أحمد حسنين باشا

أحمد حسنين باشا

لن اتحدث عن "أحمد حسنين" السياسي، فأن التاريخ السياسي لمصر والشرق العربي سينصف هذا الرجل الذي لعب بالسياسة، ولم تلعب به السياسة!.. ولن اتحدث عن "أحمد حسنين" الوطني فأن مصر كلها رأت فيه الرجل الوطني الذي يعمل للوطن بغير ضجة، ولا من، ولا ادعاء! ولن اتحدث عن "أحمد حسنين" العالم فان استكشافاته، وكتبه ،

ومغامراته هي التي ستعيش بعده لتحدث الناس حديثاً عجبا عن هذه الشخصية العجيبة التي مزجت العلم بالسياسة بالوطنية بالمغامرة بالرياضة فجعلت من كل هذا شيئاً هو أحمد حسنين...
وانما اتحدث عن أحمد حسنين الفنان، فأن هذا الرجل كان فنانا بكل ما في الكلمة من معنى.. بل اني اذهب الى القول ان سياسته وعلمه ورياضته واستكشافاته تأثرت بالفنان فيه اكثر مما تأثرت بأي شيء اخر.
والفنان العبقري لايعمل للناس، وانما يعمل للفن، وهكذا كان أحمد حسنين لايستهويه التصفيق الرخيص، وانما يجب ان ينال اعجاب الجمهور الذي يفهم الفن ويقدر الفنان. ولهذا كان بعض الناس لايفهمون حركاته السياسية في يوم حدوثها، مثلهم كمثل الذين لايطربون للاغنية إلا بعد ان يسمعوها مرتين، وبعض مناوراته السياسية كانت اشبه بلوحة فنية، لتعرف قيمتها يجب ان تقترب منها، وعندئذ تقدر الجهد المبذول، وتلمس الفن الرفيع...
وقد كانت حياة حسنين قطعة فنية. كانت رواية وكان هو بطلها يراه الناس على المسرح.. ولكن متحدثا عن سواه من الابطال. واني اذكر دائماً كلمة كان يرددها من انه ذهب وهو في انجلترا الى منجم مشهور فقال له:
- اني اراك اشبه بممثل، واراك دائماً فوق المسرح، واشهدك تنتقل من ادوار صغيرة الى ادوار كبيرة حتى تصل الى الدور الاول. وفجأة والانوار مسلطة عليك والجمهور يصفق لك، ويهتف باسمك ينسدل الستار فجأة، ويدهش الناس ان تختفي في ادق وألذ موقف في الرواية ويخرج الناس من المسرح باكين منحبين آسفين. لان القصة الجميلة لم تطل ولم تنته، ويختار كل واحد منهم الختام الذي كان يحبه لك! كذلك ستنتهي حياتك فجأة في وقت لايتوقع احد ان تنتهي!
وكان حسنين باشا يروي هذه القصة لاصدقائه ويقول لهم : اني احس ان حياتي ستنتهي كما قال المنجم الهندي، وهذا من حظي، فانه خير لي ان يضج المتفرجون من قصر دوري، من ان يضجوا لانه طال اكثر من اللازم! وقد تحققت نبوءة المنجم الهندي كما تمنى "أحمد حسنين" ونزل الستار عليه في يوم انتصاره. نزل فجأة دون ان ينتظر تصفيق المصفقين، وتحية المعجبين!
وفي حياة حسنين ما في حياة الفنان من تناقض، هذا المزيج العجيب من العلو والهبوط، بين الاكواخ والقصور، هذا الارتفاع الى حيث يعيش الملوك، وهذا النزول الى حيث يعيش افقر الناس. اشبه شيء بنوتة موسيقية تحوي دوراً عجيباً جمع كل "المقامات"!
ان أحمد حسنين كان يستيقظ في الصباح ويذهب القصر، يجتمع بالملوك، ويتحدث الى الامراء، ويشترك في ادارة شؤون الدولة العليا ثم يخرج من هناك الى "تل زينهم" في السيدة زينب حيث محلة الرواد يجلس مع الاطفال ابناء العمال الفقراء يلاعبهم، ويتحدث اليهم، ويبادلهم النكتة كأنهم اولاده، وكأن الجو الفقير جوه، وطريقة الحياة العمالية طريقته وبيئته، وكأنه ولد وعاش طول حياته في حي من احياء العمال.
وكان يعود من هذه الرحلات وكأنه عائد من موكب ملكي. كان كل جو من هذه الاجواء له فتنته. وله تأثير في روحه ونفسيته!
وكان يلعب دوره السياسي، ثم يخرج من هناك الى نادي السلاح ليلعب السيف، ولست اعرف هل كان يستعمل السياسة في المبارزة، او كان يجيد طرق المبارزة في السياسة، ولكني اعرف انه كان بطلا في اللعبتين، يضرب دائما في الصميم، ويضرب ضربة مفاجئة، ويضرب خصمه ليصافحه بعد ذلك.
ما رأيته يوماً يضرب رجلا على الارض، ولايسخر من مضروب او يهزأ من مهزوم!
كان رجلاً صوفياً يعرف الله كثيراً وقد استطاع ايمانه ان يجعل منه فيلسوفاً: العاصفة لا تخيفه، والسماء المشرقة لاتخدعه، والدنيا المقبلة لا تغره، والدنيا الغاربة لا ترهبه. انه على الحالين يذكر الله!
وكم كان غريبا ان هذا الرجل الصوفي كان يرأس جماعة التمثيل والسينما، ويشترك في حفلاتها، وينقد رواياتها، وكان يتدخل في بعض الاحيان ليعلم بعض الممثلين والممثلات كيف يقومون بأدوارهم، وكان يشترك مع نجيب الريحاني في قراءة رواياته قبل عرضها على الجمهور! وهو فوق هذا راوية للشعر وذواقة للغناء، يعرف اللحن المضبوط، وتلتقط اذنه النغمة العرجاء. اذا جلس في مجلس غناء شعرت وهو ينظر الى المطرب كأنه فرد من افراد الفرقة الموسيقية، يلاحظ كل آلة، ويتبع كل نغمة، وهو اشبه برئيس فرقة موسيقية يديرها دون ان يعزف آلة من آلاتها!
انني لا ازال اذكره كلما غنيت قصيدة سلو قلبي.. وأبكي فيه الرجل الفنان. والفنان الذي عالج كل شيء في حياته برقة الشاعر وخيال المصور، وبراعة الموسيقي، وسحر المطرب، واختفى فجأة كلحن لم يتم.. ومع ذلك بدا اجمل من لحن كامل!
لقد وصفع الكاتب لندو بأنه شخصية عجيبة لايوجد لها مثيل في الحياة الحاضرة اشبه بالشخصيات الروائية الخرافية التي عاشت في قصص ألف ليلة وليلة!
ولو كان لندو درس أحمد حسنين عن قرب اكثر مما درس لعرف مفتاح شخصيته وهو انه كان فنانا، وفنانا من الطراز الاول.
أم كلثوم
آخر ساعة/ أيار 1948