الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره ليرويه في عشت لأروي

الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره ليرويه في عشت لأروي

زينب المشاط
أن تكون روائياً، فهذا يعني أن تُلامس الطبيعة، تتحسس الوجود، وتمتلك صفات إلوهية تُمكنك من خلق حيوات الآخرين، فالروائي أو الخالق لا يترك أي شيء أو حركة تمرُّ عابرة دون تفسير لها، أو إعادة خلقها في حياة أُخرى يجدها الكاتب أكثر تأثيراً فيها.

وهنا تركزت محاولات غابرييل غارسيا ماركيز في خلق رواياته والتي حدثنا عنها في كتاب"عشت لأروي"ترجمة صالح علماني الذي صدر عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، والذي حصل على جائزة نوبل عام 1982.
هذا الكتاب ليس رواية من روايات ماركيز، ولا هو سيرة حياة عابرة، بل هو رؤية من رؤاه التي حفزته على خلق مؤلفاته، يتساءل كثيرون عما في هذا الكتاب من مذكرات لروائي مثل ماركيز عبر عن روح أمريكا اللاتينية وأرسى ما عُرف بـ "الواقعية السحرية"في أعماله الأدبية، ففي هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن المنابع الأولى في حياته الأدبية، وكتب خارطة طريقه التي أوصلته إلى ما وصل إليه كأكبر روائي في العالم، وهنا جمع ماركيز العناصر وأكمل حبكها وكشف لنا عن الاختلاف الضئيل بين الأدب والحياة .
وإن يكن الفارق بين حياة ماركيز وأدبه وخياله ضئيلا حقا ويكاد لا يرى، فهو القائل (نقلا عن خوسيه فيلكس): ان الفرق بين الحياة والادب هو مجرد خطأ بسيط في الشكل.
"الحياة ليست ما يعيشه احدنا بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه"، بهذه العبارة يفتتح ماركيز كتابه هذا فقدم بعضاً من نفسه بصراحة، وبراءة، مثلما هو عليه في الحقيقة:رجل بطبيعة طفل وموهبة أدبية إبداعية.
الزمن في"عشت لأروي"ليس مُتسلسلاً بل يبدو دائرياً مُتسعاً لرؤى كثيرة ومشاهد تطل وتغيب كل مرة اكثر اكتنازا وظلالا وعمقا.
جميع الأسئلة التي يطرحها القُراء في أذهانهم حول ماركيز سيجدون الإجابة عنها في هذا الكتاب ، ماذا عن اول قصة كتبها ماركيز وعن علاقته بالكتابة؟ كانت قصة عقدة نفسية هاجسية كتبها متأثراً باكتشافه كتابات فرويد. اما شعور الكتابة لديه فهو التزام. اما ان اكتب او اموت. او في تعبير ريلكه: اذا كنتَ تظن انك قادر على العيش من دون كتابة فلا تكتب.
واللافت ان شهرته لم تكن كقاص او شاعر او روائي بل كخطيب سياسي إثر خطبة القاها بعد الحرب العالمية الثانية. كتب الشعر تحت اسم مستعار هو خافيير غاريتش معتبرا الامر تمارين حرفية غير طالعة من الروح وبلا قيمة شعرية.
في مستهل حياته الصحافية كتب روبورتاجات طولها متر او متر ونصف المتر وكان ينام على الورق ويصل الليل بالنهار. انضم الى جماعة من الشعراء والادباء وتدرّب معهم على امكان فقدان الصبر انما من دون ان نفقد على الاطلاق حس السخرية.

"عشت لأروي": كتاب أخاذ لروائي قل نظيره يفتح فيه نافذة الى داخل الروح، وهو في الوقت عينه شرفة تطل على عالم ماض في حركته وتغيره وغرابته.