ستندال.. بين الرواية والنساء

ستندال.. بين الرواية والنساء

علي حسين
كان في السادسة عشرة من عمره عندما ذهب الى باريس أول مرة،حاول ان يقنع والده إن في مقدوره أن يصبح كاتباً مسرحياً، لكن الأب المحامي كان يجد في ولده القبيح صورة للبؤس الذي عاش فيه مع والدته، التي كان يصفها بالماكرة والحقودة، فوجد الفتى في جده أباً آخر يشجعه على حب الأدب والفــن. في باريس، المدينة الضاجة اكتشف أن وظيفته الأهم ان يصبح عاشقا كبيرا،

لم يكن سوى شخص بدين ، يخفي صلعته ، يفتقر الى اللياقة الاجتماعية. نرجسياً متفاخراً بنفسه، يصنع الأكاذيب والاسماء المستعارة، اعتبر ان الفوز بامرأة مثل الانتصار في معركة عسكرية . قال يوما لبلزاك"ان النساء مثل الروايات، لابد ان تجد نهاية لعقدتها"، في باريس يلتقي بممثلة مغمورة تكبره بثلاثة اعوام، يصاب من ورائها بمرض تناسلي عانى منه حتى آخر يوم في حياته. صار جمهورياً متحمساً لأن والده من انصار الملكية، كان في الرابعة عشرة من عمره حين قرر الانضمام الى احدى الجماعات الثورية، وهناك يُصاب بصدمه فقد كان يتوقع ان الثوار مجموعة شباب وسيمين وفتيات متأنقات، لكنه وجد عمالاً تفوح منهم روائح التبغ والعرق، بعد ذلك يكتب في مذكراته"كنت وما أزال أحب الشعب وأكره جلاديه، ولكني سأتعذب عذابا كبيرا إذا أنا عشت مع الشعب، لقد كنت وما زلت ذا ميول أرستقراطية للغاية، إنني على استعداد للقيام بأي شيء من إجل إسعاد الشعب، ولكني أُفضّل ان اقضي اسبوعين في السجن على ان اعيش مع اصحاب الحوانيت."

في أواخر أيام حياته أُصيب بسكتة دماغية جعلته يفقد النطق، بعد حياة اتسمت بالرفاهية وبالعلاقات الغرامية. وتوفي وحيدا في غرفة فندق، ولم يمشِ في جنازته سوى ثلاثة اشخاص كان بلزاك أحدهم .
لكن ماري - هنري بيل الذي اتخذ مئتي اسم مستعار كان اشهرها "ستندال"يُقرأ اليوم في العالم اكثر من كل كتّاب فرنسا. تكتب ناتالي ساروت"ليس لنا الآن سوى استاذ واحد هو ستندال الذي يُشكل عمله باتفاق الجميع بشيراً بالرواية الجديدة، ان ستندال يجلجل كما لا يفعل اي روائي آخر."
**********
جلس ليكتب رواية تدور في بلدته التي ولِد فيها، لكن باريس فرضت نفسها عليه، كان الظلام يسود الشقة الصغيرة في شارع ريشيلو، هناك شمعتان تضيئان المكتب، الآن شعر بالتعب فأبعد الريشة وهو يقول لنفسه"حسبي اليوم هذه الصفحات، والان الى الانتعاش والخروج".. ينهض ليرتدي ثيابه، نظرة سريعة الى المرآة، ياله من وجه كوجه الكلاب - يخاطب نفسه - وجه احمر خشن يفتقر الى الرقّة، الأنف مكور كبصلة، العينان على جانب كبير من القبح، فوقهما حواجب ثقيلة، ماذا بقى في هذا الوجه من خصلة جميلة - سأل نفسه - وتذكر ان بطل روايته الجديدة جوليان سوريل، شاب جميل تعشقه النساء، التفت ناحية الاوراق المتناثرة على المكتب، كم تمنى ان يصحو يوماً فيجد نفسه وقد تحول الى جوليان آخر، بلا كرش منتفخ وساقين مفرطتين في القصر، كان زملاؤه في المدرسة يسمونه"البرج المتنقل"، لكن الكتابة أصبحت شيئاً ثقيلاً، طقساً بطيئاً يدوم كل يوم من الصباح حتى ساعات الغروب الاولى. منذ ستة اسابيع لم يكتب سوى صفحات قليلة من هذا العمل المتعب"الأحمر والأسود"، كان والده يريد منه ان يصبح محامياً، ولم ينقذه من هذا المصير سوى وفاة والدته. يكتب في مذكراته ان طفولته كانت تعيسة بسبب تزمت والده الذي كان يرفض الاختلاط، احب نابليون وقرر ان يشارك في حملته على ايطاليا، عهد اليه في مهمة بكتيبة الفرسان لكنه تركها ما ان وصل الى ميلانو التي سحرته مباهجها، لم يشهد اية عملية حربية، لكنه يكتب بعد ذلك واحدة من اجمل روايات الحرب، رائعته"دير بارما"التي تعد مع ملحمة تولستوي"الحرب والسلام"من أهم الأعمال النثرية التي جعلت من الحرب منطلقاً لقصة عميقة الفعل في النفس – جبرا ابراهيم جبرا في مقال عن ادب الحرب -. لم يستقبل الفرنسيون رواية ستندال بمثل ما استقبل الروس رواية تولستوي، كتب ستندال"دير بارما"اواخر حياته وفيها قدم شهادته عن الأحداث الكبرىة التي عايشها، وموقف المثقف من حروب نابليون وعن خيبة أمله بالثورة التي قامت عام 1830، في الرواية نحن إزاء ابطال يخبروننا أن لا أحزاب حقيقية هناك، والناس صامتون قانعون بمصيرهم، اما أصحاب السلطة فإن لديهم من الثروات ما يكفي للتحكم بمصائر البشر. وعلى عكس تولستوي يتعمق ستندال في مناقشة واقع السلطة من جوانبها الأكثر دناءة وحقارة و"بصفتها سخافة ترعب، من جهة، أولئك الذين يمارسونها، ومن جهة ثانية تمثل تـهديداً دائماً للناس الأذكياء، فيما هي من الجـهة الـثالثة تمثل إفساداً للناس الضعفاء".
في ايلول من عام 1840 وقبل وفاة ستندال بعامين يكتب بلزاك مقالاً حماسياً عن رواية"دير بارما"، كان ستندال آنذاك يعاني من الامراض، لكنه يصر ان ينشر رداً على مقالة الروائي الشهير يوضح فيها منهجه الادبي. يعلن بلزاك ان ستندال تربع على عرش الرواية، وهو يقدم تلك الشخصيات اللامعة التي خرجت الى الحياة بكل رحابتها، اعجب بلزاك بالقوة والحيوية التي صاغ بها ستندال شخصيات روايته، ويرد ستندال ان الأبطال لا يشغلونه في الرواية، ما يشغله هي الأفكار التي تحركهم.
**********
جوليان سوريل بطل "الاحمر والاسود" شاب طموح عنيف المشاعر، ابن لبرجوازي صغير، تدفعه الظروف الى ان يدخل سلك الرهبنة الذي يتيح له فرصة التأمل، لا سيما بعد هزيمة جيش الإمبراطور نابليون بطله المثالي خلال جميع مراحل العمل. خلال دراسته وتهيئته ليصبح قساً، يعرض عليه محافظ بلدته السيد راندال تدريس أبنائه. يرى جوليان في هذا العمل فرصته للدخول إلى الطبقة الارستقراطية، وبلا تردد يعمل على إغواء زوجة راندل، لتأكيد قناعاته تجاه نفسه وشعوره بأن هذا الواجب يحقق له جزءا من السمو والارتقاء.
ينجح في مسعاه ويصبح الاثنان عاشقين، يشيع اعداء المحافظ الأقاويل حول غراميات السيدة رينال مع الشاب جوليان. ولتجنب الفضيحة ينقل الشاب إلى دير بيزانسون. وفي الدير يستطيع جوليان أن يحظى بإعجاب مديره جيرارد الذي يشجعه ويدعمه ليكون كاهناً نظرا لمثابرته وتميزه على أقرانه.
ومع تجاوزه لزملائه في تحصيله يثير حفيظة القساوسة والتلاميذ على حد سواء، وحينما يقدم المدير استقالته نظرا لعزوفه عن مشاركة الكنيسة في المؤامرات السياسية يدرك بأن جوليان سيفقد حمايته، وعليه يرشحه لصديقه الماركيز دومول ليكون سكرتيره الخاص.
وسرعان ما يدرك جوليان بأن منصبه الجديد سيساعده ثانية على دخول أوساط النبلاء الذين كانوا يصرون على تجاهله، وعليه لم يتردد في اغتنام الفرصة الجديدة حينما أظهرت ابنة الماركيز ماتيلدا إعجابها به. وعندما تكاشف ماتيلدا والدها بأنها حامل من جوليان، يرضخ لطلبها بأن يمنح حبيبها لقباً رفيعاً وأن يبارك زواجهما نظرا لحبه الشديد لها.
وما أن يشعر جوليان بأنه كاد يحقق حلمه بالكامل، حتى تصل رسالة من السيدة راندال إلى الماركيز تخبره فيها بأنه شخص انتهازي ودون جوان وضيع ولا هدف له سوى جمع الثروة. وهكذا ينهار حلمه، مما يثير غضبه ويدفعه إلى التوجه مباشرة إلى بيت رندال، وبلا تردد يطلق رصاص مسدسه على السيدة راندال التي تنجو باعجوبة، لكن المحكمة تصدر عليه حكما بالإعدام. وفي المرافعة تصل حبكة القصة إلى ذروتها حيث يكشف ستاندال عن واقع المجتمع الفرنسي في تلك الفترة من خلال خطاب جوليان الذي يبين بأن حكم الإعدام الجائر عليه إنما بهدف اجهاض حلك كل كل فرد في المجتمع من أبناء الطبقة الفقيرة من ان يرتقي في المجتمع .وقبل اعدامه يكتب جوليان رساله الى خطيبته يخبرها فيها بان حلمه كان مجرد طموح زائف جرده من حياته الحقيقية ، ويخبرها بأن حبه للسيدة رينال كان صادقاً.
**************

عام 1841 باريس
الرجل الضخم الجثة يجر قدميه بصعوبة ، يتذكر تلك الايام الجميلة حين كان يصوب بصره الى النساء، أما الآن فالبصر تعبان واليد ضعيفة، والعينان ترقدان خافتتين، شفته السفلى ترتعش، فقد أُصيب قبل ايام بنوبة دماغية مؤلمة ، لم تعد باريس كما كانت يوم وصلها وهو شاب صغير، تغيرت كثيرا، هاهو الموت يتقرب اليه، ينقل نظراته المتعبة بين المتنزهين، يقترب من احدى النساء التي تسأله وهي تبتسم عن مهنته فيجيبها بصوت متقطع"انا مراقب القلب البشري"، وما ان يتركها ويسير خطوات حتى ينهار وقد جحظت عيناه وازرق وجهه، لقد اصابته النوبة من جديد، يتجمع المارة حوله، ثم يحملونه الى غرفته في الفندق ، حيث الأوراق تتوزع على المنضدة وعلى احداها كتب:"12 آذار باريس 1841 لا اجد شيئاً مضحكاً في ان أموت في الشارع، ما دمت لا افعل ذلك عامداً."
في اليوم التالي ينشر نعيه بستة اسطر فقط ، فيما وصيته لم تكن سوى صندوق خشبي كبير طلب بأن ينقل الى المكتبة العامة، هناك حيث يجد القائمون على المكتبة اكثر من اربعة آلاف ورقة تمثل سيرته التي كتبها منذ ان دخل باريس اول مرة، يكتب في احدى الاوراق "سأكون مشهورا في 1880"يرثيه بلزاك في كلمات مؤثرة "ان ستندال يكتب حسب ما يهبط عليه من إلهام، لكنه لا يريد ان يلهمنا، والأصح أنه يريدنا ان نتعلم، ان نرى في برود الشهوة نوعا من الزهو الباطل، وان العاطفة الحارة ما هي الا زهو باطل يصل الى درجة الجنون."
احب ستندال النساء منذ طفولته، وقد كان يحب ان يتخيل نفسه منقذا لامرأة مجهولة جميلة من الخطر، وحين وصل باريس كتب لأحد اصدقائه:"ما أبحث عنه امرأة ساحرة وسوف أعبدها مثما أجعلها تعرف أسرار روحي." وعندما تقدمت به السن كان يكتب في اوراق ملونة الأحرف الاولى من اسماء النساء اللواتي احبهن، لقد كانت النساء شغفه الرئيسي وجوهر حياته.
الصديق الرقيق للنساء،كما أطلقت عليه سيمون دي بوفوار، لم يكن يؤمن بالغموض النسوي، وكان يذوق متعة التأمل أمام المرأة، وهو مسحور بها كما يسحره المنظر الطبيعي او اللوحة الفنية"من المستحيل فهم رقة النساء وحساسيتهن وحرارتهن من غير ان يصبح الرجل بدوره ذا روح رقيقة وحساسة وملتهبة، فالعواطف النسائية تخلق عالماً من ظلال الألوان ومتطلبات يكون اكتشافها مثرياً للرجل".
في تقديمه لكتاب روجيه غارودي الشهير(واقعية بلا ضفاف) يكتب أراغون"ان رواية"الاحمر والاسود"تبدو لنا اليوم رواية شديدة المعاصرة"، ويذهب أراغون أبعد من ذلك حين يؤكد"ان ستندال كان ماركسياً سابقاً للماركسية بمفهومها الفلسفي والسياسي والحياتي"