دون كيخوته في الفكر الفلسفي المعاصر

دون كيخوته في الفكر الفلسفي المعاصر

عبد العزيز بومسهولي
فوكو: دون كيخوته والبحث التائه
عن التماثلات:
في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان التمثيل من كتاب «الكلمات والأشياء، يخصص فوكو الفقرة الأولى لدون كيخوته، وهي فقرة شديدة الكثافة، ليس فقط لاستدعائها لمفاهيم يتطلبها التحليل الاركيولوجي، وإنما ايضا في قدرتها على إيقاظ كينونة ما يسميه دولوز (بالشخصية المفهومية) بما هي شخصية تقيم في اللغة، كما هو حال شخصية دون كيخوته المصنوعة من كلمات متقاطعة فيما بينها، أي أنها كتابة تائهة في العالم بين تشابه الأشياء،

وحتى شكل هذه الشخصية على شبه بالشارات، شكل خطي طويل نحيل كالحرف قد فر لتوه هاربا من تثاؤب الكتب.(14)
إن ولادة شخصية دون كيخوته حسب هذا التأويل لا يقوم على إتلاف شجرة النسب أي على التحلل من مجموعة من التسميات التي تحدد هويته الأصلية وتبني تسميات أخرى تؤسس للشخصية النبيلة كما وضحه تفسير «أونامونو»، وإنما يقوم على موت «الموجود» وهذا المفهوم سيغدو جوهريا كأساس لشخصية مفهومية. وليس كأساس لشخصية كينونية مشروطة بالموجودية، إن الكتاب هو واجبه أكثر مما هو وجوده، وعليه دون توقف أن يستشيره كي يعرف ما يجب أن يعمل وما يجب أن يقول، وأية إشارات عليه أن يعطيها لنفسه وللآخرين ليبين أنه من نفس طبيعة النص الذي خرج منه.(15(
إن ولادة دون كيخوته كشخصية مفهومية، إنما تبدأ حيث تنتهي هويته الأصلية، إن بدايته تتأسس بفضل المثيلات التي غدا يعيش من خلالها تجربة للبحث عن التماثلات، وملاحقتها لفك رموز العالم. أي أن هذه البداية /الولادة، إنما تأسس على نهاية الكيان الهووي الماثل كموجود أي على موته، ومن ثم فان ولادة الشخصية المفهومية تقترن بما يسميه «ريكور» الهوية السردية، التي تروي قصة اسم علم. ولأن صاحبها قادر على أن يروي قصة حياته وأن ينسب إلى ذاته أفعالا معينة هو فاعلها. وهذه الهوية السردية تتناول كل تغيرات مسارات الحياة وتقلبات الزمن، ومع ذلك فإنها تبقى واحدة، ويبقى الفرد ذاته، رغم التحول المستمر. ونتعرف إليه عل أنه الشخص عينه(16.(
يسمي فوكو- دون كيخوته- بأنه عين ذاته – Le même فهو ليس إنسان الغرابة، وإنما هو بالأحرى ذلك الموسوس الذي يتوقف أمام كل علامات التشابه. وكما أنه لا يبتعد عن حدود مقاطعته القديمة الضيقة، فهو كذلك لا يتوصل إلى الابتعاد عن السهل الممتد حول المماثل، فهو بالفعل شبيه بكل الشارات التي نقل عنها. ولكي يكون شبيها بها فعلية أن يختبرها مادامت لم تعد على شبه بالكائنات المرئية. ومن أجل أن يغدو دون كيخوته شخصية مفهومية فان المهمة إلي تحقق هذه الإمكانية هي أن يتشبه بالنصوص التي هو الآن شاهدها، ومثيلها الحقيقي،وأن يبرهن ذلك بحمل العلامة التي لا تدحض بأنها قول الحق،وأنها فعلا لغة العالم كما ينبغي عليه أن ينجز وعد الكتب وأن يعيد صنع الملحمة بشكل مقلوب، إن كانت الملحمة تقص مآثر حقيقة مكرسة للذكرى،فان دون كيخوته يملأ بالواقع شارات القصة التي لا مضمون لها، وستغدو مغامراته فكا لرموز العالم: طوافا دقيقا ليدل على الصور الموجودة على سطح الأرض، والتي تبين بأن الكتب تقول الحق. وستغدو المأثرة برهانا يقوم على تحويل الواقع إلى شارات اللغة المطابقة للأشياء نفسها. ومعنى ذلك حسب «فوكو"أن دون كيخوته يقرأ العام ليبرهن على الكتب، ولا يقدم لنفسه برهانا أخر سوى بريق الاشتباه(17.(
وبناء عل ذلك، فإذا أردنا أن نضيف إلى الشخصية المفهومة سمة أخرى بالإضافة إلى ما سبق «لدولوز"أن حدده كما أشرنا إليه في الفقرة السالفة، فإننا سنضيف سمة أخرى نستشفها من «أركيولوجية فوكو» وأعني بها سمة البحث عن المتشابهات فلا يقوم «الكوجيطو"الذي يرسمه دون كيخوته لنفسه عل إثبات موجوديته، وإنما يقوم على إثبات عينه كشبيه، وحتى حينما يعي ذاته بأنه مخدوع، فإنما ليعطي لهويه السردية برهان المماثل: بطل ذاته الذي يجوب العالم بحثا عن المتشابهات «فأقل التماثلات يلتمسها كشارات نائمة يتوجب إيقاظها لكي تشرع من جديد في الكلام. فالقطعان والخدمات والفنادق تغدو ثانية لغة الكتب بالقدر الخفي الذي تشبه فيه القصور والسيدات والجيوش.(18)
إن إثبات دون كيخوته لذاته كشبيه، مصدره إدراكه لحقيقته، فهو من فرط قراءته للكتب غدا إشارة تائهة في عالم لم يكن يتعرف إليه كما أضحى رغما عنه كتابا يملك حقيقته، ويسجل على وجه الدقة كل ما فعله وقاله ورآه وفكره، ويسمح في الآن ذاته أن يتعرف الناس إليه في حقيقته هذه التي غدا بموجبها شبيها. وهي الحقيقة التي لا يدين بها إلا إلى اللغة وتبقى كلية داخل الكلمات. إن حقيقة دون كيخوته فيما يرى فوكو «ليست في علاقة الكلمات بالعالم،وإنما في هذه الرابطة الدقيقة والثابتة التي تنسجها العلامات اللفظية من ذاتها لذاتها والتخيل الخائب للملاحم قد صار القدرة التمثيلية للغة. لقد انطوت الكلمات لتوها على طبيعتها كشارات»(19.(
إن شخصية مفهومية كهذه تمثل بالنسبة لفوكو تجربة فريدة لكونها ترسم بمغامراتها ودوراتها وعطفاتها الحد، ففيها تنتهي الألعاب القديمة للتشابه والشارات، ومعها تنعقد علاقات جديدة.(20)
إن دون كيخوته وفق هذا المنظور يعتبر أول المصنفات الحديثة بما أن فوكو يرى فيه السبب القاسي للتطابقات والاختلافات الذي يتلاعب إلى ما لا نهاية بالشارات والمتشابهات.
وبما أن اللغة قد غدت مسكن الشخص المفهومي، فإنها فسخت فيه قرابتها القديمة مع الأشياء، لتجعل من دون كيخوته"إنسان التشابهات الوحشية الذي يكشف عن وجهه المجنون لا بالمعنى المريض، وإنما باعتباره انحرافا بينا ومستمرا، أي جعلت منه الإنسان المستلب في التماثل، الإنسان الذي يمثل شخصية اللاعب المختل لذاته والآخر، فهي تأخذ الأشياء على غير ما هي عليه، وتحسب جماعة من الناس من جماعة أخرى، كما تتجاهل الأصدقاء وتتعرف إلى الغرباء، وتظن أنها تنزع القناع في حين أنها تفرض قناعا إنها تقلب كل القيم وكل النسب لأنها تظن في كل لحظة… أنها تفك رموز الشارات(21). إن الشخصية المفهومية وهي تكشف عن وجه المجنون فإنها وعلى خلاف شخصية الشاعر الذي يعثر عن القرابات والتشابهات تحت الاختلافات «تعمل على شحن كل الشارات بتشابه ينتهي الى محوها»(22)
إن دون كيخوته غدا لدى فوكو شخصية مفهومية قادرة على إحداث توقيعات تفضي إلى محو العلامات.
لفيناس، دون كيخوته السحر والجوع.
لقد خصص لفيناس في كتابه «الله، الموت والزمان"فصلا لدون كيخوته عنوانه: دون كيخوته، السحر والجوع(23).
وبالطبع فاهتمام «لفناس»، بدون كيخوته لا يدخل في سياق مقاربة رواية سرفانتس وإنما يأتي استجابة للإشكالات المفاهيمية التي يعالجها «لفناس»، من قبيل إشكال التفكير في الله خارج مجال الأنطو- تيولوجيا.ومن قبيل أسئلة أخرى كالمسؤولية والتقنية وغيرها، وبمعنى من المعاني فان الاهتمام بدون كيخوته من لدن هذا الفيلسوف يدعم المنحى الذي سلكناه في هذا المبحث، والذي يكشف عن الشخصية المفهومية في دون كيخوته.
يدخل دون كيخوته حقل اهتمام الفيلسوف ضمن سياق التفكير في علاقة التقنية بالخديعة. فإذا كان للتقنية التي استهدفت تقويض الآلهة-الأشياء، تأثير إبطال السحر. فإنها رغم ذلك لم تتجنب كل خديعة، فالايديولوجيا مازالت تمارس تسلطها، فبواسطتها، يخادع الناس بعضهم وينخدعون أيضا. والمعرفة البسيطة التي تعنى بها العلوم الإنسانية ليست مستثناة عن الايديولوجيا. والتقنية خصوصا لم تحترز من الالتباس amphibologie الذي يسكن كل ظهور. وذلك هو مصدر الخوف المستمر للإنسان الحديث من أن يقع ضحية السحر.(24(
إن هذا - بالنسبة لليفناس- هو ما يعبر عنه ثربانتس بطريقة شيقة في الدون كيخوته التي تتمحور موضوعاتها / تمثلاتها في الجزء الأول حول السحر، سحر الظاهر الذي يغفو في تمام ظهوره. إن لفيناس يفكر هنا على الخصوص في ما تعرض له الفارس ذو الوجه الحزين من سحر أفقده عقله، وهو ما جعله يؤكد للآخرين بأن العالم. وكذلك هو شخصيا يعانيان من سحرما: في هذه الساعة ستقبل بالاعتراف-بني سانشو.بصحة ما أعدت قوله عدة مرات من أن كل أشياء هذا القصر قد أو جدها موت السحر (الفصل xlvI ص 462). في هذه القضية وحده سانشو يحتفظ بشيء من اليقظة وكما يبدو فهو أكثر قوة من سيده «…..مع أن حمق سانشو لم يفضي سوى إلى عدم القبول دون مواربة بأي احتيال أو خديعة باعتبارها حقيقية خالصة ومؤكدة، فانخداعه كان بواسطة أشخاص من لحم ودم، وليس بواسطة أشباح متخيلة كما يعتقد سيده جازما(.
وحده سانشو من بين الحاضرين من كان متيقظا على هيئته المعتادة. وقد بدا له من الأحسن حتى لا يصاب بمرض سيده ذاته،أن يتجنب الاعتراف بكل تلك الوجوه المزورة. (ص463). إن هذه الوجوه المزورة التي يشك فيها سانشو، هي لكاهن، وملتح وجماعة من الرفاق الذين قرروا اقتياد دون كيخوته إلى بلده،حيث يمكنه أن يتعافى، وحتى يواصل تخيله بالانغماس في حمقه وحتى يتم خداعه بواسطة الأرواح، وهذا ما يشق على الفارس تصديقه وهو فاقد لعقله. إذا فهل كانت مغامرة دون كيخوته شغفا بسحر العالم مثل انخداعه بذاته. انه من اللازم أن نفهم بأن شيطان ديكارت الماكر هو حاضر في هذه الصفحات، بل من اللازم أيضا التأكيد على حداثة هذا المقطع، حيث يتم إحداث السحر بمثابة أسر داخل متاهة اللايقين ودون خيط هاد، ضمن الوجوه التي ليست سوى أقنعة أو مظاهر زائفة.في عمق هذا الأسر داخل سحر المتاهة، يمارس دون كيخوته بطريقته الخاصة الكوجيطو حيث يتأسس اليقين: «إنني أعلم، وأعتبر نفسي، بأنني مخدوع، وهذا يكفيني من أجل سلامة وعيي: لأنني سأخبط خبط عشواء إذا ما فكرت بأنني لم أنخدع قط، وبأنني سأظل داخل هذا القفص بئيسا وجبانا،حارما العديد من المكروبين والمعوزين من النجدة التي بمقدوري أن أقدمها لهم، بينما هم في اللحظة الراهنة في حاجة ماسة وملحة لمساعدتي وحمايتي لهم:(ص 484) أليس هناك صمم surdité يسمح بالتنكر في صوت المكروبين والمعوزين، صوت يغدو بهذا المعنى سحرا بذاته، صوت يحث عل دنيوة أخرى، يغدو العامل فيها هو ادلال الجوع إنها دنيوة للعالم عبر تحريم الجوع الذي يعني تعاليا ينطلق لا باعتباره علة أولى، ولكن داخل جسدية الإنسان، انه تعال ليس انطولوجيا أو على الأقل لا نجد له أصلا ولا فصلا داخل الانطولوجيا. إن الأنطولوجيا تبخس الآلهة المرئية، ولكنها تموقعنا داخل وضعية دون كيخوته وداخل أسر متاهته. إذا لم يكن هناك هذا التعالي المغاير.(25(
كيف التخلص من الحصار، حيث ينغلق دون كيخوته داخل يقينية السحر؟ كيف نجد تخارجية غير متحيزة extériorité non spaciale؟ فقط ضمن حركة تتجه نحو الإنسان الآخر، وهي في الحال مسؤولية.
.فعلى مستوى جد متواضع، داخل اذلال الجوع، يمكننا أن نعاين تعاليا أنطولوجيا ينبثق داخل جسدية الإنسان. بهذا المعنى فان القوة الحيوانية للإنسان يلزم التفكير فيها بوصفها تشيطا لملحمة الوجود، تشظيا تنفتح فيه ثغرة، تصدع. منفذ باتجاه الماوراء، حيث يخلد فيه إله مغاير للآلهة المرئية.(26)
هل ثم سبرغور الجوع،حيث أن عين الأنا لا يبحث لأول وهلة إلا عن إثبات هويته؟ إننا لا نندهش بما يكفي للغة الجوع الصماء«إن البطن الجائع أصم» كما يقول المثل. إنها تصغي إلى توازن لن يغدو سوى توازن الكلية Totalité.
إن الجوع في حد ذاته، أو الاحتياج أو الحرمان بامتياز الذي يؤسس المادية أو للاستثمار الكبير للمادة، (إن السبب المنطقي مصوغ وفق نموذج الجوع، وليس العكس).انه حرمان يحول دون التأسي بهذا السلب في صورة عالم روحاني منظم، إن الجوع الذي لن تقدر أي موسيقي على إرضائه، يزمن séculariser كل أبدية روما نطقية. انه الحرمان الذي ترتكز فيه الشدة على فقدان الأمل في هذا الحرمان ذاته. إن اليأس يقاوم ضد المساحة المتحجرة ذاتها.أو أن الرأس يضرب جدارا كما لو أنه ينادي بدون جدوى، مناداة بدون علة أو صلاة بدون هدف وبدون موضعة Thematisation كما لو كانت طريقة ما قبل قصدية، كما لو أنها ارتجال خارج العالم، أو دعاء لا خطابي، طلب كالتسول سؤال دون جواب سؤال يفتقد إلى طرح هذا السؤال ذاته، سؤال الما وراء ولكنه ليس باتجاه ما وراء العالم. انه سؤال داخل تغير حدود التعاقب تغير بين الموت والله. انه سؤال يتعذر اختزاله إلى كيفية إشكالية حيث تلتف بعض الآراء التقريرية، سؤال مفارق يجادل داخل أعماق لامبالاته.ولأن من بين كل الشهوات التي يتأكد داخلها: conatus essendi سعي الوجود فان الجوع هو الأكثر أهمية.
في هذا السؤال لا يتعلق الأمر بالأخذ،ولكن بالتسول على وجه الدقة،وبهذا المعنى فالسؤال يتوجه إلى خارج غير متحيز، إلى ما وراء الانطولوجيا.
إن الدنيوية بواسطة الجوع هي سؤال حول الله وإلى الله-وبذلك فهي في الآن ذاته أكثر وأقل من تجربة ما. إنها سؤال ما قبل خطابي، سؤال بدون جواب. كما لو أنها صدى ملغز وملتبس للسؤال. مع ذلك فإننا نؤكد بهذا التحليل بأن المقصود ليس هو تذويت التعالي، وإنما الاندهاش من الذاتية.
فها هو سيد الفن الأول في العالم مسرغاستر لا يسود دون شريك.أن الجوع داخل سعي الوجود Conatus esseni حساس بشكل مدهش إزاء جوع الإنسان الآخر.
إن جوع الغير يوقظ الناس من غفلة شبعهم ورضاهم بما لديهم. إننا نندهش بما يكفي للتحول الذي يمضي من تذكر جوعي الخاص إلى المقاساة والشفقة لأجل.جوع الإنسان الآخر.انه تحول تنشأ فيه مسؤولية يتعذر التنازل عنها،واستحالة التملص الذي مازال يفرد ذلك الشبعان الذي لا يقدر الجوعان. ولا يفتأ يتملص من مسؤوليته الخاصة دون أن يتملص من ذاته. إن الفرد دانية هي استجابة أن تتمل كل التملص، إنها إدانة بأن تكون أنت ذاتك. إن الفر دانية هي استحالة التملص،إنها إدانة بأن تكون أنت ذاتك،فوحدانية الأنا هي أثر استحالة التملص هذه… وأثر المسؤولية غير القابلة للتنازل، والتي مازال دون كيخوته يتذكرها حتى وهو واقع في حبائل سحره. إن الحياة تسترد أنفاسها وحيوية قوتها الفاعلة، داخل مسؤولية وجود الأنا.
إن إنصات البعض للآخر، والخروج عن الذات باتجاه الآخر هو جواب السؤال، والدعاء ما قبل الشفهي للجوع.
هكذا يرتسم التعالي داخل الجوع على مستوى أشد دنوا.(27)
– امتدادات شخصية دون كيخوته في الفكر المعاصر:
إن شخصية دون كيخوته، ما تفتأ تثير – بقابليتها للتأويل الفلسفي – التفكير في الإشكالات الراهنة للعالم المعاصر، وهذا هو الباعث الرئيسي الذي جعل مؤلفي كتاب «هل يمكننا التفكير في العالم؟ الصدفة واللايقين»(28). يستعدون «دون كيخوته"في تأملاتهم حول الصدفة واللايقين، وفي نقدهم للنزعة العلموية الحديثة، خاصة في الفقرة الثانية من خلاصة كتابهم التي تحمل عنوان"واقعة المرآة». يستنتج هيجيل بنسياج وهرمان أكداج، وكلود سيكرون في سياق تأملاتهم بأن صورة العالم الذي يحيا فيه الإنسان الغربي مبنينة حول شيمة «الفرد – العالم» حيث الفرد يحتل موقع الذات، أما العالم فهو يحتل طبعا موقع «الموضوع»، إذن فحين اقتحمت مسألة اللايقين هذا الوضع، فإنها أحبطت أي ثقة في الاعتقاد بمستقبل ضروري وحتمي، وهذه الأزمة استدعت واقعة مفارقة وهي ما يسمونها بـ«اقعة المرآة».
في الواقع كل شيء يمضي كما لو أن البشر وهم يحاولون الاستمرار في النظر إلى العالم كموضوع قد وقعوا في مشكلة. فاللايقين هو هذا الموضوع – المشكلة الذي تنظر الذات من خلاله كما لو أنها تنظر في مرآة. وهكذا فالإنسان وهو في مواجهة عالم لا يقبل الفصل كما يخضع للصدفة، فإن القرارات تؤول إلى المستعمل l’opérateur فكيف لا يمكننا التساؤل حول هذه الشخصية «الفرد الذي استدعت وظائفه العليا، في أن يتخذ القرار حيث تتوقف الآلات الأكثر إتقانا. إن هذا يشجع نرجسية «الفرد» لماله من عزم على القرار مما يحيل إلى نشاطية جديدة باسم الإله- الإنسان"الذي يطمح إنسان الحداثة بلوغه لكن من فرط ما لا نتساءل حول هذه الشخصية، هذا الفرد الذي يوجد تحث هيئة «أنا» فنحن معرضون إلى الانحراف مباشرة عن مكان الالوهة. وتلك هي في الواقع قصة روسينوت Rossinante فرس دون كيخوته ففي نهاية الخرجة الأولى لدون كيخوته، وجد هذا الأخير نفسه عرضة لصدفة تيهانه أمام مفترق طرق والحال أن الفارس، ذا الوجه الحزين، والذي لم يكن قط فرد الحداثة في الشيء قد استبعد أن يقوم هو نفسه بهذا الاختيار لقد توخا أن تقرر الصدفة، أملا من خلال ذلك أن تتدخل الآلهة، ففك لجام فرسه مترقبا أن يتجلى القدر. إذن فإن كيخوته فيما يرى مؤلفو كتاب «الصدفة واللايقين»، قد وجد نفسه في موجهة ما يسمونه اليوم بطريقة لا تقديسية – باللايقين، لكن ها هو الحادث يتقرر حينما ترك لروسينونت rossinante (فرس دون كيخوته) أن يختار بنفسه بالطبع الطريق الأقرب إلى إسطبله الذي كان موعد بالزاد.
إن هذا المثال بالنسبة لمفكري «الصدفة اللايقين أبلغ دلالة عن وضعية الإنسان الراهن، فنحن من فرط استبعادنا لأي تفكير حول «الفرد» أي حول التحديات القصوى التي يخضع لها مستعمل التجربة، فإننا نواجه خطر الاستمرار في اتخاذ القرار في قضية العالم والحياة بالخضوع إلى أوامر بطوننا. ولهذا فإننا نفكر بنفس طريقة الفيتاغوريين الذي أكدوا على أنه من المناسب نعيد أن ربط الموضوع المتأمل (بفتح الميم المشددة) بالخطاب حول الذات المتأملة (بكسر الميم).
فعندما نعرف – في الواقع – ما يكونه العالم، فإن من اللازم أن نضيف معرفة ما تكونه الذات التي تفحصه.(29(
إن الآلية الابيستمولوجية المهيمنة في الحداثة، خاصة في النزوعات العلمويه scientistes، والوضعانية positivistes تستهدف باسم الموضوعية العلمية، أن تتخلى عن أية مرجعية حول ذات المعرفة، في دراستها للموضوع. إن هذا يؤسس إحدى دعامات المعضلة إزاء ما يوجد عليه الفكر في وضعيتنا.
إننا حسب تأويل «بنسياج، أكداك، وسيكرون"نوجد في عالم مولع «بالفرد» هذه الشخصية الصغيرة والمتحذلقة التي تطمح أن تكون سيدة لنفسها وللعالم.(30(
ولتوضيح الرؤية يتناول المفكرون الثلاثة مثالا آخرا من دون «كيخوته» فيثربانتس يبين لنا أن دون كيخوته الذي سلك طريقا ضيقا وجد نفسه في مواجهة جماعة من التجار الذين يقصدون أحد المعارض، وقد استوقفهم دون كيخوته تحث تهديد السلاح، من أجل أن يقروا له بأن «دولسيني» هي المرأة الأجمل في الكون.
إن التجار الذين يمثلون هنا «أفراد الحداثة» الصاعدة، يصرحون بجواب يكاد يكون علميا.أنهم مستعدون لهذا الإقرار، لكنهم من أجل ذلك يتوخون القيام بما نسميه اليوم بالتجربة. فإذا ما أحضر دون كيخوته «دولسيني» فهم يريدون فحصها، وعقب هذا الفحص يخلصون إلى استنتاج.
إن هذا المقطع برأي المفكرين الثلاثة يمثل بطريقة نابغة ذلك التصادم ما بين نموذجين أبيستمولوجيين، مابين عالمين: من جهة ذلك النموذج القديم حول الحقيقة المنزلة الذي يعتقد بأنه إذا كانت الحقيقة واحدة. فإنها من خلال الحق الإلهي لا تحتاج إلى أي برهان. في مقابل هذا فالتجار يمثلون النموذج الجديد الذي يعتبر أن الحقيقة هي دوما خاضعة للاختبار، والى الحكم.(31(
وإذا ما رأينا دون مشاكل قصور النموذج الأول، فإننا نطمح إلى رؤية عيوب النموذج الثاني.
في الواقع، يعتقد بنسياج وزميلاه، أنه إذا كانت الحقيقة هي دائما مسألة اتفاق. وكانت خاضعة لحكم البشر، فان هذا الحكم سيلقي بنا في عالم بنيوية الرأي، يعني في عالم بدون حقيقة.لأنه حتى لو أن الاثني عشر تاجرا رأوا السيدة «دولسيني» بأم أعينهم، وبنو حكمهم من خلال تجربتهم، ومن خلال ما تمكنوا من معرفته من النساء اللواتي يبلغ عددهن المائتين أو الثلاثمائة، فأية قيمة يمكن أن تكون لحكم كهذا؟ وبالمقابل، فمنهج كهذا له لازمة مرعبة، وهي وضع الإنسان بصورة الفرد موضع الحقيقة، أو على الأقل في موضع من يتلفظ الحقيقة.
إن مسألة صورة فرد –عالم individu -monde تؤسس، بلا شك، خطوة حاسمة من أجل مواجهة المشاكل المتعددة التي تعترضنا وتعترض معاصرينا، مع العلم بأن، وضعنا (مأزقا) كهذا إنما هو مأزق انعدام القدرة الذي يسم عصرنا الحالي. وهكذا فان الإنسان على هيئة الفرد المستقبل- الذي وقع في فخ شخصية يراد لها أن تكون عازمة على القرار، خليطا من رجل المغامرة، ورجل البورصة-قد اعتقد بأنه قادر على أن يتموضع خارج قوانين الطبيعة والواقع، متوهما بأن معرفته تمنحه سلطة الهيمنة على العالم.(32(
إن الفرد يظهر اليوم في خطاب الحداثة كما لو كان وحشا غريبا يلزمه أن يسحق الطبيعة والعالم بسيطرته عليهما، من أجل الانطلاق نحو مغامرة حياة السد. وما نراه اليوم من تحكم ليس إلا وجه الرعب الشامل.(33(
إن اعتراف الإنسان فيما يرى "بنسياج" وزميلاه، بأنه ليس فوق القوانين، يمكنه في أحسن الأحوال، أن يفهم بأننا لا نلقي بأنفسنا في عالم القدرية القهرية. ولكن بالعكس من ذلك، فإذا ما تخلينا عن فكرة الحداثة التي تماثل بين الحرية والهيمنة، فإننا نقدر أن نتحمل كل واقعة بوصفها خبرا سعيدا، يعني أن الحرية تتمفصل بالمصير Destin والمصير لا يعني هنا القدرية. إن المصير (القدر) هو على العكس من ذلك، فمن خلاله يمكن أن توجد الحرية. ليس وفق حرية التجار. ولكن وفق هيئتها الحقة المتمثلة في الفعل. إن اليقين كما يقول الفيلسوف «رايموند لول Raymonde Lulle «هو ميدان عميق، بحيث إن الفكر لا يحافظ على تماسكه إلا بواسطة الفعل».(34)
إن شخصية دون كيخوته من خلال حضورها في الفكر الفلسفي المعاصر، تشكل إحدى الشخصيات الرئيسية اللافتة للانتباه، لفرط ما نجدها في صميم إشكالات العالم المعاصر، ومن تم فدون كيخوته لا يقتحم المجال الخاص للفيلسوف إلا وهو يحمل معه سيرة للمفهوم، بما هي طريقة في حمل الفكر على التفكير.(35(
6- Michel Foucault: l(homme n’a de vérité que dans l’enigne du fou. le point hors-serie n° 17-2008 p 71.

عن مجلة الدوحة