نشيد (موطني) وفليفل اخوان

نشيد (موطني) وفليفل اخوان

محمود الزيباوي
بعد التغيير الكبير في العراق عام 2003، اعتمدت السلطة العراقية الناشئة في العام 2003 نشيد"موطني"نشيداً وطنياً جديداً لدولة العراق. شاع هذا النشيد شيوعاً واسعاً، وخرج بتوزيعات موسيقية عدة، وأدّاه أكثر من مطرب، وهو في الأصل نشيد"فلسطيني"، كتبه إبرهيم طوقان ولحّنه الأخوان محمد وأحمد فليفل في ثلاثينات القرن الماضي. أعاد هذا العمل إلى الذاكرة عدداً من الأناشيد الشهيرة التي حملت توقيع الأخوين فيلفل، غير أن أحداً لم يفكر في توثيق هذه الأعمال وتأريخها بشكل علمي.

شاع نشيد"موطني"من جديد، وما لبث أن صار على كل شفة ولسان، كما كان في الماضي القريب. لا ينفصل هذا النشيد عن سلسلة الأعمال الحماسية التي راجت في بلاد المشرق العربي بوجه خاص، مثل"نحن الشباب"و"الفخر في بلادنا"و"في سبيل المجد"التي استعادها سامي كلارك في العام 1986 بإخراج موسيقي جديد من توقيع مايك حرّو. على مدى عقود من الزمن، غنّى شباب لبنان وسوريا هذه الأناشيد من دون الإشارة إلى أسماء مؤلّفيها وملحّنيها، وبقيت هذه"الأغاني"المفعمة بالروح الوطنية والعواطف الجياشة حاضرة في الحياة العامة، ولم تفقد شيئاً من بريقها الأول، وظلّ السؤال مطروحاً: في أيّ مناسبة وُلدت هذه الأعمال، وأين قُدِّمت للمرة الأولى؟ كيف تلقاها الجمهور عند خروجها إلى النور، وكيف شاعت وتردّدت على كل شفة ولسان؟ نجد الجواب الشافي في كتاب أنيق يتميز بمادته العلمية الرصينة، عنوانه"اللحن الثائر، سيرة الأخوين فليفل". في بادرة منها لحفظ التراث الموسيقي العربي، أصدرت جمعية"عرب"هذا الكتاب التوثيقي عن سيرة الموسيقيين اللبنانيين محمد وأحمد سليم فليفل ولا يسعنا إلا أن نحيي هذا العمل التوثيقي الضخم الذي يخرج اليوم بأبهى حلّة.
يتألف"اللحن الثائر"من دراستين مترابطتين، ويحوي أربعة أقراص مدمجة تضم مجموعة كبيرة من أعمال فليفل مصنّفة في أربعة أبواب: الأناشيد الوطنية، الأناشيد القومية العربية، الأعمال التربوية والدينية، والأعمال الخاصّة بالأطفال. وضع الدراسة الأولى محمد كريّم، وفيها وثّق سيرة الأخوين فليفل في حلّة تجمع بين الطراوة الأدبية والبحث العلمي المتأني، معتمدا على الأحاديث والروايات التي نقلها عن الرواة، والأخبار المتبعثرة في الصحف القديمة التي واكبت نشاط الأخوين فليفل منذ ظهورها. لا تنفصل السيرة الشخصية عن السيرة الإجتماعية، ولعلها وليدة التحولات الكبيرة التي شهدها العالم العربي منذ مطلع القرن الماضي إلى نهاية الثمانينات. يجمع اسم"الأخوين فليفل"بين محمد وأحمد اللذين ولدا في حي الأشرفية في بيروت، ومنه انطلقا إلى سائر أنحاء العالم العربي. رأى محمد النور في آخر سنة من القرن التاسع عشر، ووُلد أخوه أحمد بعد سبع سنوات. شهد الأخوان زوال العهد العثماني وسعي الشعوب العربية إلى النهضة والاستقلال في زمن"الإنتداب الفرنسي"، وحققا خلال مسيرتهما الفنية التي استمرت ما يقارب الخمسة عقود أربعة إنجازات موسيقية تأسيسية لعبت دوراً بارزاً في الحياة الفنية والاجتماعية، كما يؤكد محمد كريّم. يتمثّل الإنجاز الأول في إنشاء"فرقة موسيقى الأفراح الوطنية"التي ساهمت في ولادة الحركة الموسيقية وتنشيطها في لبنان في عشرينات القرن الماضي. أما الإنجاز الثاني، فيكمن في ريادة الأخوين فليفل"في تلحين مجموعة كبيرة من الأناشيد الوطنية والقومية كانت عنصراً مهماً في تعزيز الوعي الوطني لدى الشعوب العربية بشكل عام، والشعب اللبناني بشكل خاص". نصل إلى الإنجاز الثالث، وعنوانه العريض"تأسيس فرقة موسيقى الدرك اللبناني التي أصبحت تدعى، في ما بعد، موسيقى قوى الأمن الداخلي، والتي من رحمها ولدت فرقة موسيقى الجيش اللبناني". يبقى الإنجاز الرابع، ويتمثل في وضع منظومة أغان وأناشيد خاصة بالأطفال والفتيان تماثل في مواضيعها الأناشيد الوطنية، وإن اختلفت في البنية والأسلوب. كما يشير الباحث عن حق،"لإيفاء هذه الإنجازات حقها من التقييم الموضوعي، ولتبيان مدى الجهود التي بذلت في سبيل تحقيقها، لا بد من وضعها في إطارها الزمني، وضمن أبعادها السياسية والاجتماعية".
نشأ الأخوان فليفل في زمن انهيار الخلافة العثمانية، وعاشا ويلات الحرب العالمية الأولى، وقررا اقتحام ميدان الفن في ظل ظروف معيشية صعبة. تلقى محمد وأحمد مبادئ العلم وحفظ القرآن الكريم في كتّاب الشيخ مصباح دعبول في حي الأشرفية، وانتقلا بعدها إلى"دار النجاح"، وهي مدرسة المقاصد الأولى، ثم تابعا علومهما في المدرسة السلطانية والمدرسة الرشيدية، والتحقا من ثمّ بدار المعلمين التركية حيث تعلّما العزف على بعض الآلات الموسيقية على يد الفنان التركي يوسف أفندي. في طفولتهما، تأثر محمد وأحمد بوالدهما الذي كان"يتمتع بحس موسيقي فطري"، كما تأثرا بوالدتهما التي كانت"تحفظ التواشيح والابتهالات الدينية والمدائح النبوية عن والدها ديب صبرة، شيخ مؤذّني الجامع العمري الكبير في بيروت". كان خالهما عبد الغني صبرة عازفاً بارعاً على العود، وكان جدّهما ديب المجاز من المشيخة الإسلامية في اسطنبول عازفاً على الناي. تلقّى محمد دروسه الموسيقية الأولى في دار المعلمين التركية، وتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية على يد الفنان التركي مصطفى أفندي، وتابع دراسته على آلة الفيولنسيل في المعهد الموسيقي الوطني حتى نال شهادة التخصص بها في العام 1931. من جهته، التحق أحمد بفرقة موسيقى"دير المخلص"حيث تعلّم العزف على البيانو وآلات النفخ. بعدها، عمّق الأخوان فليفل دراستهما الموسيقية على أيدي عدد من الأساتذة العاملين في لبنان، مثل الأب مارون غصن، والأستاذ بشارة فرزين، والإيطالي فريدريك ريتلي، ومدام شلالا، وتعلّما على يد الأستاذ وديع صبرا أصول"تآلف الأصوات"، أي"الهارموني".
أفتتن الولدان بالفرق الموسيقية العسكرية العثمانية التي كانت تجوب شوارع بيروت، وأولعا بالمقطوعات الموسيقية والمارشات العسكرية التركية، وحلما بتأسيس فرقة وطنية. في العام 1923، تمكن الأخوان من تحقيق حلمهما، فأسّسا فرقة موسيقية قوامها ستة وعشرون عازفاً من الشباب اللبناني، اشتريا لها آلات النفخ والإيقاع من جيبهما الخاص، وسمّياها"فرقة موسيقى الأفراح الوطنية". بدأت هذه الفرقة الناشئة بالعزف في حديقة آل فليفل في شارع"سيدي حسن"في منطقة البسطة في بيروت، ولما اكتمل تجهيزها صارت تشارك في احتفالات المدارس والجمعيات الأهلية، ثم راحت تعزف في بعض المناسبات الرسمية.
الجلال والجمال والسناء
قبل الدخول في مرحلة تلحين الأناشيد، نهل الأخوان من ينابيع عدة، وشهدا ولادة الأناشيد الوطنية الأولى في لبنان والعالم العربي، ووضعا باكورة أناشيدهما الوطنية في العام 1923، واعتمد هذه النشيد قصيدة للشاعر مختار التنّير مطلعها:
سوريا يا ذاتَ المجدِ/ والعزة في ماضي العهدِ
إن كنتِ لنا أهنى مهدِ/ فثراكِ لنا أهنى لَحدِ
بعدها، عمد محمد وأحمد فليفل الى اختيار بعض قصائد الشاعر عبد الرحيم قليلات، فلحّناها ولقّناها لتلامذة مدارس المعارف الرسمية ومدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. في بيت عبد الرحيم قليلات، كتب الشاعر الفلسطيني ابرهيم طوقان يوم كان طالباً في الجامعة الأميركية نشيدين صنعا شهرة الأخوين فليفل في ذلك الوقت المبكر من حياتهما. النشيد الأول هو نشيد"موطني، الجلال، والجمال، والسناء، والبهاء في رُباك"، والثاني هو"وطني أنت لي والخصمُ راغمُ، وطني أنت كلُ المنى"،"وهو في الأساس موجه إلى الوطن الفلسطيني، وقد عبّر فيه الشاعر، ابن مدينة نابلس الفلسطينية، عن روح التحدي التي تملكت الفلسطينيين وبالتالي الشباب العربي، في وجه ما كانت تحوكه السلطات البريطانية المستعمرة ضد فلسطين وشعبها، كما بثّ فيه الشاعر دعوة إلى النضال في سبيل تحرير الأوطان". بعد هذين النشيدين الفلسطينيين، لحّن الأخوان فليفل كذلك من شعر طوقان نشيد"فتيةَ المغرِبِ هيا للجِهاد/نحن أولى الناسِ بالأندلسِ". استمر هذا التعاون، وأثمر في مرحلة لاحقة عن نشيد آخر أضحى من الكلاسيكيات، هو نشيد الفدائي، ومطلعه:
لا تسل عن سَلامتِه/ روحُه فوقَ راحتِه
بدّلته همومه/ كَفَناً من وِسادَتِه
جمع الأخوان فليفل بين انتمائهما للبنان وولائهما للعالم العربي بأقاليمه المتعددة، ولحّنا سلسلة طويلة من الأناشيد نظم كلماتها كوكبة من كبار الشعراء، منهم الأخطل الصغير، ابرهيم طوقان، سعيد عقل، عمر أبو ريشة، معروف الرصافي، أمين تقي الدين، شبلي الملاط، سابا زريق، عبد الحليم الحجار وفخري البارودي. اتسعت هذه الحلقة مع الزمن، وضمّت كوكبة أخرى من الشعراء، مثل جورج غريب، نسيم نصر، محمد يوسف حمود، سلام فاخوري، شفيق جدايل، وديع عقل، وآخرون. لحّن محمد وأحمد من شعر الزعيم فخري البارودي أشهر أناشيدهم القومية العربية،"بلاد العُرْبِ أوطاني من الشامِ لِبَغْدانِ"، ولحّنا من شعر عبد الحليم الحجار أحد أجمل الأناشيد اللبنانية:"الفخر، في بلادنا والعزُّ باتحادنا وعن ذُرى أطوادِنا والأرزِ لا تسلْ". ومن شعر عمر أبي ريشة، لحّن الأخوان نشيد المناضلين في سجون الاحتلال:"في سبيلِ المجدِ/ والأوطانِ نَحيَا ونَبيدْ".
شاعت أناشيد فليفل في زمن الإنتداب الفرنسي، وأدى نجاحها إلى فصلهما من المدارس الرسمية على يد وزير المعارف نجيب أبو صوان بطلب من المفوض السامي، غير أنهما عادا إلى وظيفتهما عند سقوط الحكومة، وكان ذلك على يد وزير المعارف الجديد جبران تويني مؤسس جريدة"النهار"اللبنانية وصاحبها. أثارت أناشيد فليفل الإعجاب والحماسة، وطالب البعض بتبنّيها في المدارس، كتبت جريدة"لسان الحال"في 22 تشرين الأول 1925:"ليس كالأناشيد الوطنية من مهذّب لعواطف الناشئة ومثير للروح القومية. ويسعدنا أن ينشط بعض شعرائنا ورجال الموسيقى فينا إلى نظم الأناشيد الوطنية وتلحينها ونشرها بين الناس لتحلّ محلّ تلك الأغاني السقيمة بمبناها ومعناها التي يتلهى فتياننا بإنشادها دون أن تؤثر في نفوسهم تأثيراً حسناً. وقد تلقينا من الأديبين فليفل إخوان الموسيقيَين المعروفَين في الثغر أناشيد جميلة بكلماتها وألحانها. مجموعة جدير بطلبة المدارس أن يحفظوها فهي ترمي إلى غايات سامية من توثيق على التآخي الوطني وترقية العواطف".
واكب الأخوان على مدى عقود من الزمن الحركة السياسية والإجتماعية في لبنان ولحّنا"مئات الأناشيد الوطنية والتربوية فضلاً عن أناشيد معظم الأحزاب اللبنانية مثل الكتائب، الطلائع، الفتوّة، المرابطون، الكشّاف، والنجادة. في أواخر الثلاثينات، دعت الحكومة العراقية جمعية"العروة الوثقى"في الجامعة الأميركية في بيروت لزيارة بغداد، وألّف سعيد عقل في هذه المناسبة نشيداً لحّنه الأخوان فليفل، مطلعه:"للنسورْ، ولنا الملعبُ والجناحان الخضيبان بنورْ، العُلا والعَرَبُ". نجح هذا النشيد، وأقرّته وزارة المعارف العراقية رسمياً في مدارسها وجامعاتها، وردّده الكثيرون في جميع المناسبات الوطنية.
اللحن والوطن
يقتفي محمد كريّم أثر الأخوين فليفل في الصحافة والمجلات، ويقدم تأريخاً شاملاً لنشاطهما في لبنان والعالم العربي حتى نهاية السبعينات. يتوقف الباحث أمام قضية"النشيد الوطني"ويستنبط الأسباب التي دفعت لجنة التحكيم إلى إعلان فوز لحن مدير الكونسرفاتوار وديع صبرا بأكثرية أحد عشر صوتاً.
كذلك، يستعرض المؤلف مراحل ولادة فرقة موسيقى الدرك اللبناني، ويروي قصة اكتشاف محمد فليفل صوت صبية من مدرسة الإناث الأولى في منطقة حوض الولاية تُدعى نهاد وديع حداد، وتبنّيه موسيقياً هذه الصبية على مدى سنوات، قبل أن يعمل على إدخالها الإذاعة حيث اختير لها اسم فيروز.
في الختام، يشدّد الكاتب على الدور الذي لعبه الأخوان فليفل في الحياة الموسيقية والإجتماعية، ويستشهد بما قاله العقيد جورج حرّو في أطروحته عن فن هذين الأخوين:"وقف الشقيقان جنباً إلى جنب ما يقارب النصف قرن تقريباً في خدمة الفن واللحن والوطن. فأهمية ألحانهما ليست فقط بعدد الألحان، أو بالانتشار الواسع الذي عمّ أرجاء الوطن العربي، بل بتميزهما عن أنواع الموسيقى التي كانت سائدة في لبنان في ذلك العصر، من أغان عاطفية ومقطوعات شرقية أو مقطوعات كلاسيكية. فيعتبر الأخوان من أوائل من نظم جملة موسيقية عربية خارجة عن المألوف، تميزت بقصرها وبإيقاعها العسكري".
بعد دراسة محمد كريم، تأتي دراسة الموسيقي العميد جورج حرّو، وهي موسيقية بامتياز تتناول بشكل موسّع مجمل أعمال الأخوين، وتحوي أعمالاً مدوّنة على طريقة"النوطة". بحسب هذه الدراسة، اعتمد الأخوان في موسيقاهما بشكل أساسي على الصيغة المعروفة عالمياً في بناء ألحان السير، وتقوم على الأقسام الثلاثة، المقدمة الموسيقية، ثم القسمين الثاني والـثالث. تتمتع هذه المؤلفات بخصائص تميّزها عن بقية الأناشيد الأوروبية والأميركية، غير أنها"رغم التباين تتطابق إلى حدّ بعيد وألحان السير الفرنسية".
"اللحن الثائر"الصادر عن"جمعية عرب للموسيقى"، كتاب مرجعي مميز نتمنى أن يكون نواة لسلسلة موسيقية مهمتها المحافظة على التراث العربي وتأريخه بشكل علمي متين.

ج. النهار 11 تشرين الاول 2014