النفس الطاغوري في قصائد (عسل الأحلام)  للشاعر كاظم ناصر السعدي

النفس الطاغوري في قصائد (عسل الأحلام) للشاعر كاظم ناصر السعدي

علي حسين عبيد
لكل شاعر فلسفة، ينظر من خلالها الى العالم، في البدء ننشغل بالذات، وعندما نقرر الدخول في عالم الكتابة، يكون المسرح ذاتنا، هواجسَنا أحلامَنا مخاوفنا، آمالَنا العريضة بغد ينتمي الى الحب والجمال.
كاظم ناصر السعدي شاعر عراقي، وُلد في كربلاء، لم أعرف ذلك منه، ولكنني أتخيّل وأحدس أن الاشجار كانت تحيط به منذ اليوم الأول،

الوردة هي المخلوق الوحيد الذي يراه من نافذة الغرفة، يُسعد، ويدندن، ويحلم وهو طفل، في المراهقة صادق السعدي البساتين، كربلاء نفسها كانت واحة صغيرة نقية تحيط بها البساتين والأزهار، عطرها من أجمل العطور، هذه العوالم رسخت في وعي السعدي، فبدأ يبحث في الذات، ويغرس في تربتها عطر الورد، وجذور الجمال.
بعض مفردات كاظم السعدي تحيلني الى شاعر الهند طاغور، كثيرون تأثروا بهذا الشاعر وأنا منهم عندما بدأت الكتابةَ شاعرا، أو بدأتها بالشعر، وحتى عندما تحولت الى السرد بقي طاغور حاضرا في جملتي القصصية في عدد من النصوص، بل لا يزال طاغور حاضرا في بعض النصوص القصيرة التي اكتبها في صفحتي في الفيسبوك.
كاظم السعدي قصد أو لم يقصد، هو طاغوري الهوى، مفرداته تشي بذلك، عوالمه، وصوره الشعرية تؤكد هذا المذهب، قلما تنتهي من قصيدة له ولم يصادفك الورد او الشجر او الماء او القمر او المطر أو احدى ايقونات الجمال، وفي اشد الأجواء حلكةً وظلما واستباحة، سترى نجمة الأمل تلوح في الأفق البعيد أو القريب، لم أجد تصنّعا في هذا المنحى، فالسعدي كما أظن يحاول أن يكتب نفسه كما يفعل الطفل عندما يريد أن يعبر عن نفسه، ليس أمامه أو انه لا يمتلك سوى الصدق والوضوح طريقا له، ولا ضير في ذلك.
في ستينات وسبعينات القرن الماضي قرأنا الشاعر الهندي طاغور بعمق، لا يستطيع احد ان ينسى هذا الشاعر الحكيم وخاصة فلسفته في الحب والجمال لأن كليهما عنصران رئيسيان في حياة الإنسان ويلعبان دورا بارزا في تثقيفه وتنويره. وفلسفة طاغور كلها تدور حول الحب والجمال، اللذين يعانقان الوجود كله، وجود العالم في الإنسان ووجود الإنسان في العالم، ذات مرة سئل طاغور عن رأيه في المرأة فبدأ يقول:
أعتقد أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق المرأة إلا بعد أن جمع ما جمعه من الطبيعة فأخذ من"
القمر... استدارته
ومن النجوم... لمعانها
ومن الشمس... وهجها
ومن الغيوم... دموعها
ومن الرياح... تقلبها
ومن البحر... عمقه وغدره
ومن النهر... هدوءه
ومن العاصفة... عنفها
ومن الأمواج... مدها وجزرها
ومن الندى... رطوبته
ومن النسيم... رقته ورخاءه
ومن العشب... اهتزازه
ومن الورق... خفته
ومن الأغصان... تمايلها
ومن الورد لونه وعطره
ومن الذهب... لمعانه
ومن العسل... شهده وحلاوته
كلنا في الحقيقة عندما نقوم بالكتابة، إنما نهدف بالنتيجة الى كتابة أنفسنا، وربما نراوغ أحيانا، قد نذهب بعيدا عنها وقد نلتصق بها أحيانا، مزهوين بها أو ناقمين عليها، ولكن سنبقى نسعى الى اقامة صداقة وعلاقة دائمة مع الذات، بعضنا لا يروق له كل شيء حتى نفسه، وبعضنا يكون قريبا منها حد الاتحاد والإعجاب التام، لهذا وصُف الشعراء بالنرجسية، وهكذا فعل السعدي في مجموعته هذه كما أرى، أي أنه حاول أن يكتب نفسه، وهي محاولة لا ضير فيها، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يجيب عنه الشاعر، لماذا لا يزال يدور في مدارات الطفولة البعيدة وقد غادرها منذ ستة عقود، ثم لماذا لا تزال المفردات (الشبابية) تتقاطر عليه كالمطر في مجموعته (الخامسة)؟؟ هذه أسئلة نريد من خلالها تحريك أعماق السعدي، نريد أن نستفز ما هو قارّ او ساكن هناك في الداخل.
وعندما أتوغل في نصوص هذه المجموعة الجديدة التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد قبل شهور (نهاية 2015)، أجد أن السعدي يسعى الى الشعر ممتطيا لغة الوضوح التي ينتقيها من أعماق الذات، انه كمن يغوص في أعماق البحر بحثا عن اللآلئ، عن المحار المميز، وغالبا ما يكون المسرح الذي يتحرك فيه.. طفولة معذبة، ولكن تجد محطات الجمال حاضرة دائما، انه يقيم توازنا مع الأشياء في الخارج، ليخفف من نقمته وأسفه، فالسعدي كغيره من الشعراء، حتى لو عاش ملكاً يبقى ناقما، ثمة جوانب غامضة لا نعرف ما هي، تبقى تنقصنا نحن (أصحاب الكلمة) حتى لو بلغنا القمة.
في احد نصوصه من مجموعته هذه (عسل الأحلام)، يقول كاظم السعدي:
نسري بجناحين طبيعيين
نسرهُ بجناحين من الشمع
طارا معاً باتجاه الشمس
سقط الأول
وظل الثاني محلّقاً
حدث هذا في الزمن الرديء!!....من قصيدة في الزمن الرديء ص73
هكذا يؤشر الخلل بعين ثاقبة، والحقيقة أجد أن الإحساس العالي هو الذي يحث الشاعر على مراقبة ما يحدث فوق الارض او في السماء، وماذا يدور بين الخلائق، انه حتى وإن نأى بنفسه عن (النفَس الطاغوري)، سنجده مكبلا به، منتصرا للحياة، مستنكرا القبح، مصطفا الى جانب الجمال.. يقول الشاعر:
ممتطو خيولَ الليل
يغيرون على كريستال الصباح
بظلامهم يصادرون مباهجَ النور
آه كم أخشى على الجمال من القبح
أليس القبح موتاً يخطف الحياة... من قصيدة جمال ص 67
كلنا نتحلى بخسارات لا تُنسى، خسارات من النوع الثقيل، ولولاها، لما دخلنا هذا العالم، وأعني به عالم الكتابة الابداعية، قال احد كتابنا المعروفين، انه يكتب كي يقاوم الخسائر التي يتعرض لها في كل لحظة، نعم يتعرض الانسان لهذه الخسائر حتى لو كان في القمة، ولذلك نحن نكتب لكي نحقق الذات، لكي نواجه الخسائر، لكي نقللها الى أدنى حد ممكن.
يقول كاظم السعدي في قصيدة خسارات:
(ليل خساراتي
لص زنجي
يسرق احلامي
هل تشرق وردة الروح
بغير احلام الفجر.... من قصيدة خسارات.
ولا ينسى كاظم ناصر السعدي أن يعرّج على الوطن، فكما أظن أن كل ما يكتبه هذا الشاعر، يعود ليتصل بالوطن، ذلك أن الوطن الحقيقي، هو الجمال والحرية والحق والسلام والخلاص من المعاناة التي يواجهها الانسان، وأقسى ما يمكن أن يُقال هنا، أن هذه المأساة تتضاعف عند الشعراء وأصحاب المهنة الأكثر عذوبة وعذابا، وأقصد بها (الكتابة الابداعية)، يقول السعدي عن الوطن:
أيها الغني بالنور والحب والجمال
ما أشدّ حزنك
دينصورات الروم أحرقت بساتين بهجتك
شياطين الخراب غرزوا مخالب الشر في قلبك
الحيتان النهمة ابتلعت حصاد حقولك
كهنة الليل نفثوا ظلامهم في ربوعك
تبا لأيادي الحقد التي امتدت إليك
وطني جسدك الممتلئ بالفجائع
يقف ثابتا تحت عاصفة الموت
يشهد مشرق الحياة من جديد.. من قصيدة وطني ص 59
في قصيدة اخرى يقول:
الارض
هذا الكوكب
الملوث بالحروب
متى تغسله
مياهه الكثيرة.... من قصيدة ارض بلا حروب ص42
وأخيرا لابد من القول.. أن كاظم السعدي يكتب الشعر بشكله العمودي بالطريقة نفسها، وأعني أنه لا يبتعد كثيرا عن مفرداته، وروده، وأزهاره، وترابه، وأقماره، وفيروزه، وعذابه، واكتئابه، وإيقاعات الناي الجميل، في الشكل العمودي، يتحول السعدي الى طاغوري رقيق، يثير مكامن الحب والدهشة والألق، يوقد في أعماق الروح شموع الذكرى، شموع الأمل، فتشعر أنك قد عشت مع الشعر رحلة قصيرة طويلة، مضيئة ظلماء، واضحة غامضة، ولكنها في المجمل، تستغور الذات، تؤاخيها، تنجح هنا وتخفق هناك، وحسب الشاعر أنه حاول، وحاول، وحاول، أن يقدم نفسه إنسانا ينتمي الى النقاء.
يقول السعدي في قصيدة الغياب:
في ظل فيروز الغيـــــــابِ...... آنستُ ذاكرة التــــــرابِ
مشطتُ شعر هواجسي.......برموش دالية ارتيابي
ورسمت لوحة خيبـــــتي........ أفقا تلــــوّن باكتئابي
أسبلتُ أهدابي على....جرحي ونمتُ على عذابي
...........
سلب الضباب توهجي كيف النجاة من الضباب
سحبُ الغموض تلفني واليأس محتشد ببابي
أصغي لايقاع الأسى ينساب من ناي العتاب.. من قصيدة الغياب ص7........