«أشياء تتداعى» لشينوا أتشيبي... قسوة الرجل الأبيض

«أشياء تتداعى» لشينوا أتشيبي... قسوة الرجل الأبيض

صبحي موسى
تحفل رواية تشنوا أتشيبي «أشياء تتداعى» بالكثير من الأمثال والحكم النايجيرية، ليس رغبةً من أتشيبي في إبراز المقولات المأثورة لدى أفراد قبيلة أوموفيا، بمقدار رغبته في إبراز مدى ارتباط أبنائها بثقافة أسلافهم، المهددة أمام ثقافة الرجل الأبيض الذي تسلل عبر حركة التبشير. يضعنا أتشيبي أمام ثقافتين متصارعتين، الأولى تنتمي إلى الأرض التي نشأت عليها،

حيث أساطير الأسلاف وطقوسهم في الحفاظ على أرض القبيلة وزيادة ثروات أبنائها ونسلهم، بينما الثانية هي ثقافة الغازي الذي جاء بجنوده إلى المدن وسرعان ما أرسل أساقفته ومبشريه ليخلّصوا هذه الشعوب من عبادة الأوثان، لنجد أنفسنا أمام سؤال عن جدوى الدين وأهميته في حياة البشر، وفي النهاية ينتصر أتشيبي لقومه ليس بإدخالهم في معركة حربية حاسمة، ولكن بإظهارهم كجنس بشري يعلي من شأن الإنسان، إذ يرفضون الدخول في صراع دموي يسعى إليه الرجل الأبيض الذي وطأت قدماه على الأرض، ولم تمنعه ثقافته وآلاته الحديثة في القتل من الخوض فيه.

يمكن القول إن رواية أتشيبي واحدة من الروايات المنتمية إلى عصر الكولونيالية، فيرصد الكاتب عالمه بعين الباحث الأنثربولوجي عن عادات الشعوب البدائية وتقاليدها وثقافتها، موضحاً المفاتيح الأساسية في حياة هذه الشعوب. من هذا المنطلق جاءت «أشياء تتداعى» لتقدم لنا حياة قبيلة أفريقية تؤمن بأرواح الأسلاف وحضورها في حياة أحفادها، وبدا أتشيبي كما لو أنه خصص كل فصل فيها لطقس موروث، من خلال تتبعه سيرة حياة «أوكونكو» الذي لم يرث مالاً أو جاهاً عن والده الذي لم يحمل لقباً واحداً يتفاخر به في القبيلة. لكن «أوكونكو» استطاع أن يبني عالمه الخاص بجهده الفردي، ليصبح واحداً من المحاربين المشهورين في القبيلة ويحصل على ثلاثة ألقاب، ويتزوج بثلاث نساء وينجب نحو عشرة أبناء، مؤهلاً نفسه لأن يكون واحداً من رؤساء القبيلة وحكمائها. إلا أن حادثة نفيه لقتله شخصاً بالخطأ في حفل زواج ابنة صديقه أجّلت هذا الحلم، وحين عاد كانت الحياة قد تغيرت بظهور الرجل الأبيض وبناء كنيسته للمنبوذين ومنعدمي الألقاب من أبناء القبيلة الذين دخلوا في الدين الجديد. وتنتهي الرواية بإيقاع متسارع يشهد عدداً من الحوادث كاعتداء أحد المسيحيين الجدد على أحد أرواح القبيلة، وقرار «أوكونكو» وغيره من الحكماء حرق الكنيسة من دون قتل أحد، ليجدوا أنفسهم في ما بعد معتقلين من جانب الحاكم الإقليمي للاستعمار، وحين يدفعون فدية خروجهم يجتمعون لمناقشة إمكانية الرد، لكن ستة من جنود المحتل يجيئون لفض اجتماعهم، ما يجعل «أوكونكو» المحارب يخرج سيفه ويقتل أحدهم، لكنه حين يرى أن أهل قبيلته يؤثرون السلامة يدرك أنهم انحازوا إلى خيار السلام لا الحرب. وفي مشهد مؤثر يأتي الحاكم الإقليمي للقبض عليه، فيصطحبه صديق «أوكونكو» إلى بستان بيته حيث يجده معلقاً من عنقه في حبل، من دون أن يستطيع أحد الاقتراب منه لدفنه. وتنتهي الرواية بكلمة صديق «أوكونكو» للحاكم: «كان هذا الرجل من أعظم الرجال في أوموفيا، دفعتموه لكي يقتل نفسه، والآن سيدفن مثل أي كلب».
يبدو العنوان كمدخل أساسي للنص متسقاً مع مرثية تشنوا أتشيبي لثقافة أجداده، تلك التي راحت تتداعى تحت وطأة معاول المستعمر، فالأمر لم يتوقف على احتلال الإنكليز للأراضي النايجيرية عام 1906، لكنه تخطاه إلى احتلال ثقافي عبر المبشّرين المسيحيين، فراحت منظومة الديانات الأفريقية في البلاد تتهاوى على يد الديانة المسيحية ورجالها، وراح السلام الذي حافظت عليه قوانين الأسلاف القاسية يتلاشى، إذ بدأ الصراع يدب بين المنتمين إلى دين الإله الأبيض مع الراغبين في الحفاظ على أرواح أجدادهم، وكان من الممكن أن يختار أتشيبي عنواناً يدل على التغيير أو الإصلاح، لكنه اختار الجملة الأكثر اتساقاً مع مرثيته لعالم أجداده الذاهب إلى المغيب، محاولاً التخفيف عن نفسه بوصفها «أشياء»، على رغم أنها في واقع الأمر منظومة ثقافية أخذت في الانهيار السريع. وعلى رغم شبهة اتهام أتشيبي في النهاية بني جنسه بالجُبن، في مواجهة الاستعمار الإنكليزي مادياً وثقافياً، إلا أن هذه الإدانة جاءت على نحو يظهر الثقافة الأفريقية أكثر تسامحاً من الثقافة الغربية، تلك التي أبادت قبيلة كاملة لقتلها أحد المبشّرين بالخطأ.
احتفت رواية أتشيبي بالكثير من الأمثال والمقولات التي تجسد حكمة الجماعة الأفريقية وحرصها على الإنسان ودوره في العمل والتغيير، وجعلت من الدين نوعاً من التبرك وليس القوة الدافعة للعمل، فالإله الشخصي للمرء يقول نعم حين يقولها المرء نفسه، لكن قوانين القبيلة كانت صارمة في ما يخص الموت، فهي تكره القتل والانتحار مثلما تكره المرض، فحين يمرض المرء بداء المعدة يتم إرساله إلى غابة الشر كي يموت بعيداً من القبيلة وأبنائها، إلا أنها ثقافة مملوءة بالكثير من مواطئ الضعف، كأن يكون التوأم نذير شر ومن ثم فلا بد من قتله، وكأن يكون اعتياد موت أطفال المرء في صغرهم بسبب روح شريره تلبست المولود الأول حتى مات ثم عادت إلى بطن الأم لتتلبس المولود الذي يليه، ومن ثم كان يتم تعذيب الطفل بطرق متباينة حتى يعيش أو تتأكد العرافة من أن الروح الشريرة به قد فارقته. وعلى أي حال، تمتعت هذه الرواية بالإحكام والقدرة على ضبط ميراث ثقافي في إطار حكاية منطقية، عبر لغة بسيطة وعوالم مدهشة واحتفاء بالإنسان وقدرته على تغيير مصيره، وإبراز التنوع والقدرة على التسامح وقبول الآخر.
عن صحيفة الاهرام