استمع
عُمِّدْتُ في الكنيسة باسم (ألبرت تشنوا لوموغو)، لكنني سرعان ما طرحت عني جانباً هذا الإجلال المكنون لإنجلترا الفيكتورية عندما التحقت بالجامعة، بيد أنك لا تعدم أن تجد بين رفقاء الدراسة القدامى من يصر على مناداتي بهذا الاسم: (ألبرت). إن أقدم الناس إصراراً على مناداتي بهذا الاسم هي والدتي التي انتابتها أقسى درجات الارتباك والحيرة والمرارة جراء تغييري لاسمي. إذا سألك أحدهم «ما الذي يجمع بين جلالة ملكة بريطانيا وتشنوا أشيبي؟"؛ فإن إجابتك - لا محالة - ستكون:«كلاهما فَقد عزيزهُ ألبرت».
تشنوا أشيبي
ترجمة: صلاح محمد
أمَّا بشأن (تشنوا أشيبي)، الاسم الذي اخترته لنفسي؟ فقد اتبعت فيه تقاليد شعبي وعاداته التي تمنح المولود اسماً يستند في جوهره على مقولة من المقولات الفلسفية التي تمتاز بشيء من الطول.
كنت - ولا أزال - شغوفاً بالقصص، ومأسوراً باللغة، أولاً: لغة شعب «الإيبو"الذي أنتمى إليه، وثانياً: اللغة الإنجليزية التي شرعتُ في تعلمها منذ الثامنة من العمر. لا أعلم على وجه التحديد كيف جرت الأمور معي، فقد كنت أتحدث بلغة الإيبو أكثر مما أتحدث باللغة الإنجليزية، لكنني بالمقابل كنت أكتب باللغة الإنجليزية أكثر مما أكتب بلغة الإيبو، الشيء الذي جعلني ثنائي اللغة على نحو غير منقوص. رأى بعض الناس أنه من الأفضل لي أن أكتب بلغة الإيبو، وفي بعض الأحيان كانوا يخرجون عن سمت التكلف متسائلين: «بأي لغة تنتابك الأحلام؟» وحين تكون إجابتي بأن الأحلام تنتابني باللغتين معاً، فإنهم يبدون غير مصدقين.
نحن نعيش في فضاء يمثل مفرق طرق للثقافات، ويجب علينا أن نمارس هذا العيش بهدوء وسكينة. حينما كنت طفلاً، كان بإمكان المرء أن يرى ويكتنه تلك الخاصية المتفردة، والجو الذي يحيط بها على نحو أكثر جلاءً ووضوحاً. أنا لا أتحدث هنا عن كل ذلك الهراء الذي نسمعه حول الفراغ الروحي ووطأة الانحطاط الذهني اللذين يترتب أن يكونا ملازمين للأفارقة، ولا عن تلك القوى الشريرة، والأهواء اللاعقلانية، التي تطوف خلسة في قلب ظلام إفريقيا. نحن نعرف كل الطقوس السرية للعنصرية التي تكمن وراء مثل هذا الهراء، ويجب علينا أن نشير، بوضوح وجرأة، إلى كل أولئك الذين يفضلون أن تكون إفريقيا مرئية عبر تلك الصفات الشنيعة. إن مثل هؤلاء هم أناس غير مؤهلين لإظهار أي تفوق يختص بالسلامة العقلية والقدرة على التغلب على مصاعب الحياة.
لكن مفرق طرق الثقافات هذا يحوي سلطة غاشمة تنطوي على العديد من الأخطار؛ إذ إن الإنسان يمكن أن يلقى حتفه على مفرق الطرق وهو يصارع أشباحاً ذات رؤوسٍ متعددةٍ، أو يمكن أن يعود إلى أهله بقصعة مليئة بعطايا من رؤى نبوئية. على طرفٍ من مفرق الطرق، كنا نترنم بالتراتيل، ونقرأ الكتاب المقدس ليل نهار. وعلى الطرف الآخر، كان شقيق كاهني في الكنيسة وأسرته يقدمون طعام النذور لآلهةٍ زائفة، وهم منقادون كالعميان إلى طقوس وثنيتهم. كانت تلك الأوثان وطعام النذور ذاك، يُحدِثَان في داخلي فتنة وغواية من نوع خاص، رغم تمسكي بتعاليم ديانتي المسيحية لدرجة أنني كنت في صلاة الأحد، ونحن في ذروة ترديدنا المهيب ل (تسبيحة الشكر)، أحلم بعباءةٍ ذهبيةٍ تتدلى من على السقف لتنسدل على كتفي.
أجل بالرغم من ذلك التمسك بالدين، لم أكن أتورع في اقتياد أختي الصغيرة إلى بيت جيراننا، عندما يكون والدي في غفلةٍ من أمرنا، لنشارك في تناول طعام الولائم المنذورة للأوثان.
لم يكن أرز جيراننا يحمل طعماً من طعم الوثنية. كنت وقتئذٍ في العاشرة من العمر تقريباً، وإذا اعتقد أيّ شخص بأن ثمة صراعاً روحياً يعتمل في داخلي ويمزقني، أو أراد أن يتوسَّع في التفسير إلى أبعد الحدود، معتمداً على ازدواجية مبرحة تقض مضجعي؛ فسيكون هذا الشخص فقط كمن يحاول إرضاء نفسه. أنا شخصياً لا أتذكر أي نوع من أنواع الأسى المفرط. ما أتذكره الآن هو الانجذاب إلى تلك الطقوس والافتتان بها، وهي تحدث في الطرف الآخر من مفرق الطرق. أعتقد بأن هناك شيئان وقفا إلى جانبي، وعملا لصالحي: ذلك الفضول، وتلك المسافة التي فُرِضَت بيني وبين حادثة ميلادي. تلك المسافة لم تُحْدِث فجوةً بل أحدثت لحمة يمكن تشبيهها بخطوة إلى الوراء ضرورية للمشاهد الحصيف وهو يتأمل رسوخ خيمته وحسن هيئتها.
كنت محظوظاً في حيازتي لكتبٍ قديمة وجدتها منتشرة في أرجاء بيتنا عندما بدأت في تعلم القراءة. بوصفي المولود الخامس في أسرة تتكون من ستة أطفال، ووالدين يملؤهما الحماس لتعليم أطفالهما، فقد ورثت مجموعة من كتب مبادئ تعلم القراءة والمختارات الأدبية الموزَّعة في أرجاء البيت. ما زلت أتذكر مسرحية (حلم منتصف ليلة صيف) لوليام شكسبير، وأنا في مرحلةٍ متقدمةٍ من مراحل التشتت الذي يمكن أن يحدثه الإطلاع. أعتقد أنها كانت نسخة نثرية معدَّلة ومبسطة ومزودة بالرسومات. أفادتني بعض الكتب التي وجدتها بالبيت، لكن بالتأكيد لم أستفد من كل الكتب. كان هناك كتاباً في علم الرياضيات، تمكنت من تهريبه وبيعه بقرش، كنت أحتاجه لشراء (ماي - ماي)؛ تلك الحلوى اللذيذة التي كانت تبيعها امرأة مُغْوِيَة في سوق صغير يقع خارج أسوار المدرسة. كان أمري قد أكتشف، لكن أمي لم تكن تحمل أي سبب يدفعها للشك في نزاهتي، كانت المسكينة تقول:«الشك أجل، أما السرقة فلا»، وهي مصدومة لما حدث. بالطبع تمكنت أمي من استرداد الكتاب، وعندما أحضرته للبيت كنتُ أشعر بالخجل، الأمر الذي دفعني إلى عدم النظر إلى ذلك الكتاب مرة أخرى، وربما يكون ذلك هو السبب في أنني لم أستفد من علم الرياضيات طوال حياتي. كان تقدير أمي للكتب يصل إلى حدود الخرافة.
أما أبي وفيما يتعلق بالكتب فقد كان يبدو على نحو أكثر صرامة من أمي، فهو لم يُقبِلْ على تمزيق مجرد ورقة طوال عمره المديد، بإمكاني أن أتخيل نوع الذائقة التي اكتسبتها من قراءاتي المشوَّشة للأدب في بيت أبي. على سبيل المثال فقد كنت شغوفاً بتلك الجوانب المتعلقة بالتاريخ الكنسي، والتي يمكن للقارئ أن يستجليها من كراسة (قساوسة غرب إفريقيا)؛ ذلك الكتاب الذي يصف إلى حدود السأم كيفية قراءة الكتاب المقدس. كانت تلك الكراسة تحوي أيضاً تاريخ تنصيب كل أسقف انجيليكاني عمل في غرب إفريقيا، وتاريخ وفاته والتي يتم تقديمها عادةً على نحوٍ مؤسٍ وآسر. كان معظم أولئك الأساقفة لا يعمرون كثيراً، أتذكر حادثة وفاة واحد منهم تستدر العطف: وصل هذا الأسقف إلى (لاغوس) مباشرةً، فور تنصيبه في كاتدرائية القديس بولس في إنجلترا، لكنه فارق الحياة بعد عدة أيام، ولحقت به زوجته المكلومة بعد أسبوع أو نحوه. تلك أيام كانت فيها غرب إفريقيا مقبرة للبيض، وموئلاً لكتابة أشعار عظيمة لم يتسنَّ لي الإطلاع عليها إلا فيما بعد: (يالمنعرجات أرض بنين/يالمنعرجات أرض بنين/ التي يدخلها الكثيرون/ ويخرج منها القليلون).
لم أكن أعرف بأنني سأصبح كاتباً، لأنني حقيقة لم أكن أعلم بوجود مخلوقات من صنف الكتاب إلا في مرحلة متأخرة من حياتي. كانت القصص الشعبية، التي تناوبت على حكيها أمي وأختي الكبرى على مسامعي، تحمل تلك السمات الممعنة في القدم لسماوات وغابات وأنهار. عندما أقبلت مؤخراً على التعرف إلى البشر، لم يكن ذلك الأمر ذا فائدة بالنسبة لي.
في سنوات دراستي الجامعية قرأت روايات مروعة تدور موضوعاتها حول إفريقيا، تضم هذه الروايات رواية جويس كاري المعنونة(مستر جونسون),(Mister Johnson) والتي لاقت استحساناً عظيماً من قبل القراء الأفارقة، حينها قررت بأن مثل تلك القصص يجب أن نحكيها نحن، لا الآخرون، مهما أوتوا من موهبة وحسن نوايا.
رغم أنني لم أشرع في كتابتها بوعي يجسد تلك القداسة المهيبة، إلا أنني أعرف بأن روايتي الأولى (الأشياء تتداعي) (Things Fall Apart) كانت تكفيراً عن الماضي، ورجوعاً إلى الطقوس ومبايعتها، وذلك عملّ يترتب على ابن يتسم بالسخاء تجاه شعبه أن يقوم به. لكن الأشياء كانت تتسارع في إفريقيا. ما أن بدأنا بالكاد في الاستدفاء بشمس ذلك التصالح، حتى تبدَّت في الأفق سحابة جديدة حاملة معها غيوم الإقصاء. صحيح أن شمس الاستقلال قد أشرقت، لكن الزعيم الوطني الذي كان بالأمس يلتف حوله الجميع، لم يعد اليوم ذلك الزعيم الذي يتمتع بالجاذبية. في تلك الأثناء، كانت الأشياء تمضي قدماً، لقد تمكن عسكريون يحملون نياشين برَّاقة من الإطاحة بالزعيم الوطني، ونصبَّوا من أنفسهم أوثاناً جديدة يعبدها الشعب، لكن الزعيم الوطني شرع بدوره في تعلم طقوس الانتظار.
تعودت أن أرتاد مقهى لا يحمل اسماً لتناول سندوتشات (الهامبرغر). على جدران ذلك المقهى كانت تنتشر عبارات مكتوبة، بمنتهى الجدية و موضوعة على شكل نقوشٍ. كانت تلك النقوش تعرض حواراً من جانبٍ واحد بين إدارة المقهى والمستخدمين. كان للنقش الأكثر جدية، بين تلك النقوش، أن يُقرَأ على نحو شعري: «تولى رئيسك في العمل بصنوف الرعاية؛ فالرئيس القادم ربما يكون أسوأ».
إن مشكلة الكتاب الحقيقية تتمثل، حقاً، في أنهم يرفضون، وفي كثيرٍ من الأحيان، الإذعان لمثل تلك المقولات العقلانية.