عن تميّز مسرحه .. ستانيسلافسكي يتحدث في  حياتي في الفن

عن تميّز مسرحه .. ستانيسلافسكي يتحدث في حياتي في الفن

أوراق
لامس تخوم العبقرية وتخطاها ، فكان مخرجاً لامعاً مجدداً حدد من خلال عروضه جماليات الإخراج في القرن العشرين ، ردد كثيراً "ضرورة تجسيد حياة الروح الانسانية "، ولم تخلُ أعماله الإخراجية من الجمال الحقيقي للعلاقات الانسانية ، كان يصر على ابراز الوعي العميق للوضع التاريخي والمعاصر الذي تحركت في إطاره وعاشت

وعانت وكافحت وأحبت شخصيات البطولة سواء أكانت تراجيدية أو كوميدية ، كل هذا يتجسد في شخص الممثل كونستانتين ستانيسلافسكي ، الذي رأى كثير من النقاد والفنانين أنه صار من الكلاسيكيين في سيرورة مسرح موسكو الفني والمسارح الأخرى ، ومعرفته العميقة بسيكولوجية الممثل ، وخبرته المسرحية العملية أعطته إمكانية الكشف عن مكنون النص الذي يسمح لكل مؤد بأن يُعلن عن نفسه وعن فرادته وبالتالي عن ذاته كمبدع .
لم يأتِ مؤَلف " حياتي في الفن " مصادفة ، ولذلك لم يكُن عابراً أو رهين مزاج ، تضافرت عوامل عديدة على إنتاجه وبالتالي دفعه إلى الأمام ، فيحكي كوسيتا قصة ولعه بالمسرح منذ طفولته ، بل ربما بعبارة أدق منذ تعلقه المبكر بهذا الفن الذي منحه حياته كلها وأحبه بلا رهانات أو حسابات براغماتية ، نقل المسرح من بيته وجمع أخوته حوله وأسس حلقة آلكسييف نسبة إلى الاسم الحقيقي للعائلة ، ولم تمضِ إلا سنوات قليلة حتى إنتقل إلى رابطة أو جمعية الفن والأدب ، ما يتوجب أن نلفت إليه أنه ما كان بأكانه أن يفعل هذا لولا البيئة الأسرية الحاضنة له ، والفورة المادية التي كانت تنعم بها اسرته ، وسعة الأفق وإفتتاح النوافذ والأبواب – في ما بعد – على كل ما هو جميل ومضيء ، قادم من خارج روسيا بدءاً من اللغة وانتهاءً بنمط الحياة .
عشق ستانيسلافسكي التمثيل وأوغل في دراسته ولم يكف حتى آخر أيامه عن البحث في العمق ، عن كل ما هو جوهري وداخلي وروحي فيه ، بحث عن بذرة الشخصية وعن الفعل المتغلغل ، اللذين يحددان ويعرفان سلوك الإنسان ولم يفكر في يوم من الأيام بالفن خارج الحياة أو بالفن الذي يدير ظهره للواقع ، ولكن لم يتوقف عند سطحه بل ذهب إلى ما هو أبعد ، عندما رأى أن على الممثل أن يتوسل الخارج من الداخل أي بعبارة أوضح " ملامح الشخصية ، حركتها ، أفعالها" تنطلق من الداخل وستانسلافسكي الممثل الموهوب والمبدع هو نفسه الانسان الحالم والحساس والذكي ، سريع البديهة .
من الجانب الفني ، نستطيع القول أن مهارته هي التي تجعل عمله مختلفاً وعندما كان يعمل على تحقيق الوضع الخارجي ، الظرف الخارجي للفعل ، وما يتعلق بالجو المسرحي للعرض ، كان يميل إلى الفعل الداخلي مجسداً على خشبة المسرح ، أي أنه كان يسعد إذ يرى حياة أبطاله وهي تستمر في الاستراحة بين الفصول ، وإنها لم تكن لتتوقف أو تنقطع بمجرد انسحاب الممثلين إلى ما وراء الكواليس .
لم يتخلّ ستانيسلافسكي عن التمثيل والإخراج ، إلا بعد أن أنهكه المرض ، ورغم المرض ظل يشرف على العروض الدرامية والأوبرالية ، مانحا إياها خبرته الفنية المتراكمة عبر العقود الطويلة ، ومشجعاً الفنانين الشبان على الاستمرار والانتقال إلى مراحل متقدمة في درب الفن ، وإيمانه بأن يتعلم الشباب ، وأن يقتدوا بمن هم أكبر سناً ، هو الذي دفعه إلى تأسيس أكثر من استديو ولم يبخل بماله الخاص عند الضرورة .
أن الحرص على الجانب التربوي – التعليمي ، كان نابعاً من قناعته أن المخرج ليس مجرد فنان ، فهو مُرب ينقل الفن والأنساق المعرفية والثقافية والقيم الأخلاقية إلى المتلقي وإلى الفرقة التي ينتمي إليها وعلى الممقل أن يدرس فنه ، طبيعته الإبداعية ، حيث يعتقد أن الفنان كلما كان كبيراً إزداد اهتمامه بتقنية فنه ، ولعل نزعته التعليمية – التي لم تنعكس على فنه ، وظلت خارجة – كانت تنهض على الرغبة في مشاطرة الآخر الخبرة من جهة وتوظيف الأبحاث والتجارب التي قام بها في العملية التعليمية ومنذ أن كان في الرابعة عشرة كان يسجل يومياته وملاحظاته ويجعلها مادة للنقد القاسي ، كان قاسياً مع نفسه حتى في تلك الفترة الواقع أن النقد الذاتي لازمه طوال مسيرته الابداعية بدءاً من الخطوات الأولى وحتى أخر ايامه .
" حياتي في الفن " لا يفقد أهميته مع مرور الزمن ويظل محافظاً على حكمته التاريخية وباعثاً على الاهتمام لكل من يشغله الفن مخرجاً كان أم ممثلا أم باحثاً ، وهكذا نرى أن كل شيء من هذا الكتاب كان المقدمة والبداية والاستهلال لواقعية مضت في تطورها صاعدة ، مؤسسة لفت جديد يغرف من الداخل ، من الروح الانسانية ليلتقي الخارج " الجسد ".
ولعل أبلغ وصف للتأثير المزلزل في المسرح الامريكي الذي أحدثه ستانيسلافسكي ما قاله ج. ل. ستيان لصاحب الدراما بين النظرية والتطبيق "ما من كاتب مسرحي بارز في المسرح الامريكي الحديث إلا وتأثر في وقت ما بتشيخوف او بستانيسلافسكي أو بمنهجه وأحيانا بالثلاثة معاً ."
في "حياتي في الفن" التواضع الجم الصادق ، وسعة الأفق ، وانفتاح العقل والحكمة والبساطة غير المخلة والجسارة في الاعتراف بالخطأ والبعد عن التهويل والمبالغة في تقدير الذات أو تمجيدها تسجل لستانيسلافسكي مقومات القدرة على الانتقال الى الامام دائما وفق سيرورة ابداعية واخلاقية .