السينما فسيفساء تناغم الصورة والحركة والصوت

السينما فسيفساء تناغم الصورة والحركة والصوت

فيصل خرتش
يؤكد كتاب «عدسات الخيال»، لمؤلفه عدنان مدانات، أنه مضى قرن واحد وعدّة أعوام، على أوّل عرض للأفلام السينمائية، ومنذ ذلك الحين لا تزال السينما تؤكد أنها فن الوهم بالواقع، وهذا يتطلب منها السعي نحو الصدق الفني أوّلاً وآخراً. ويبين الكتاب أنه في أواخر القرن التاسع عشر جرت ثمة تجارب تهدف إلى اختراع تقنيات جديدة تجعل الصورة الثانية تتحرك،

هكذا جرى التوصل إلى اختراع «السينما توغرافيا» أي الصورة المتحركة.
بقيت السينما لفترة ثلاثة عقود صامتة والأشخاص لا ينطقون ولا تسمع أصوات الطبيعة. ولكن بعد أنْ ظهرت السينما الناطقة استفاق الناس، وصاروا يسمعون أصوات الممثلين..وأصوات الطبيعة الحية، فازداد تأثرهم بالسينــــما، وتعمّق إيمانهم بها، وبعد ذلك انفتـحت صفحة جديدة زادت فيه السينما من قدرتها على الإلهام بالواقع والحقيقة، ثم تكللت الجهود باكتــــشاف الـــسينما الملونة، وأدى هذا إلى تجديد ثقـــة الناس بالسينما، فهم حصلوا على صورة الواقع كاملة، صوراً متحركة وأصواتاً وألواناً طبيعية.
لكن أهمية السينما تكمن في أنها توهم الناس بالزمن الحاضر مثلما هي توهمهم بالواقع، ثم جاء البث التلفزيوني الذي يسجل الوقائع الحقيقية التي تحصل «الآن»، وفي بقاع الأرض البعيدة، ويعرضها مباشرة في الوقت ذاته التي حصلت به، ممّا يجعل الناس داخل بيوتهم يعيشون الحدث لحظة بلحظة.
ويشير المؤلف إلى أنه تميزت السينما بقدر كبير من العناد والتحدي للإبقاء على مكانتها، واستفادت من الإنجازات التقنية لكي تبدو الصورة النهائية للفيلم أقرب إلى الواقع والحقيقة، حتى انّ التمثيل بات أقرب إلى الطبيعي، والممثل هو الذي يؤدي دوره بشكل طبيعي، وكأنه لا يمثل.
منذ أنْ صاغ المخرج المسرحي بيتر فايس نظريته حول المسرح التسجيلي وجسّدها في مسرحيته، صارت هذه المسألة تطرح بإلحاح بالتوازي مع تطور التقنيات السينمائية، بحيث من الصعب كتابة أية دراسة نظرية حول السينما من دون الغوص في الأسئلة المرتبطة بهذا الموضوع. وأظهرت الدراسات أن استقبال أية رسالة لا يحدث إلا بالعلاقة مع درجة مطابقته للواقع.
إنّ الحكم على الفيلم ينتقل من التعامل الساذج مع مقولة الواقعية باتجاه مقولة الاستقبال الجمالي المؤسس والمؤهل. وهكذا فإنّ التسجيلية كمنهج جمالي تشمل كلّ سيرورة الفن السينمائي المعاصر، إنّها نظام واضح للتفكير في الفيلم الروائي ونظام للتقديم الموضوعي للواقع الذي يجري عكسه في الفيلم والمقرون مع الخيال الفني.
إنّ الوثيقة السينمائية تمثل دائماً المركز الأول، في حين أنّ الصورة هي إنتاج ثانٍ هو نتيجة نشاط الوعي الإنساني، وتتحول بواسطة المخرج إلى فسيفساء من الوثائق الملتحمة عن طريق السرد المنطقي والفكرة الأولية والمعنى النهائي.
وما يساعد ويدعم صناعة السينما في إثارة فضول جماهير المشاهدين، هو كون التكنولوجيا الرقمية صارت هوساً عاماً مشتركاً بين منتجيها ومستهلكيها، الأمر الذي جعل وصف زمننا الحالي بأنّه عصر «صنمية» التكنولوجيا الرقمية.
ويرى المؤلف أنه من منطلق التعامل مع جائزة الأوسكار كمقياس، يمكن أن نستنتج سبب منح الجزء الثالث من فيلم المغامرات «ملك الخواتم»، جائزة أفضل مؤشرات بصرية، مع منحه جوائز عديدة، منها جائزة أفضل فيلم. ومثل هذه الجوائز تعتبر سابقة من نوعها، لأنه لم يحدث من قبل أن حصل أي فيلم مغامرات خيالية يستمد قيمته من المؤثرات البصرية على هذا القدر الكبير من الجوائز.
إذاً، دخلت السينما مرحلة التقنية الرابعة، والأكثر تطوراً في الدقة والسرعة في التنفيذ، مرحلة التقنيات الإلكترونية، الرقمية خاصة، وهي المرحلة التي وصلت فيها المؤثرات البصرية حد الإعجاز، فانقلب سحرها على سحر المخرج وصار عصر السينما يسمّى باسمها.
هذه الخاصية السحرية للسينما، هي التي تثير شهية المبدعين في شتى الأنواع الأدبية كتاب الرواية والقصة والشعر الذين يعترفون صراحة بمحاولاتهم لنقل تقنيات رسائل التعبير السينمائية إلى حقل الكتابة السردية، وهي التقنيات التي يجربون اقتباسها من الفيلم السينمائي نفسه كعرض مرئي مسموع. الإشكالية التي تثيرها التقنيات الإلكترونية الجديدة، رافقت السينما منذ نشوئها، فهي أقنعت الناس بواقعية ما تعرض، في حين أنها لا تفعل أكثر من أنْ تقدم وهماً بالواقع، ومع أنها تسمّى بالصور المتحركة فهي لا تعرض إلا وهم الحركة، غير أن التقنيات الإلكترونية أضافت إلى خاصية الوهم الحركة، وليس فقط إمكانية نفي الحقيقة، بل نفي الواقع نفسه. إنّ تدمير علاقتها بالواقع والحقيقة، أمر يقتصر على نمط من السينما، وهو يشكّل أساس النمط الخارج من الاستوديوهات الكبرى في أميركا، ومن يسير في خطاها من مخرجين يضعون أفلاماً ذات طبيعة تجارية ترفيهية تنتج في دول أخرى. هذا في حين لا تزال قضية التعبير عن الواقع، بكلّ أبعاده، ومحاولة فهمه، تشكّل الهاجس الأكبر لعدد كبير من سينمائيي العالم الذين يصنعون أفلاماً مرتبطة بالواقع والإنسان.
عن البيان الاماراتية