبير) ص33.
ويستطيع القاريء ان ياخذ اشارات متفرقة من تاريخ العراق الواقع السياسي، (تذكر الان سنوات الحرب وايام التموين وسكر الحكومة المخلوط بالرمل ص15ايام حرب بما تحمله الايام من مواجع فان الناس وانتم منهم كانوا يعانون عيشهم كثيرا)ص15(احرجكم العدوان الثلاثي على مصر انتم الذين جئتم من مدن صغيرة) 56.
ما نود أن نقوله أخيراً إن المتابع للذات الواصفة تاريخها الخاص من خلال اتكائها على وصف الاحداث التاريخية العامة في رواية ناطق خلوصي (شرفات الذاكرة) من السهولة أن يدرك بحسب الفكرة التي تعتمل في ذهنه، و في حــــــدوده ومراميه التي يريد ايصالها. مدى قربها من صدق الحدث.