صفحة طريفة من حياة (الخاتون) في العراق..المس بيل وطباخها الخاص في بغداد..كيف أسست المتحف العراقي؟

صفحة طريفة من حياة (الخاتون) في العراق..المس بيل وطباخها الخاص في بغداد..كيف أسست المتحف العراقي؟

نجدة فتحي صفوة
باحث راحل
استبشرت مس بيل بعودة السيربرسي كوكس بطبيعة الحال وأصبحت يده اليمنى في كل أعماله، وأسهمت اسهاما فعال في تأسيس الحكومة المؤقتة وإقناع السيد عبد الرحمن النقيب بقبول رئاستها، وفي اختيار وزرائها، بهمة لا تعرف , الكلل، وحيوية نادرة.

وفي شباط (فبراير) 1921 ‏نقل المستر وينستن تشرشل من وزارة الحرب وأصبح , وزيرا للمستعمرات، فقرر عقد مؤتمر في القاهرة دعا إليه الممثلين العسكريين والسياسيين البريطانيين في الشرق الأدنى لإعادة النظر في سياسة بريطانية في ‏المنطقة ودراسة إمكانات حفض النفقات البريطانية فيها، وتقرير علاقات الدول ‏الجديدة المقبلة في العراق ببريطانية العظمى من حيث النفقات، وشكل الدولة المقبلة، وشخص رئيسها، ونوعية قوات الدفاع فيها، وغير ذلك. فلما ذهب السير، برسي كوكس حضور هذا المؤتمر كان من جملة من استصحبهم معه سكرتيرته الشرقية غير ترود بيل التي كانت المرأة الوحيدة في المؤتمر. ومن المعروف أن فكرة ترشيح فيصل الأول لعرش العراق قد تقررت بصورة نهائية هناك. ‏ومنذ نصب فيصل الأول على عرش العراق , وهو قرار كان للمس بيل دور كبير في تبنيه , لم يتمتع أحد بثقة مثل تلك المرأة الإنكليزية التي كان يدعوها. (أختي). وفي كثير من ساعات الأزمات كانت هي الوسيطة المقبولة في تسهيل الاتصالات السرية بين دائرة المندوب السامي والبلاط الملكي. أما في الأوقات الاعتيادية فكان عملها بصورة رئيسية متصلا بشؤون العشائر. وعلى أنه لم تكن هنالك أية قضية إدارية لم يستعن فيها فيصل الأول ورجالة , والمندوب السامي وأعوانه , بمعونتها , وكانت معرفتها بالبلد ومكانة تفوق معرفتهم دائماً.
وقد أظهرت الأيام كم كان الجنرال مود مخطئاً في اعترافه على تعيين امرأة في هيئة موظفي المفوض المدني , لأن كون مس بيل امرأة كان على العكس مما توقعه , من أهم أسباب نجاحها في عملها سواء كان ذلك في تأثيرها على فيصل الأول ورجالة , أم في اتصالاتها بالأسر العراقية , وتعرفها على زوجات الساسة والزعماء ‏ودخولها ببيوتهم , مما لم يكن في إمكان أي رجل القيام به.
وكان من جملة واجبات مس بيل , بوصفها الكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد، إعداد تقرير استخبارات نصف شهري تضمن كل‏ أحداث البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية , وما يدور على السنة الناس من إشاعات , وما يتحدث به الناس في المقاهي والأسواق, أو تردده النسوة في مجالسهن , وتحاول اعطاء صورة واضحة لاتجاهات الرأي العام العراقي وانطباعاته خلال أسبوعين. وهذه التقارير محفوظة جميعا في مركز الوثائق العامة في لندن وفي مكتبة المتحف البريطاني , وبإمكان الباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها بسهولة.
وكنت مس بيل تضمن رسائلها إلى والديها كثيرا من المعلومات التي تذكرها في تقاريرها الرسمية وما لا تذكره فيها أحياناً , وخاصة ما هو طريف او غريب منها , أو ما له صفة شخصية. وكان يتساوى لديها – في رسائلها اهتمامها بحديث لها مع الملك أو حدوث أزمة وزارية خطيرة , أو حديث مع طباخها صباحاً قبل ذهابها إلى عملها.
‏وأنقل على سبيل المثال فقرة من رسالة لها إلى أبيها مؤرخة في 7 ‏كانون الأول (ديسمبر) 9 91 ‏1.
وكذلك طباخي الجديد -آه يا أبتي كم ستعجبك رؤيته وهو يتجول مزهوا بعباءته. وهو على الرغم من إجادته الطبخ إلى حد بعيد , وصنعة (كيكات) ممتازة ‏فإنه لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب , وذاكرته معطوبة. إن حسابات الصباح مثال على ذلك , فهي تجري كالآتي:
غيرترود: يلله مهدي، الحساب، لازم اروح للدائرة.
مهدي: خادمج، خاتون، اشتريت… شسمه.
غيرترود: زين شسمة؟
مهدي: تمن، قرانين.
غيرترود: ثمان آنات. وبعد؟
مهدي: بعد شتريد شسمه.
غيرترود: شنو؟يلله.
مهدي: خبز، ست آنات.
غيرترود: زينن دوام.
مهدي: بعدين اشتريت شسمه.
غيرترود: يا فاطر السماوات- شنو؟
مهدي: شكر… روبيتين.
غيرترود: روبيتين؟ زين.
مهدي: بعدين خاتون. نسيت البيض مال البارحة.
غيرترود: زين، وبعد.
مهدي: بعدين اشتريت لحم، روبية.
غيرترود: وبعد؟
مهدي: والله اشتريت- خاتون احضر لجنابج لحم العشاء.
غيرترود: كيفك… خلص الحساب.
مهدي: على راسي. وبعد اشتريت شسمه.

وهكذا دواليك حتى أصل إلى حالة بين الهستيرية والضحك... ‏وبعد أن تطلب إلى أبيها إرسال بعض الحاجيات تقول.
‏"هل تعلم يا أبي ماذا يسمونني هنا؟ أم المؤمنين وآخر من كان يلقب بهذا اللقب ثقة، زوجة الرسول. ‏,"وهكذا ترى لماذا لا استطيع أن أترك هذا البلد”.
‏هنالك ناحية مهمة أخرى في حياة غيرترود بيل في العراق تستحق إشارة ‏خاصة، وهي اهتمامها بالآثار القديمة وتأسيسها المتحف العراقي.
‏، كانت غيرترود بيل بحكم خبرتها الطويلة السابقة في شؤون الأثار، وولعها بالتنقيبات الآركيلوجية , كبيرة الاهتمام بآثار العراق القديمة , ولكن أشغالها الكبيرة خلال السنوات الاولى من قيام الإدارة الجديدة في العراق لم تسمح لها بإعارة هذه الناحية ما تستحقه من وقتها وعنايتها. فلما انتهت المفاوضات الطويلة والصعبة لعقد المعاهدة العراقية – البريطانية في سنة 915 ‏1 , تمكنت مس بيل , على الرغم من بقائها في منصبها سكرتيرة شرقية لدار الاعتماد , أن تخصص مزيدا من الوقت لشؤون الآثار، فعملت على تأسيس إدارة للآثار القديمة وعينت مديرة فخرية لها. وبقية تشغل هذه ‏المديرية حتى وفاتها.
وقد مضت مس بيل في تشجيع البعثات الأثرية على القدوم إلى العراق وأجراء، الحفريات والتنقيبات في مواقعه الأثرية الفنية بالأثار , وخاصة في (أور) وعملة على تحقيق مشروع إنشاء متحف وطني , واتخذت له مكاناً دائمياً في بغداد , في البناية التي شغلها المتحف العراقي نحو أربعين عاماً , في شارع الامين ببغداد.
قضت غيرتررد بيل في العراق عشر سنوات كاملات لم تقطعها سوى ثلاثة إجازات قصيرة في أوروبا وانكلترة , وبلغت الثامنة والخمسين من عمرها وهي في عمل دائب , وحركة لا تنقطع , مما استنفد رصيدها من القوة الجسمية , وكان الأطباء قد نصحوها بعدم قضاء صيف أخر في بغداد , ولكنها رفضت مغادرة العراق حتى تنتهي من تأسيس المتحف.
وفي مساء الاحد 11 تموز (يوليو) أوت إلى فراشها وطلبت إلى خادمتها (ماري) أن توقظها في السادسة صباحا. وكانت (ماري) , كسائر المحيطين بغيرترود , قلقة على صحتها، فتسللت إلى غرفتها ليلا لتطمئن عليها فوجدتها على ما يرام. ولكنها حين دخلت لإيقاظها في السادسة صباحا كانت غيرترود في رقدة أبدية. وعلم فيما بعد أنها تناولت جرعة كبيرة من حبوب كبيرة من حبوب منومة تدعى ((Dial ‏ حسبما كتب الدكتور (دنلوب) مدير المستشفى الملكي في بغداد , في تقرير عن وفاتها , وكانت وفاتها قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والخمسين.
وهكذا انتهت حياة حافلة بالمغامرات والمنجزات وانطوت صفحة ملونة طريفة من تاريخ العراق الحديث، كما فقد الاستعمار البريطاني ركناً مهماً من أركانه.
جرى للمس بيل في اليوم التالي تشييع رسمي حضره الملك علي مندوباً عن أخيه الملك فيصل الأول , والمعتمد السامي البريطاني , ورئيس الوزراء عبدالمحسن السعدون , والوزراء , ورئيس المجلس النيابي , وعدد كبير من الأعيان والنواب والوجهاء والمستشارين البريطانيين، ودفنت في مقبرة المسيحيين في الباب الشرقي (قرب ساحة الطيران).
يصف الذين كانوا على معرفة بالمس بيل شكلها ومظهرها بأنها كانت ذات شعر ‏، نحاسي اللون , وعينين عسليتين تميلان إلى الخضرة , وبشرة براقة، وأنف مدبب وطويل بنحو غريب. ويقال ان الرجال الأوروبيين – ومنهم لورانس- كانوا يجدونها جذابة. وعلى الرغم من أنها كانت متوسطة الطول , منتصبة القامة، وتتمتع بكثير من الأنوثة في مظهرها وملبسها، فإن النسوة المحافظات – فيما يقال- كن، لأمر ما » لا يرتحن إليها.
وكانت كبيرة الاهتمام بملابسها، تخترق أزقة بغداد الضيقة، وغير المبلطة، وهي مرتدية آخر ازياء الباريسية. وفي رسائلها إلى والديها نقرأ طلبات مستمرة لشــتى الملابس والقمصان وغـــيرها من مخازن لندن وباريس المشهــورة.
عن مجلة آفاق عربية 1982