«شينوا أتشيبي والرواية الافريقية المعاصرة.. «الأشياء تتداعى».. رصاصة أتشيبي ضد همجية الرجل الأبيض

«شينوا أتشيبي والرواية الافريقية المعاصرة.. «الأشياء تتداعى».. رصاصة أتشيبي ضد همجية الرجل الأبيض

إيهاب الملاح
شهد عام 2014، في مصر، احتفاء كبيرًا بعملٍ روائي اعتبره النقاد وأساتذة الأدب في كبريات الجامعات العالمية «درة الرواية الأفريقية المعاصرة»، وواحدا من روائع الروايات في القرن العشرين. لم تكن مصادفة، أو هكذا أظن، أن تصدر طبعتان من رواية شينوا أتشيبي الباذخة «الأشياء تتداعى»، التي ظهرت للمرة الأولى في عام 1958.

وكان ظهور الرواية في ذلك التوقيت صرخة إبداعية مدوية ضد الوعي الزائف بالآخر، ومحاولة جريئة لإعادة الاعتبار لهذا الآخر، المختلف، المتمايز بثقافته وطقوسه وتقاليده، وكل ما يمثل في النهاية رؤيته للعالم وموقعه منه في الوقت ذاته، كما هو بثقافته الأصيلة، بلا أحكام متعالية أو خارجية عنصرية مقيتة.
شينوا أتشيبي هو عمدة الرواية الأفريقية بلا منازع، والرواية النيجيرية بالأخص، في القرن العشرين، ويوصف أتشيبي (1930-2013) أيضا بأنه عميد الرواية الأفريقية والنيجيرية المكتوبة باللغة الإنجليزية، وروايته الأولى «الأشياء تتداعى» أو «أشياءٌ تتداعى» التي اقتبس عنوانها من بيت للشاعر الأيرلندي الشهير «وليام بتلر ييتس»، هي درة أعماله، وواحدة من أبرز روايات القرن العشرين، والذين فازوا بجائزة نوبل في الأدب من أبناء القارة السمراء مثل «نادين جورديمر»، و«ول سوينكا»، و«ج. إم. كوتزي"تأثروا كثيرًا بهذه الرواية وبالعالم الفريد الذي جسدته فنيا.
ولد شينوا أتشيبي في قرية كبيرة اسمها «أوجيدي"تقع في شرق نايجيريا عام 1930، كانت هذه القرية احد المراكز الرئيسية للإرساليات التبشيرية الإنجيلية في شرق نايجيريا. وفي هذه القرية، كانت تعيش قبائل «الإيبو"التي ينتمي إليها. كان أبوه معلمًا ومبشرًا مسيحيًا من أوائل الذين اعتنقوا المسيحية في بلده مع أمه وأخواته اللواتي تعلم منهن وحفظ عنهن التراث التقليدي للإيبو، ذلك التراث الذي كان ينهار تحت وطأة الضربات التبشيرية، ومعاول الاستعمار الغربي، مما خلق لديه نوعين من التمزقات النفسية والروحية والعقلية، بين تربيته على الإنجيل وتعاليمه، وبين الثقافة الإنجليزية التي تعلمها وقرأ بها وتثقف من خلالها.
حين صدورها في أواخر الخمسينيات، استُقبِلت «الأشياء تتداعى» استقبالا حارًا ورائعًا، في أوروبا وأمريكا، وهي من الأعمال التي تعد الآن بلا جدال من علامات الرواية في القرن العشرين التي يعترف الجميع بأصالتها وجمالها. وعقب روايته «الأشياء تتداعى»، كتب أتشيبي روايته «مضى عهد الراحة» 1960، ثم «سهم الله"1965، ثم «رجل من الشعب». ورغم أن أتشيبي هو بلا منازع رأس الحربة في الرواية الأفريقية المعاصرة، وفي الطبقة الأولى من كتابها الكبار، فإنه لم يكتب سوى خمس روايات فقط، إلا أنها كانت كافية لترسيخ مكانته باعتباره الأب الحقيقي، المؤسس، للرواية الأفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية.
في ترجمتها الجديدة التي صدرت عن هيئة قصور الثقافة ضمن سلسلة «المائة كتاب"في 2014، قدم مترجمها عبد السلام إبراهيم لهذه الطبعة مُعرّفا بأهميتها وبمكانة مؤلفها في الأدب العالمي، وترجم أيضا حوارًا طويلا مهمًا يكشف فيه «أتشيبي"حكايته مع الكتابة، يقول بوضوح إنه عندما كان في سن الفتيان، عرف المثل العظيم الذي يقول: «إلى أن تجد الأسود مؤرخيها، فسيمجد تاريخ الصيد دائما الصياّد»، قرر أتشيبي أن يقوم بهذه المهمة، أن يكون كاتبًا يعبر عمن لا صوت لهم، أن ينطق بلسان الأسود رغم أنه تعلّم في مدارس الصيادين، أن يروي معاناة وآلام الأسود وشجاعتها أيضا.
تدور الرواية حول مأساة أوكونكو أحد أقطاب قبيلة «آوبي"في الفترة التي بدأ الرجل الأبيض يظهر فيها على مسرح الأحداث الأفريقية ويتوغل في القرى الداخلية. ويصور أتشيبي في أسلوب ممتع سلسلة الأحداث التي يعيشها أوكونكو منذ نشأته الأولى وجهاده وعمله المتصل ليصل إلى مركز ممتاز في القبيلة، ثم سقوطه نتيجة لكبريائه واندفاعه وتمسكه ببعض القيم الخاطئة لخوفه من أن يتهم بالجبن أو الضعف، وهي صفات كان يتصف بها والده الفاشل مما يدعوه إلى الشطط وإساءة التصرف، ويصور المؤلف نسقًا بأكمله من الحياة يمثل أوكونكو بعض نواحيه.
ولعل من دواعي نجاح أتشيبي في هذه الرواية الساحرة أنه أوجد صورة تنبض بالحياة لعشيرة بل لقرية إفريقية كاملة بما لها من معتقدات وعادات وروابط قوية يحكمها نسق من المبادئ والتصورات النابعة من رؤيتهم للعالم، تربط أفراد القبيلة ببعضهم بعضا وبآلهتهم وأسلافهم والأرض التي يعيشون عليها. ويقدم أتشيبي صورا ولوحات روائية حية وبديعة لبعض الاحتفالات القبلية والعائلية من اجتماعات رياضية ومعارك كثيرا ما كانت تنتهي بالولائم التي تجمع بين القبيلتين المتحاربتين، وكذلك يعرض لمراسيم الزواج والشعائر الجنائزية واحتفالات الأسلاف وغيرها من مظاهر الثقافة المحلية لهذه الشعوب الأفريقية الفريدة في خصوصيتها وتكوينها.
وإذا كان «أتشيبي"يرمي إلى تصوير تلك الحياة – التي تكاد تندثر تماما أمام غزو الرجل الأبيض للقارة الأفريقية – فإنه يرمي أيضا إلى تصوير الآثار المدمرة لهذا الغزو وتداعياته على حياة السكان المحليين في تلك القرية الآمنة، الهادئة، الوادعة، المطمئنة، وما يسببه هذا الغزو من فرقة بين أهلها ومن قلق وشك وبلبلة في أذهان أبنائها، عندما يرون معتقداتهم وطرق معيشتهم وما ورثوه عن أسلافهم جيلا بعد جيل، وقد ضرب الرجل الأبيض بها كلها عرض الحائط دون أن يمسه سوء أو يصيبه أذى، شعور قاتل بالضعف والمهانة يضرب سكان القرية عندما يجدون أنفسهم مكتوفي الأيدي أمام ذلك الخطر الداهم الذي سلب قوتهم وفرّق بينهم فتداعت الأشياء من حولهم، وانهار العالم الذي كانوا يحيون بين جنباته في وداعة وسكون.
وبالرغم من بساطة التكنيك الروائي، وبساطة الأسلوب وسلاسة اللغة المكتوبة بها الرواية، فإنها في الوقت ذاته قد حملت من حرارة التعبير وصدقه ما جعل الرواية كالرصاصة في تأثيرها الفني، كانت بلا شك تتسم بالجمال الغامر والقوة وتجمع بين الجدة والأصالة والصدق، شأنها في ذلك شأن خير ما أنتجه الإفريقيون من أدب حديث.
كتابة شينوا أتشيبي (الإبداعية والنقدية) تنتسب في مجملها إلى المرحلة التأسيسية في ما أسماه النقاد «خطاب ما بعد الكولونيالية"أو «نقد ما بعد الاستعمار»، ولذلك لا تخلو هذه الكتابة من حماسة البداية في التطلع إلى الهدف، ولهفة تعرية الناقد الكولونيالي «الاستعماري» من كل أقنعته، والكشف عن النزوع الاستحواذي الذي ينطوي عليه هذا الناقد الذي لا يرى إلا ما يرغب فيه، ولا يعترف إلا بما يشبه ما اعتاد عليه.
وقد ظل نوع هذا الناقد «الكريه"يثير سخط «أتشيبي"وجعل همه الإبداعي الأساسي، سواء في كتابة الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر، تجسيد الصدام بين العالم الذي ينتسب إليه شعب «إيجبو» وعواصف الكولونيالية التي لم تكف أدوات إرسالياتها التبشيرية، والحكومات الاستعمارية عن محاولة اقتلاع هذا العالم من جذوره واستبدال عالم غريب به. ولم يتخل «أتشيبي"عن مواقفه في تأصيل الهوية الأفريقية والدفاع عنها في مواجهة النقائض التي عملت على تدميرها أو تزييفها، وفي مقدم هذه النقائض الإيديولوجيا التي يجسّدها النقد الكولونيالي الذي عمل على سلب الهوية الأفريقية خصوصيتها وفرض أقنعته الأجنبية عليها.
يقول الناقد محمود عبد الشكور، في قراءته البديعة للرواية، إن ما تناقشه الرواية أعمق بكثير من إدانة الرجل الأبيض، إنها تتحدث عن عدم قدرة الإنسان عموما على استيعاب اختلاف الآخرين عنه، عدم احتماله ثقافة أخرى، ورغبته في أن يكون الناس جميعا على مثاله، مأساة أوكونكو في شعوره بالاغتراب عن عالمه القديم، بعد سنوات عاد إلى قريته مع أسرته، كان قد نفي بسبب جريمة قتل خطأ، رجع فوجد ابنه مُبشّرا، سادة القرى يتم جمعهم وضربهم، قانون جديد ومحكمة مختلفة، العملاق الذي حصل على الرتب والألقاب، بطل الحروب والمصارع الأعظم، وجد نفسه مهانا وسط زوجاته وأولاد، ولم يستطع هو أن يتغير، بدا كما لو كان أسدا يجبرونه على أن يكون حملا، قرر أن يشنق نفسه، وفعل ذلك بمنتهى البساطة وبلا ذرّة ندم.
جريدة عمان