أوراق
حين نقترب من حافة الرحيل، يبدأ الإنسان المدفون بداخلنا بمحاسبتنا أولاً، فنشعر أولاً ببخل المشاعر التي نهديها للآخرين في وقتٍ كُنا نظن فيه أننا نهديهم الكثير من مشاعرنا، لكننا نُفاجأ بأن هذه الشحة بالمشاعر ما هي إلا عشق نتبعه مع الآخر وفق طرق خاصة بنا نحن، لا علاقة لها بما يريده أو يتمناه المقابل، درس للعطاء، والمشاعر، افتقارها، ومنحها،
وكل يعطي الحب بحسب وجهة نظره. كل هذا جاء في كتاب حماقات بروكلين لبول اوستر الذي صدر عن دار المدى للاعلام والثقافة والفنون وترجمه اسامة منزلجي.
يذكر أوستر أنه كان يفتش عن مكان هادئ للموت فيه، حيث أوصاه أحدهم باللجوء إلى بروكلن، ثم سافر إلى هنالك مستشيراً لاستطلاع المنطقة، والتي لم يكن قد عاد إليها منذ ستة وخمسين عاماً أي عندما كان في الثالثة من العمر، ويذكر أن والديه كانا بعيدين عن المدينة لهذا وجد نفسه غريزيا يعود للحي الذي عاشا فيه، ويصف نفسه وكأنه كلب جريح يزحف إلى مسقط رأسه.
انتقاله إلى بروكلن تسبب لهُ بتدهور كبير وتراجع في وضعه الإقتصادي، كما أنه قضى فترات طويلة يعاني البطالة، حيث أصبحت ساعات النهار طويلة جدا، إلا أن ابنتهُ راشيل نصحته بالتفكير بعمل ومشروع استثنائي لإخراجه من هذه الحال.
كان أوستر من اليأس أنه شرح لابنته بأنه على مشارف الموت فلا حاجة لخلق مشاريع، إلا أن ابنته نعتته بالقاسي والأناني، واتهمتهُ بمثاليته، يذكر الكاتب أن توصيفات ابنته قاسية بعض الشيء ففي أيامه الطيبة عُدّ أوستر عذبا وودودا وكأي شخص عادي، كان عطوفاً مصغياً دائماً يحاول التعلم كيف يفتن الناس.
ولم يمثل اوستر باباً مغلقاً بل على العكس كان بسيط لحد ما، ولكنهُ حزين في سره وهو من أصحاب الهموم القاتلة أولئك الذين تيقنوا بأنهم لم يخلقوا للزواج.
رغم أن ظن راشيل بأن أبيها كان أقل من زوج مثالي لأمها، وأقل من أن يكون أباً، إلا أنه كان متيقناً أنه أحب كليهما على طريقته، وإن كان يتواجد أحياناً في أحضان امرأة اخرى فهذا لأنه لم يأخذ أي علاقة من العلاقات السابقة على محمل الجد.
ولم تكن فكرة الإنفصال عن ديث"زوجة أوستر"فكرته، بل كان يخطط للإقامة معها حتى النهاية، لكنها لم تتجاوز عن آثام أوستر الذي لم يلمها واحترم رغباتها، ونتيجةً لاستفحال المرض"سرطان الرئة"على الكاتب بدأ يوظف اشتغالاته الحسية على كل شيء، وتوصل الى إيجاد مشروع يناسب هواياته، وحاول وضع عنوان فخم للعمل خادعاً نفسه بأنه منهمك في عمل هام أطلق عليه اسم"كتاب الحماقات الانسانية"كان ينوي الكاتب تدوين السرد به بأبسط وأنقى لغة عن الأخطاء الفاضحة والأغلاط المضحكة والتصرفات المحرجة ونقاط الضعف وكل فعل وصفه بـ"التافه"ارتكبه على امتداد حياته المهنية المتفاوتة كإنسان.
يذكر أوستر أنه كان يحاول أن يسمي هذا المشروع كتاباً، لكنه في الواقع كان مجموعة من الحزم الورقية المفككة، والتي تجمع صفحات منفصلة واوراقا عشوائية وبطاقات ائتمان، وخربشات عشوائية لخليط من حكايات مفككة كان الكاتب يرميها.
ويذكر الكاتب بأنه كلما جلس ليكتب يترك عينيه مغمضتين لتجول في أي اتجاه تشاؤه، وهنا نجح الكاتب بإجبار نفسه على الاسترخاء ليستذكر بذلك كمية كبيرة من مواد الماضي السحيق وأشياء كان يفترضها في ذلك الحين افترض أنه اضاعها إلى الأبد.
في هذه الرواية لخص بول أوستر جابناً واقعياً من حياته الخاصة في منزل برونكسفيل المؤجر اصلاً وحالما انتهت مدة عقده لن تبقى مسألة النقود مشكلة، فخطته هو وزوجته السابقة لفصل الربح عن مبلغ بيع البيت بوجود أربعمئة ألف دولار في المصرف كان سيتوفر له مبلغ أكثر من كافٍ ليعيله حتى آخر يوم من حياته.