عبد الرزاق الحسني وموسوعته تاريخ الوزارات.. ساسة عراقيون يشاركون المؤلف في التوثيق

عبد الرزاق الحسني وموسوعته تاريخ الوزارات.. ساسة عراقيون يشاركون المؤلف في التوثيق

باسم عبد الحميد حمودي
تعد موسوعة(تاريخ الوزارات العراقية) للمؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني من المصادر المهمة لدارسي الحياة السياسية والاجتماعية في العراق في العهد الملكي, أذ طبعت سبع طبعات حتى عام 1988 ,وما زالت الحاجة الى أعادة طبعها كبيرة لظهور اجيال جديدة من الباحثين وطلبة الدراسات التاريخية ومحترفي العمل العام الذين يهمهم متابعة هذه الحقبة الحيوية من تاريخ العراق الحديث ,

حقبة العهد الملكي التي استمرت سبعا وثلاثين عاما 1921-1958 ونقلت العراق من العهد العثماني والتخلف الاجتماعي الى عهديتميز بالعصرية والتأسيس لمظاهر التقدم الثقافي والعمراني والاقتصادي مع الالتزام بالصورة المظهرية لديمقراطية ناشئة ,شابها انحيازالى المعسكر الغربي او ما سمي آنذاك بـ(العالم الحر)..

السيرة الرسمية

ولد عبد الرزاق الحسني في بغداد في منطقة الشورجة عام 1903 وتوفي في نيسان عام 1997 , واستنادا الى مدونة الاستاذ الدكتور ابراهيم العلاف عنه والمقابلة التي اجرتها القناة الرسمية العراقية نجد انه درس في كتاب جامع الخفافين ثم انتقل عام 1908 الى مكتب الترقي العثماني الجعفري (الثانوية الجعفرية فيما بعد) وذهب مع والده ألى النجف لزيارة العتبات المقدسة فقامت ثورة العشرين وانقطعت الطرق باسرته فالتحق الحسني بالثورة محررا في جرية (الاستقلال) التي صدرت في النجف ,وقد اتيحت الفرصة له لتعلم شذرات-كما نحسب- من اللغات الانكليزية والتركية والفرنسية ثم عاد الى بغداد ليستكمل دراسته في دار المعلمين,ثم عمل مراسلا لصيفة (المفيد) المصرية وصار مراسلا حربيا لها ,واصدر بعد هذا جريدة (الفضيلة) عام 1925 التي اغلقت سريعا ثم اصدر في مدينة الحلة صحيفة (الفيحاء) التي اغلقها الانتداب البريطاني قبل ان يعينه ياسين الهاشمي(احد رؤساء الوزارات البارزين)بوظيفة معاون محاسب في وزارة المالية ثم اضحى مديرا لخزانة لواء(محافظة) بغداد لينقل بعد هذا الى ديوان مديرية البرق والبريدالعامة زمنا.شارك الحسني في انتفاضة مايس 1941 واعتقل مدة خمس سنوات مع سواه من الساسة ,وعندما أطلق سراحه استمر في العمل التاليفي لكتبه عن تاريخ العراق الحديث.نقل الحسني موظفا في مجلس الوزراء بأمر من نوري السعيد, وكان السعيد قد استدعى الحسني وقال له انه سيتيح له دراسة الوثائق التي يريدها وذلك عبر عمله في الديوان شرط ان يتصف بالموضوعية في العمل. كان ذلك عام 1949 وقد اصبح الحسني مديرا في الديوان حتى تقاعد عام 1964 عن العمل الوظيفي.,ليستمر في عمله الاثير الى نفسه وهو تدوين وقائع التاربخ العراقي الحديث

دوافع التأليف ومصادره

وهو يقول عن دوافع تأليفه لموسوعته في الجزء الاول منها وتحت عنوان (فاتحة الكتاب) ما نصه: ((أختمرت فكرة وضع تاريخ الوزارات العراقية في ذهني منذ اواخر عام1926 يوم حجب مجلس النواب العراقي ثقته عن الوزارة السعدونية الثانية..) ثم يقول:(شرعت منذ العام1927 في جمع أصول هذا الكتاب ومواده مستعينا بضبوط البرلمان العراقي تارة وبالصحف اليومية وماينشر فيها من بلاغات ومستندات واخبارتارة اخرى ,حتى أذا كانت سنة 1930 وجدت لدى الاخ صبيح ممتاز الدفتري مجموعة قيمة من مقررات مجلس الوزراء العراقي ,مطبوعة على شكل كراسات صغيرة ….أعانتني على وضع بحث مطول عن كيفية تكوين الوزارات العراقية,وأهم الاعمال التي قامت بها كل وزارة والمقررات التي اتخذتها والمعاهدات التي عقدتها..الخ).وقام الحسني في البدء بنشر بحثه على شكل اجزاء متتابعة في اعداد مجلة العرفان البنانية التي تصدر في صيدا خلال مجلدها التاسع عشر في عام1930 ,اي أن عملية التخطيط للكتابة وجمع المادة الاولية واعدادها للنشر قد استغرق اربع سنوات. استمر الحسني في جمع مواد موسوعته متصلا برؤساء الوزارات المتعاقبين والوزراء و(رجال السيف والقلم) لجمع المعلومات المتصل بمشروعه المهم,فيقول أن بعضهم كان يشجعه فيمده بما لديه من وثائق ومستندات ,وبعضهم يرى فيها ملهاة ومشغلة (لا تستحقان التشجيع والتشهير بالاعمال الحكومية)أي انه كان يرى فيها كشفا مخلا باعمال الدولة مستثقلا اطلاع الاخرين عليها.يكرر الحسني في مقدمة الجزء الثالث من موسوعته جزءا من هذه التوضيحات ويضيف: (أما بعد فقد كانت (الحكومة العراقية) توافي مجلس عصبة الامم بتقارير سنوية عن سير الادارة في العراق,مضمنة أياها حوادث السنة كبيرها وصغيرها فكانت هذه التقارير خير مصدر رسمي يعول عليه المؤرخ في تتبع أمور العراق وحوادثه المتنوعة وفلما دخل العراق عضوا في (عصبة الامم) في 3تشرين الاول 1932 توقفت الحكومة عن أصدار أمثال هذه التقارير الشاملة) وبذلك شحت عن الحسني – أيامها- المصادر الموثقة التي حصل عليهافي دعم تأليف الجزئين الاول والثاني. وكان الحسني قد أصدر الجزءين الاول سنة 1933 فازداد اهتمام الساسة والمهتمين بعمل الكاتب فأعانوه لاصدار الجزء الثاني عام 1935 بما أمدوه من مستندات ومعلومات.يشير الحسني في مقدمة الجزء الثالث ايضا الى أن مجلس الوزراء العراقي كان يطبع مقرراته في كراسات دورية فصلية,ويكشف الحسني أن بعض الوزراء كانوا يمهدون له سبل الاطلاع على المصادر الرسمية,وعندما تألفت الوزارة السعيدية الاولى في 23 اذار 1932 ,أوقف مجلس الوزراء طبع مقرراته فأدى ذلك الى حرمانه من مصدر رسمي مهم.هنا رأى الحسني أن يستمر في الاتصال بقادة الرأي وبرؤساء الوزارات للاستعانة بهم في تدوين الوقائع التاريخية التي كانوا ابطالها أو التي حدثت خلال استيزارهم ,ويقول في ذلك عبر مقدمة الجزء الثالث:(كان بعضهم يرحب بهذه الاستعانة فيضع تحت تصرفنا ما لديه من معلومات ومستندات,والبعض يرى في عملنا ملهاة وافشاء لاسرار الحكومة لا يصح تشجيعهما,أو أنه يرى أن الوقت غير ملائم لولوج هذا السبيل) وقد كان السيد نوري السعيد صريحا في اعطاء رأيه في هذا التوثيق التاريخي أذ رأى فيه أن العمل سيصدر من فرد واحد ,اي أنه سيحمل رأيه وحده فقال في كتاب وجهه للسيد الحسني مؤرخ في الخامس من اب1934 ,ردا على كتاب كان المؤلف قد وجهه له:(وبناء على ما تقدم فاني اخالك تتفق معي على أن المعونة التي تطلبها لاتفي بالمرام,لانها تعبر عن أفكار شخص واحد بينما الذوات الذين يقتضي استطلاع ارائهم لهذا الاعتبار كثيرون. ومادامت المنابع التي يقتضي أن تستقي منها محتويات الكتاب غير متيسرة في الوقت الحاضر فأنه يتعذر علي اسداء المعونة المقتضية) ثم يعرب السعيد –بعد هذا -عن تمنياته بالنجاح.وكان السعيد قبل هذا قد اوقف طبع وتوزيع مقررات مجلس الوزراء الذي كان الحسني يعدها واحدة من مصادر عمله الوثائقي.

رؤساء الوزارات يسهمون

لم يعبأ الحسني بموقف السعيد واستمر في تتبع التشكيلات الوزارية المتتالية والتثبت من اعمالها الادارية والسياسية والاحداث الي كانت تتم في عهد كل وزارة مستعينا باراء رؤساء الوزارات الذين كانوا يساعدوه في تثبيت الواقعة او تصحيحها ,وكذلك بقادة الجيش والنواب والزعماء الاخرين. وهو يقول في مقدمة الجزء الثاني أن السيد حكمت سليمان قد اشرف على تهذيب البحث المتعلق بالوزارة السعدونية الثانية اذ كان وزيرا لداخليتها ويشير الحسني في مقدمة الجزء الرابع ان السيد حكمت سليمان قد اشرف على تدقيق البحث في تفاصيل الاحداث التي جرت في وزارته عام 1936 وهي وزارة انقلاب بكر صدقي ,كما اشرف الفريق جعفر العسكري قبل هذاعلى تهذيب البحث في وزارته الثانية وعززه بالوثائق , كما قام السادة توفيق السويدي وناجي السويدي وناجي شوكت(وكلهم من رؤساء الوزارات) بتوثيق البحوث الخاصة بوزاراتهم او الوزارات الي عملوا فيها كوزراء مساهمين في صياغة الاحداث والسياسة العامة. وقام السيد رشيد عالي الكيلاني بالمتابعة مع المؤلف في سرد بعض االاحداث التي تمت ابان عمل وزارته الاولى بين 1931-1932وكذلك قام بتدقيق احداث وزارة ياسين الهاشمي(أذار 1935) أذ كان وزيرا للداخلية فيها,وكان ممن ساهم في اضاءة عمل الحسني بعض رجال الدين البارزين وفي مقدمتهم العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي كتب له موضحا موقفه من كتاب (العروبة في الميزان) لعبد الرزاق الحصان وكيف قام بدرء الفتنة التي اثارها هذا الكتاب وشكر الملك فيصل الاول له لحصافته وموقفه القويم.وقام جميل المدفعي بتدقيق البحوث الخاصة بوزاراته الثلاث الاولى بين 33-1935

من طرق التوثيق

استعان الحسني في تاليف موسوعته الهامة هذه بمذكرات الساسة والكتب التي بحثت تلك الاحداث التاريخية وبمقابلاته مع قادة الجيش الذين اثروا في الاحداث وبالنواب والاعيان للوصول الى الصورة القريبة من الحدث,فقد عثر بين وثائق المركز الوطني لحفظ الوثائق على ورقة من مذكرات الطيار جواد حسين أحد قتلة الفريق جعفر العسكري لايضاح معلومة تصفية وزير الدفاع المغدور,واستعان بمقابلة مع عبد المطلب الامين بعد عددمن السنين لاثبات واقعة الاغتيال وبالحاج سعيد القره غولي الضابط المرافق للعسكري الى منطقة خان النص حيث اوقفه القتلة في موضع معين وصحبوا العسكري الى موقع القتل. لم يكتف الحسني في اثبات واقعة قتل جعفر العسكري بهذه الاراء بل استمر في بحثه حيث اتصل بالفريق عبد اللطيف نوري وهو جالس في مقهى الترينوف في دمشق يوم 4تموز 1939 ليحاوره حول مقتل وزير الدفاع العسكري. كان عبد اللطيف نوري وزيرا للدفاع في حكومة حكمت سليمان التي جاء بها انقلاب 1936 وكان شريكا للفريق بكر صدقي في ادارة العمل الانقلابي لفترة ,حتى انسحب من الحياة العامة بحجة المرض(وهو والد القاص العراقي الرائد عبد الملك نوري). ينقل الحسني في هامش ص225 من الجزء الرابع قول عبد اللطيف نوري(أن قتل العسكري لم يكن في بال أحد وانه لايزال مكمودا من اثر هذه الفاجعة,وأنه ليشعر بانفجار في شرايين قلبه كلما تذكر الفاجعة ولهذا لايريد البحث في هذا الموضوع لأن صحته لاتساعده على ذلك) ومن الطبيعي أن هذه الاجابة لا تعني اعفاء نوري من مسؤولية ذلك العمل الذي امر به بكر صدقي وقامت بتنفيذه ثلة من ضباط الجيش بينهم الضابط (لازار) الذي ينكر في ذات الهامش تهمة قيمه بالتنفيذ هو والضابط جواد حسين ,وكان الحسني قد التقى لازار في مدينة الحسكة السورية.ويضيف الحسني في نفس الهامش قوله:(وفي فاتح 1977 ظهرت اقصوصة جديدة في عالم الدواوين تقول أن الرئيس (النقيب) حسيب الربيعي كان مع الضباط الذين أرسلهم بكر صدقي لقتل جعفر العسكري وانه هو الذي تولى القتل امتثالا لامر بكر صدقي فيما قام بقية الضباط باطلاق النار على جثة وزير الدفاع القتيل لتاكيد اسهامهم),ويقول الحسني ان اللوائين عبد المطلب الامين وخليل جميل قد ايدا هذه الحكاية التي يصفها بـ(القصة)! ولاشك ان امرا كهذا لم يكن مدونا سابقا ولم يكشف النقاب عنه بهذه الصيغة التي ينقلها الحسني دون أبداء رأي ,لكن الحسني ينقل تقريرا رسميا صادرا من متصرفية بغـــــداد برقم س 654 وتاريخ30 -11-1937 بشير فيه الى تقرير المحقق العدلي في الرصافة الذي اجرى كشف الدلالة قبل خمسة ايام في موضع حدوث عملية تصفية وزير الدفاع جعفر العسكري ليتثبت من الموقع وهل يقع ضمن حدود ديالى ام بغداد ليجد ان الحدث ضمن حدود لواء بغداد وأن التحقيقات قد اثبتت ان الجريمة(هكذا يصفها كتاب المتصرفية (المحافظة) وكتاب المحقق العدلي) قد حدثت يوم 29-تشرين الاول سنة 1936 وان امر القتل قد صدر من بكر صدقي وان القتلة هم كل من المقدم جميل فتاح والرؤساء (النقباء) لازار اندروس وجواد حسين واسماعيل عباوي الشهير باسماعيل توحلة والملازم جمال جميل ,دون اشارة الى النقيب حسيب الربيعي أو سواه.

كانت طريقة الحسني التوثيقية تعتمد لا على النصوص المدونة لكتب التكليف الوزاري من قبل الملك ولا على الوثائق الرسمية فقط ,بل تتسع مساعيه لتشمل المقابلات الشخصية لابطال الاحداث والاســـــئلة والاجوبة المدونة ووثائق القصر الملكي والوثائق البريطانية وسواها ,أضافة للصحف والدراسات.كان الحسني المؤرخ واحدا ممن غاصوا مباشرة في خضم الاحداث واعطوا للعمل التوثيقي للاحداث التاريخية عمقها عبر تدوين الروايات المتعددة للحدث الذي قد لايتفق الكثيرون على تفاصيله,بحكم مواقــــــــفهم ,لكن الحسني يورد كل وجهات النظر في الواقعة الواحدة تاركا الحكم للقـــارئ مع ايضاح رأيه احيانا.ولابد من القول هنا ان بعض الوقائع مثل كتب التكليف للوزارات وخطب الساسة ومناقشات المجالس النيابية ومجلس الاعيان التي تتعلق بالوقــــــــائع الحادثة جرى توثيقها من قبل الحسني باعـــــــــتبارها وقائع لاتحتمل الجدل بل التحليل ووهو امر تركه لاجيال المؤرخين الشباب الذي اعقبوه في دراسة التاريخ العراقي.كان عبد الرزاق الحسني خزانة معرفة موسوعية وبذل جهده العظيم دون منة في خدمة تاريخ العراق..البلد الذي احبه دوما.