بلدة في علبة...رواية حامد فاضل..  الوثيقة، وصدى ذاكرة المدينة

بلدة في علبة...رواية حامد فاضل.. الوثيقة، وصدى ذاكرة المدينة

جمال العتّابي
يفصح الروائي حامد فاضل في مقدمته لروايته (بلدة في علبة) عن أسلوب كتابة الرواية، يوجز ذلك باختصار: تحدثت عن السردية في الصورة الفوتغرافية، ويعرّف النص بوضوح أكثر، كمحاولة لكتابة سيرة زمكانية لمدينة السماوة، ويزيح الروائي الالتباس مع عنوان مشابه لقصة للكاتب أحمد خلف (صراخ في علبة)،معللاً ان الكاتب لم يرَ ضيراً في ذلك.

قدم حامد فاضل أكثر من مظهر لوقائع يمتزج فيها السير الذاتي بالتاريخي والميثيولوجي بالسياسي، والسارد الكاتب حرص على تحطيم الإيهام بالواقع مدمجا صوته ضمن الأصوات المتعددة في بيئاتها وتاريخها ومعجمها وتلفظاتها، وواضعا نفسه موضع تساؤل، في الإطار نفسه، فإن الرواية تتناول الواقع الإنساني في حالة صيرورة وتناقض،وتخوض في العوالم الخفية والظاهرة.
الرواية الصادرة عن دار سطور عام 2015، ضمت واحدا وعشرين فصلا أو مقطعا،الأب المناضل سامي،جمع حصاد البلدة في صور السنين العجاف، شاعر ينشد بالصورة قصائده كأجنحة تخفق من حوله، يتجشم عناء السفر الى الموصل بحثاً عن صورة جسر مدينته الخشبي، ترك السماوة في ليل أدهم ليختفي عن أعين جواسيس السلطة، فحمل كامرته قاصداً الشامية،يقوّض الأب سامي خيمة غربته بعد عام من تموز58، ويعود لمدينته، مسقط رأسه.
السنوات العجاف اللاتي آتين البلدة، وهي ماتزال تلعق جراح الحروب، حوّلت أهل المدينة الى أعجاز نخل خاوية، قضموا موجودات بيوتهم وأثاثها، في سنوات الحصارات لم تبق سوى الجدران العارية، ليس أمام سلام الابن فرصة في الحياة وإعالة عائلته سوى الهجرة لبلد مجاور، فشدّ الرحال عبر ليل الصحراء،كيف للفتى الهروب؟ تاركا صباحاته الملغومة ببكاء الام والابناء والاخوات الذين فقدوا حنو الزمان، هل جديد هو الفقر؟ إذ يرث الفقراء مآثر آبائهم، في لحظة خوف من مواجهة حرس الحدود يعود سلام،خائبا.
بأصابع مرتجفة تسقط الأم مفتاحا فضيا يفضي الى غرفة أبيه،مصور المدينة وخازن أسرارها، الذي مات في السجن،لم تبق على الجدارإلاّ صورته، هناك كان مخبأه، مثل كنز الحكايات في جوف الخزانة علبة من خشب الساج، فيها تعب العمر من الصور والذكريات.
حامد فاضل يحتفي بالمكان الذي عاش فيه وأحبه، المكان الذي يعيش في قلبه ويمتلك إحساسه بوحدة الزمن،المكان كونُه الاول، أو ركنه في العالم على حد تعبير باشلار، إن هذا الافق الذي يفتحه باشلار، يستعيده الروائي في الغور بتاريخ مدينته ومنشدّا اليه، لا أشك ان الروائي عاد الى جماليات المكان ووجد ضالته بقول الكاتب الروسي باسترناك:(الانسان بذاته أخرس، والصورة هي التي تتكلم). وشكل موضوع روايته، كل العوالم الروائية تصاغ في تجربة حامد فاضل، من تشابك كبير في التجربة الواقعية، وبين التجربة الذهنية المتخيلة، الرواية مطلقة على واقع معاش أحبه، أو أشخاص عرفهم،فقدّم تجسيدا لقلقهم ومعاناتهم، عبر شهادة حية عن أحداث تاريخية لمن يسعى للبحث الاجتماعي والانثروبولجي او السايكولوجي.
الروائي جعل من المدينة شخصية روائية لها تاريخها وفضاءاتها فاكتسبت ابعادها الترميزية لتدلّ على الوضع الاجتماعي والسياسي، استحضار التمازج بين الواقعي والأسطوري والرمزي،وحفلت بمساحات للتخييل، تحاور الفن المعماري،وتستفيد من أنماط الحكي الشفوي والكتابات القديمة،أصوات الذاكرة، المشاهدات، الأحداث السياسية والتاريخية والاحلام والاماني.
في الصورة،يطلّ الرواة:(الناصح)الذي جعل النصيحة سداة حكاياته، والغياث الذي يغيث لحمتها،والشيخ النوري الذي خلع على السماوة حلّة زاهية ملونة بمختلف الوقائع والاخبار عبر مراحل التاريخ، عارفا بتاريخ العراق، منقّبا فيه بعمق.فهو أحد الساردين الاساسيين الى جانب الجد والاب والجد والابن، والشيخ شير علي.
يشكل التاريخ المرجعية الاولى للرواية وجذرها الاصيل، إلاّ ان الكاتب لايعتمد تسلسلا تاريخيا او حقائق تاريخية، فهذه ليست مهمته إنما هي مهمة المؤرخ، بينما هو فنان يعتمد فن الرواية الذي يبني من تاريخ المدينة، معمارها الفني، وهذا يقتضي ان يكون على معرفة جيدة وتماس بالناس ومراقبة ودراسة وجودهم الاجتماعي، فأفصح عن مهارة ممتازة في الرصد والتقصي بصدق ووعي.لذا حفلت الرواية باحداث واسماء شخصيات أسهمت بتحديد ملامح المكان عبر مراحل زمنية متعددة، وأقول بهذا الصدد،ان حامدا أعاد اليّ شخصيا طراوة الأمكنة وترافة النهر، وحضور الشخصيات بقوة الى ذاكرتي، إذ كنت طالبا في ثانوية السماوة مطلع ستينات القرن الماضي، الاصدقاء والمدرسون وأحياء الشرقي والغربي وطقوس عاشوراء، أم موسى المرأة المناضلة،قطار الموت، ومأثرة سائقه عبد عباس المفرجي، وأبناء المدينة في إنقاذ السجناء حينما حشروا في توابيت من الحديد في لهيب تموز عام 63.
ينفتح النص على أسواق وشوارع ومقاهي السماوة وأنماط من الشخصيات، الظرفاء والسكارى والباعة ورجال ادارة وباعة وتجار، بأسلوب مشوق، يكون لنهر الفرات فيه حضور متميز، بلغة شعرية صافية باذخة الجمال، ليدلّ على هوية المدينة الخاصة. الروائي ينجح هنا في تقديم رؤية مجتمع منسجمة مع تركيبة أبنائة واختلاف افكارهم، بثراء المعلومة ومفردات الروائي،وقدرته على التشكيل المكاني والخيالي، بلغة سردية سهلة لاتحتمل التأويل، تقوم عل مايمتلكه من حس انساني رفيع، مستثمراً الامتداد التاريخي لمدينته، تدع القارئ في حالة يقظة، مشدودا لملامح الزمن الماضي والآتي باتجاه تعميق الصورة لديه.
من النقّاد من يرى، ان الرواية التي تساعد القارئ على طرح الاسئلة وتثير التفكير، هي الرواية الناجحة،والتي تعنى بإعادة تشكيل العالم ضمن أشكال وأنساق أكثر انسجاماً، ووفق هذا الرأي نتساءل كذلك،هل ان حامد فاضل أخضع هذا النص الى قواعد النص السردي التي تخلق تنوعها داخل العمل وتحقق جماليته، هل خلقت الرواية تنميطاتها ضمن هذه القواعد؟ وبصيغة اخرى للسؤال، هل نسج الكاتب نصّاً روائياً كجنس أدبي متميز في تكوينه وشكله لاحتواء المضمون؟ بلغة تتعارض فيها المستويات وتتداخل بما يخلقه من إحساس دائم بالتوتر، نصاً تولده لعبة التقنية والأسئلة التي يطرحها على مفهوم السرد وآلياته، والعلاقة بين الراوي وما يرويه،أم ان الروائي احتمى بالتاريخ ليقصّ علينا حكايات من عصور غابرة، خفتت فيها إشراقة النص سيما في فصول الرواية الاخيرة، وأعني تحديداً فصل الليرات العشر، الذي صعب علينا فهم الاسترسال الممل فيه بذكر وقائع ثورة العشرين، مثلما افتقرت الرواية الى قوة سلطان الحب، ولم تحتف به باهتمام،إذ لم تسرد الرواية حكايا العشاق وتأجج العواطف الانسانية،سوى تلك اللمحة الخاطفة لرسالة حب من الطالبة المراهقة (امل علوان) أوعَدَت سلام بقبلة لم ترو ظمأه في فصل (قبلة سبارتكوس).في حين ان قصص الحب تسبح في نهر الفرات، تعبرعلى جسريه الصبايا الفاتنات، وتفتح شناشيل ضفافه نوافذ للوجوه الانيقة.
يبدو لي ان مهام الروائي خرقت الشروط التي أشرنا اليها، اذا ما دعته بعض الضرورات الفنية،فتعددت أوجه لغة الحوارالى مجالات صياغة أسئلة الوجود وأسئلة الذات. الشيخ النوري يخاطب سلام: أربعة قرون يا ولدي الانسان أخطر وحش على هذه البيضة الخرافية التي يسمونها الارض، أتدري ان الانسان القادر على تدجين الوحش يعجز عن تدجين النفس الأمّارة بالسوء ص262.فضلا عن تعدد الاجناس التعبيرية إذ تخللت النص،الوصف والحوار لتكون خلفية تضيء وتستضيء،أشعار غنائية، شعرشعبي، أغان، أهازيج وقصائد، مقالة تندرج في المحكي الشعبي.
(بلدة في علبة)، الوثيقة، عمل إبداعي، يمتلك قيمته في الموقف من المكان والطبيعة والحياة والإنسان،يشكل صدى عميقا للذاكرة وللمدينة التي أحبها الروائي حامد فاضل.