هناك مثل شائع يتردد لدى جميع شعوب الأرض عموماً مفاده أن «وراء كل رجل عظيم امرأة». وهذا المثّل يجد «نسخته» لدى البريطانيين أنه «وراء كل مسيرة كبرى لرجل... زوجة منهكة». من هنا بالتحديد يأتي اهتمام الكتّاب والباحثين بسيَر حياة نساء الرجال العظام في التاريخ بغية تحديد دورهن في ظل الرجال الذين برزوا كشخصيات تاريخية في بلدانهم... وأبعد من ذلك على صعيد العالم.
لا شك أن من الشخصيات الإنجليزية والعالمية الكبرى في القرن العشرين رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية «ونستون تشرشل"وكان قد خاض معارك الحرب العالمية الأولى. يرى في كُثر الشخصية الرئيسية في إنقاذ العالم من «جنون هتلر».
وإذا كانت هناك سلسلة طويلة من الكتب التي كرّسها أصحابها لهذه الشخصية الاستثنائية الشهيرة فإن «سونيا بورنيل»، صحفية التحقيقات وكاتبة السيَر البريطانية، تكرّس عملها الأخير لكتابة سيرة حياة زوجته «كليمانتين» في كتاب تحت عنوان «سيّدة أولى: سيرة حياة كليمانتين تشرشل وحروبها».
وتحتوي هذه السيرة على الكثير من التفاصيل عن البدايات الصعبة التي عرفها الزوجان «تشرشل» في المراحل الأولى من حياتهما المشتركة. خاصّة تلك الصعوبات ذات «الطبيعة الاقتصادية"التي أرغمت الأسرة على تغيير مسكنها مرّات عديدة بسبب العجز «المادي» عن الوفاء بمستلزمات البقاء فيها وصيانتها.
ومن خلال سيرة حياة «كليمانتين تشرشل"تعود كاتبة هذه السيرة لنوع من التأريخ لفترة حاسمة من التاريخ البريطاني وللدور الذي لعبه «ونستون تشرشل"فيه من زاوية دور زوجته التي «لم تكن مجرّد زوجة مخلصة بل عملت بنشاط في الكواليس لدعم قضيّة زوجها»، كما تشرح.
ومن السمات الأساسية التي تؤكّد عليها الكاتبة في شخصيّة «كليمانتين تشرشل"أنها وضعت زوجها «فوق الجميع»، بما في ذلك أطفالها وصحّتها وأهملت إظهار شخصيتها «المهمّة"لصالح تركيز جهودها على «تلبية مطالبه».
وتأكيد المؤلفة أنها عرفت بسبب ذلك حالة «متقدمّة من الإنهاك الجسدي والنفسي أيضا»، وأنها «عانت من سلسلة من حالات الانهيار العصبي». ذلك بسبب ما قدّمته من جهود للاستجابة لما يريده «زوج متطلّب"ولم يكن يبحث سوى عن دفع ذاته إلى دائرة الاهتمام والأضواء. هذا رغم تأكيد المؤلفة أيضا على أنها كانت بمثابة «عامل الضبط» في «تعديل مزاجه» وبالتالي المساهمة الحقيقية في مسار «صعوده».
هذا ما تخرج فيه من خلال دراسة الكثير من التفاصيل التي تخص سلوكيات النخب السياسية البريطانية في فترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية. هنا تتردد أسماء سياسيين ورجال دولة ليس أقلّهم شهرة ادولف هتلر وجوزيف ستالين وشارل ديغول.
هذا مع قيام المؤلفة في هذا الإطار بعدد من المقارنات بين «كليمانتين تشرشل"وسيدة أخرى شهيرة في عصرها هي «اليانور روزفلت»، زوجة الرئيس الأميركي آنذاك التي كانت «شخصيّة عامّة"ذات شهرة عالمية. وشرح أنه إذا كانت السيدة الأميركية أكثر شهرة فإنها بالمقابل لم تكن «أكثر فاعلية»..
والتوصيف الأساسي الذي تقدّمه المؤلفة للسيدة «تشرشل» أنها، رغم ابتعادها عن دائرة الضـــــوء وعـــن شهرة اليانور روزفلت، فإنها عرفت كيف تكـــــسب «احترام الكثيرين"الذين رأوا بها «القبضة الحـــــديدية في قفاز من حرير» والتي عــــرفت كيف تجعل من «حروب زوجها حروبها هي أيضاً».
ومما تؤكّده المؤلفة أن «كليمانتين» عرفت كيف تلعب دور «الشريك السياسي» ببراعة. هكذا غدت «المستشارة الحكيمة لزوجها وقدّمت له سرّا النصائح الجيدة وأعادت كتابة خطاباته وخففت كثيرا من ثورات غضبه ومنعته من ارتكاب بعض الأخطاء السياسية الرهيبة وساعدته في الخروج من تلك التي ارتكبها».
وتشير المؤلفة إلى سلسلة من المواقف «الحاسمة"التي كانت «كليمانتين» وراءها في سلوكية زوجها خلال الحرب العالمية الأولى عندما كان مسؤولاً عن البحرية البريطانية، ومنها أنها هي التي نصحته بعد «الكارثة الكبرى"لمعركة الدردنيل عام 1915 بين أساطيل الحلفاء ــ البريطانيين والفرنسيين تحديداــ والإمبراطورية العثمانية بـالالتحاق بالخنادق على جبهة القتال من أجل تحسين صورته و«تحضير مستقبله السياسي».
ولا تتردد مؤلفة هذه السيرة في الوصول إلى نتيجة مفادها أن «كليمانتين تشرشل"كانت مهمة «على طريقتها ودون البحث عن إبراز دورها» بالنسبة لبريطانيا بقدر ما كانت أهميّة «اليانور روزفلت» بالنسبة للولايات المىتحدة الأميركية.
ولا شك أنه كتاب يلقي الكثير من الأضواء على سيرة حياة امرأة بقيت لعقود طويلة في الظل، وعلى الدور المركزي الذي لعبته إلى جانب زوجها «ونستون تشرشل». لكنه أيضا، وأساسا، كتاب عن سنوات الحرب العالمية الثانية وعن تاريخ حقبة دقيقة من تاريخ بريطانيا... والعالم.
إن الفرضية الأساسية التي تقدّمها سونيا برونيل في هذه السيرة تبدو وكأنها تريد التأكيد أنه لو لم تكن كليمانتين موجودة إلى جانب ونستون تشرشل فانه «من المشكوك أن يكون قد حقق النجاح الذي قدّمه». والتأكيد في هذا السياق أنها «ساعدته كثيرا على اتخاذ القرارات الذكيّة"وأنه ما كان له أن يغدو بدونها ذلك «الزعيم الكبير"الذي بلغت شهرته آفاق العالم.