تداخل أزمة المثقف مع أزمة الواقع في تسارع الخطى

تداخل أزمة المثقف مع أزمة الواقع في تسارع الخطى

عبد العزيز لازم
تظهر رواية «تسارع الخطى» للروائي العراقي الرائد احمد خلف في ظروف باهظة الحرج، لم يشهد التاريخ لها مثيلا لا في العراق ولا في العالم. إنها بهذا المعنى تأخذ من الجنس التسجيلي بعض سماته ومن الجنس التاريخي سمات أخرى. لكننا لا نستطيع إسناد «تسارع الخطى» إلى احد الجنسين ليس لأن التسجيلي والتاريخي متداخلين بطبعهما فحسب بل لأن الرواية

ولدت في حضن ظرف ملتبس من الصعب تحديد مميزاته التاريخية سياسيا واجتماعيا. فلا نستطيع مثلا تحديد هوية الصراع على انه صراع بين الجديد والقديم كما يحصل في العادة في ظل ظرف صار الجديد يستعير ادوات القديم البربري ذاته لرسم هويته، في القتل والاختطاف والسلب وبيع النساء واتخاذهن محظيات ووضع آدمية البشر في الدرك الاسفل من اولويات التقييم وكأن القائمين على هيستيريا اللامعقول يرومون نفي المجتمع عبر نفي آدميته والعبور به الى برسخ الموت، فلم يحصل الموت بمعنى الإماتة اي القتل على وسائل تبرير بالسهولة التي يحصل بها اليوم.

ويمكننا تلمس سمات الصراع الطبقي الكامن فيه رغم عدم ظهور هذه السمات بشكل بارز، فالفقراء هم الضحايا الاكثر تعرضا لطغيان القوى الشريرة، وهم الذين يتسع معسكرهم عدديا ونوعيا، اي ان الفقراء يزدادون عددا و فقرهم يتفاقم. وهذه هي إحدى سمات ازمة الواقع التاريخي الراهن. وقد اشارت الرواية في اكثر من موقع الى ان المغدورين في احداثها هم من المدافعين عن مصالح الفقراء كما هو حال المثقف عبد الله أو من الفقراء مثل عائلة «هند» وأمها بينما المتورطون في الاعمال الاجرامية هم من ابناء الطبقة الطفيلية الجديدة التي شيدت مصالحها ع?ى حساب الفئات الفقيرة فاصبحوا من الاثرياء الذين لا يتورعون عن الاعتداء على حقوق الفقراء حفاظا على مصالحهم كما فعل رياض ضد هند زميلته في الكلية بعد ان وعدها بالزواج للوصول الى غاياته الانانية،فضلا عن تورطه في التخطيط لاختطاف الشخصية الرئيسة عبد الله. ان امثال هؤلاء لا يتورعون عن الإنغماس في ممارسات تشويه الاخلاق العامة للمجتمع.
يسعى احمد خلف الى تفجير الواقع داخل النص، وبما ان هذا الواقع يضج بالتفجيرات ووسائل لاحصر لها لقتل الناس وإلغائهم وخلق عوامل الإحباط في نفوسهم وحياتهم اليومية، فإن النص السردي يتحرك باعتباره مسرحا حاضنا لأحداث راهنة واحداث ستنفجر لاحقا. إن السخونة التي تنطلق من شريط الأحداث في المجرى العام والمجرى الشخصي توضح ان ظهور حالة الإحباط يشمل المستويين الشخصي والاجتماعي، فالناس في العراق الذين كانوا يحلمون بالخلاص من الإستبداد الديكتاتوري فوجئوا بان ما حصل بعد نهاية الديكتاتورية هو التدهور العام نحو الاسوأ في كل ل?ظة وكأن عقابا مرسوما ومقدرا بدقة يهبط على مصائرهم ليحبس أحلامهم الانسانية.
فكيف تصرفت «تسارع الخطى» ازاء ذلك. انبثقت شخصية عبد الله لتلقي بشحنتها الثقيلة على القارىء فتواصل بثها الموجوع الى نهاية سردية مفتوحة تؤدي الى المزيد من النوافذ السردية، و بهذا المعنى لا توجد نهاية ختامية للرواية بل بقي خزينها من الاحداث مفتوحا على المزيد من الاحداث التي يستطيع القارىء رسمها في ذهنه وإضفاء تفاصيل تتسارع على ذات الوتيرة وقد تكون اسرع من ذلك لكنها تحتفظ بخيوط الوصل مع بؤرة الرواية الرئيسية. لذلك نستطيع القول ان «تسارع الخطى « يمكن ان تشكل الجزء الأول من ثنائية او ثلاثية سردية طويلة او متوسطة الحجم. بذلك يكون الكاتب قد خلق سردا لا ينتهي بنهاية الكتاب الذي اعطاه هذا العنوان.
إن بؤرة السرد قد تركزت على شخصية عبد الله، ونعلم ان هذا الاسم يطلق على الرجال بمعنى العموم اي إن «كل الناس هم عبيد الله»،تقابلها في اللغة الانكيزية كلمة «somebody»لذلك فشخصية عبد الله لا تمثل نفسها فقط بل انها تمثل الناس جميعا في المكان الجغرافي الذي هو العراق، ليحاوره السارد الخارجي بالقول: «هل تظن أنك الوحيد الذي يحمل اسم عبد الله؟»ص 118. لاثبات هذه الحقيقة لجأ الكاتب الى إخضاع الاسم للتداول بين اكثر من شخص بعد أن سلبه منه مستبدلا إياه باسم ايوب «ايوب يشبه عبد الله من حيث الهموم»(حوار ص112) وأطلق إسمه على شخصيات ثانوية لا تشبه عبد الله المختطف والمحبط ولم تعش تجربته الرهيبة وهو بين ايدي خاطفيه لكنها شكلت عناصر البناء السايكولوجي والدرامي للشخصية الرئيسة.
منذ البداية جهد الكاتب على تأثيث البناء الفكري للرواية من مصادر شتى فاستحضر هاملت شكسبير مسلحا بعبارته الشهرية «أكون او لا أكون، تلك هي القضية»واستحضر راسكولينكوف ديستويوفسكي ومارا-ساد بيتر فايس ورواية «الغثيان»جان بول سارتر اضافة الى المثقفين العراقيين يوسف العاني وقاسم محمد، فضلا عن السيد المسيح في عبارته الشهيرة: «يا إلهي لماذا تخليت عني.» التي استنجد بها عبد الله عندما اشتدت عليه مصائبه. لكن تكرار اسم هاملت وطموح عبد الله المصرار على اداء دوره على المسرح رغم غياب الفرصة في ذلك خلق مبررات التماهي الوجداني بين هاملت وعبد الله. إن هاملت شكسبير الذي تظاهر بالجنون حتى صار مجنونا حقا بسبب ضغط اوجاعه التي افرزتها قضية مقتل ابيه وغدر عمه وامه يحضر هنا بكل قامته في عقل عبد الله – ايوب، بطلا مأزوما خائبا مترددا غير قادر على إنجاز اي شىء. لكن عبد الله العراقي واصل احتفاظه بعقله كمثقف رغم المحن التي احاطت به وبناسه، رغم التغير النوعي في شراسة هذه المحن. فبعد هروبه من بين ايدي خاطفيه لم يتخلص من متابعاتهم له بوسائل إجرامية مبتكرة داخل المدينة، بل ان الأجواء الملتبسة المحيطة افرخت وسائل متنوعة اخرى للاجرام، لدرجة انه خسر ثقته باقرب اصدقائه بما يعكس انهيار القيم الاجتماعية المألوفة بعد ان جرفتها عاصفة العنف والجريمة. لكن ذلك ايضا افرز احساسا نوعيا خاصا لديه حول طبيعة الخطر الذي استمر داهما.
إن شخصية عبد الله – ايوب تلقت شحنها السردي من مصادر مختلفة اولها حبه للمسرح. إنه يعشق التمثيل المسرحي لكنه اجبر على ان يتفرغ لكتابة المسرحيات وقد عاش كل الزمن السردي هائما بحب المسرح. ونعلم نحن ان المعنى العام للمسرح بكل ادواته يمثل الحياة نفسها وكثيرا ما اشير الى هذا التمثيل المضموني من قبل شتى المدارس الفكرية والادبية. إن جميع تفاصيل الحركة الضاجة في «تسارع الخطى» تقترب كثيرا من اجواء المسرح لدرجة ان هذه الرواية يمكن ان تتحول الى مسرحية على يد كاتب مسرحي يجيد استيعاب دراما الشوارع والامكنة الصعبة. المصدر الثاني المهم هو انبثاق هذه الشخصية من بطن الحياة الواقعية فهي ليست غريبة عن الواقع رغم تفردها بالانتماء الفئوي الى فئة المثقفين وتشربه بالطبيعة النوعية لمعاناة المثقف عندما يتعرض للإقصاء وقلة الاعتبار. إن معاناة المثقف هنا ذات وجهين هما المعاناة البسيطة اليومية التي يعيشها المواطن العادي في عيشه ونواقص حياته، والثاني معاناته الأعلى حين ينظر الى الظاهر الحياتي والاحداث الجارية بروح وعقل معمقين تجلب على رأسه المزيد من المصائب، وهذا بالذات ما يجعل رأسه مطلوبا من قبل قوى ترى فيه وفي عقله ومواقفه تهديدا لمصالحها فنقرأ في ص93: «.. لقد أصبح معروفا لأهل الفن أنهم مستهدفون من قبل الجماعات المتطرفة على اعتبار أن الفن يشيع الفساد بين العباد..». إن شدة انتماء الخال عبد الله لبيئته الاجتماعية التي تؤكدها محاولته انقاذ ابنة اخته «هند» من ورطتها مع زميلها في الكلية رياض المترف الذي غدر بها في احد البيوت المشبوهة لم تمنعه من استيعابه للطبيعة الكونية لمشكلات العالم وهذا هو المصدر الثالث للشحن السردي لهذه الشخصية، اي الكونية، فاستحضار شخصيات فكرية وادبية عالمية ودخول ما تمثله في ذهن عبد الله اكسب هذه الشخصية القدرة على تمثّل مشكلات العالم بل ان المشكل الذي اطلقه المكان المحلي المتمثل بالارهاب والاختطاف الى جانب انعدام العدالة الإجتماعية أضفى على قضية عبدالله مدلولا كونيا يتمثل في قسوة الظروف والخيبات التي تلتهم المثقف الفاقد للدعم والنصرة من اي مصدر.
هل «تسارع الخطى» رواية انعكاسية؟
إذا كان من الصعب تجنيس الرواية اعتمادا على المضمون كما اسلفنا، لكننا نستطيع تلمس تجنسا يقينيا اعتمادا على الشكل. يحق لنا التكهن اذا لجأنا الى علم نفس الكاتب بأن احمد خلف قد تنفس بعمق حجم التفجرات السعيرية التي قدمتها الرواية وانبثقت هي من بين ركامها، فاصبح بين يديه مسوغا طاغيا لمجارات تلك التفجرات باسلوب جديد قادر على احتوائها، وهو الاسلوب الانعكاسي الميتا سردي. ويتعين ان نتذكر ان الميتا سرد ليس جديدا على الكاتب فهو قد مارسه في اعمال «الخراب الجميل»، «تيمور الحزين»، «موت الأب»ثم في روايته الاخيرة موضوع بحثنا. مع ذلك بقي احمد خلف شديد الإخلاص لتقاليد السرد الأصولي رغم خلق بنى سردية قائمة على سرد ما بعد الحداثة وفق مجاله المعروف بالسرد الانعكاسي. وربما يعود مرد ذلك الى إن احمدا تنبأ بموت مابعد الحداثة بعد ان تأخذ شهيقها الكامل، وحصل هذا فعلا بعد ان اعلن عن موت هذا التيار الذي ارعب العالم فيما يبدو بعد عمر ليس طويلا وذلك في الاجتماع التنظيري الفني المعروف باسم دورة «متحف تيت»الرابعة في لندن عام 2009 حين اطلق الناقد والباحث الفرنسي نيكولاس بوريو مصطلحا بديلا هو الحداثة المغايرة «Altermodern». لكن ما بعد الحداثة في الادب والفن العربيين لم تمت بعد وليس متوقعا لها ان تموت قريبا الا بعد ان تاخذ مداها كاملا، وهذا هو حال التطور في المحيط العربي الذي دأب على تعلم المدارس الحديثة من مراكز اوربا وامريكا الثقافية ومن ثم تمثّلها وخلق البنى المبتكرة الخاصة به اعتمادا عليها فيما بعد.
في «تسارع الخطى» تطرق الكاتب الى القارىء مرة واحدة في المتن عندما شعر بحالة الاستعصاء التي تمر بها المعضلة النفسية التي عصفت بالبطل فذكّره بموقف القارىء. بعدها لم يعد القارىء الى الواجهة بل ظهرت تقنيات انعكاسية أخرى تمثلت بظهور السارد المحاور وهو هنا الكاتب نفسه. يوجه السارد المحاور خطابه الى جهتين، فمرة يخاطب البطل وفي اخرى يخاطب القارىء. فبعد ان تداخلت الحكايات في الرواية وظهرت حكاية «الصرة « من داخل حكاية عبد الله. ولم تكن الصرة سوى عبوة ناسفة اودعها احد الارهابيين لدى بائعة الخضار ام عباس في سوق البياع?بعد ان أوهمها بانه صديق ابنها عباس الذي قتل في الهجمات الارهابية. صدقت المرأة الكادحة الطيبة ادعاءه، لكنها عندما فتحتها انفجرت بين يديها والحقتها بابنها وخربت السوق الشعبي ليتواصل السيناريو اليومي المريع في بغداد. بعد هذه الحادثة الهمجية وبعد تسببها في تداعيات عالية المرارة تدخل السارد المحاور ليقطع سيرورة السرد المألوف فظهر يخاطب عبد الله الذي انفصل عن الكاتب في هذا الحوار وصار شخصية مقابلة للكاتب، يخاطبه بضمير «انت» وليس بضمير الغائب كما يقتضي السرد المألوف: «هل حقا انت تعشق المسرح وتريد ان تكتب مسرحية تراجيدية... ضع اوراقك على منضدة الكتابة واشرع بتسطير العبارات عن حي اليباع... سوف تكتشف الف هاملت، الا تعرف هذا من قبل؟ اذكر حكاية المرأة التي اودع لديها شاب في العشرين من عمره صرة ودسها بين الحاجيات التي تعرضها للبيع على الناس...» ص 52.
ثم في الصفحة التالية يعطي السارد المحاور تفصيلا للعمل المسرحي المقترح فيطلق عنوان الصرة او الحقيبة عليه ويظهر الضمير «نحن» في الحديث الموجه الى القارىء يقول: «ألا يصلح هذا الموضوع أن يكون مسرحية وقد تعمدنا تأجيل اعلان محتويات الصرة الى أن يقر السيد عبد الله أن ثمة مسرحية بين يديه...»ص53، الخطاب هنا غير موجه للسيد عبد الله الذي ظهر بضمير الغائب بل هو موجه للقارىء. يواصل الكاتب تأسيس حواراته الافتراضية على هذا النهج دون ان يرد عليه احد مقلبا اوجه المشكلة في جانبيها السردي والحياتي عبر تغيراتها المكانية الث?اثة ومراحل تعقّد المأساة محققا انتقالات سلسلة برع فيها الكاتب بين احاديث الاسترجاع ووقائع العمود السردي الاساسي، وقد ساعدت تغيرات الأمكنة على ان تكون ساحات مختلفة ومتكاملة في آن، حول جوانب المشكلة.
إن حديث مدينة البياع ومعها حي التراث يختلف عن حديث سبع البور/ منطقة الاحراش القصية/ مأوى الارهابيين وقطاع الطرق واللصوص والذي نقل المختطفون عبد الله اليه معصوب العينين من مدينة البياع وهناك حديث الحانة في مركز المدينة التي شهدت احداثا لا تقل سخونة عن احداث سبع البور. في الحانة يتكون مكان صاخب، اشبه بخشبة المسرح، يعرض فيه سمات من ازمة المثقف في علاقته مع زملائه وسمات من ازمة الواقع. فيه تتعرض الصداقة بين عبد الله الذي فقد اسمه هنا واصدقائه ابو العز وعلي البصري والرجل الكهل الى المزيد من التمزق رغم مضي عشرين سنة من العلاقة الحميمية مع ابو العز ورغم وجود اجواء التفاهم الاجتماعي والمهني مع علي البصري والرجل الكهل. هذه الصورة تذكرنا بعبارة هجاء شديدة المرارة قالها عبد الله عن المثقفين في حوار مع جاره المواطن البسيط هاشم دقلة الذي لم يكن متعلما، قال يخاطب دقلة: «أنت افضل من الف مثقف جايف» اي متعفن. لكن دقلة لم يوافقه على ذلك قائلا: «عيني عبد الله ليس كل المثقفين جايفين، بل بعضهم له رائحة طيبة..» ص33-32، لكن عبد الله الذي تعرض لغبن متواصل في الحصول على الادوار المسرحية المناسبة له من قبل القائمين على النشاط المسرحي فاقام في نفسه امتعاضا عميقا ضد المثقفين.
المشهد الاخر الذي حصلت وقائعه في الحانة هو استمرار محاصرة عبد الله الذي صار أيوبا فيها ليس من قبل قوى الاختطاف فقط بل ومن قبل قوى تخريبية جديدة ارادت فرض مطالب باهظة اخرى على حريته وخياراته الفكرية والوجدانية آخرها مطلب مجموعة غريبة ارادت منه ان يكتب سيرة مزيفة عن كبيرهم، لكنه رفض بقوة ان يدنس هويته كمثقف بهذا العمل نائيا بنفسه بقوة عن مساعي سرقة التاريخ. يتواصل الخراب لكنه خراب بغيض وليس كالخراب الجميل الذي يحلم به احمد خلف، لان الخراب الجديد قضى على مواد العمل التي بها يمكن ان يعاد بناء العالم الجديد وهو الإنسان. غير ان الرواية تركت لنا غصنا اخضر تمثل في رفض عبد الله المصرار بالمساهمة في تزييف التاريخ رغم وسائل الترهيب والترغيب التي تعرض لها من قبل قوى الخراب. الرواية انتهت ورقيا ومسرحية الصرة لم تكتب بعد لكن الأبواب لا زالت مفتوحة لإكمالها وإكمال أعمال أخرى.