رمضانيات في ذكريات الشيخ جلال الحنفي

رمضانيات في ذكريات الشيخ جلال الحنفي

اعداد : ذاكرة عراقية
في جامع الازبكية
في عام 1935 عينت وكيلا لخطيب المرادية مقابل وزارة الدفاع ومن مومذاك الغيت التغني على المنابر يوم الجمعة في خطبة الجمعة وقد تعرضت بسبب ذلك لسخط عظيم وغضب شديد من جماعة من كانوا هناك من المصلين اذ كانوا يعتقدون ان التغني في خطبة الجمعة امر من ثوابت الشريعة وفي الجمعة التالية حضر الى بغداد من الموصل عالمها المعروف الشيخ بشير الصقال فنيطت به خطبة تلك الجمعة

وهو شيخ ذو عمة ولحية ظاهرة تكاد تغطي صدره فلما خطب لم يلجأ الى التغني وانما القى خطبته مرسلة دون غناء وعلمت الناس ان تصرفي في حذف الغناء عند الخطبة كان صحيحا..
وبنوا الى جوار جامع الازبك في باب المعظم قاعة كبيرة واسعة سموها قاعة الملك فيصل الثاني ثم سميت بقاعة الشعب.
وفي الوقت الحاضر اتخذوا من مستشفى المجانين ومن سجن بغداد المركزي اللذين كانا في باب المعظم ما يسمى اليوم بوزارة الصحة..
وقد وصل الماء عند فيضان نهر دجلة قبل الثلاثين الذي يسمى بالكسرة الى باب المعظم وشاهدت ذلك بعيني وانا صغير..
وكان يقع في باب المعظم مستشفى المجانين الذين كانت تسمع اصواتهم عبر اسوار المستشفى كما كانت تقع هناك مستشفى المجيدية التي كانت قبل ذلك قصرا اصدر السلطان العثماني محمود خان امره لوالي بغداد مدحت باشا ببنائه لسكني الشاه الايراني ناصر الدين شاه ومن معه عند مروره ببغداد الى فرنسا للعلاج ومن يومذاك عرف اهل بغداد شرب الشاي، وقد جاء مع الشاه الى بغداد ما يقرب من الف مرافق وكان القصر المذكور يسعهم بخيولهم وقد شاهدت القصر وشاهدت بابه قبل هدمه..
وكانت هناك حوانيت للعلافين الذين يبيعون التبن والشعير للناس وللجيش خاصة اذ تقوم هذه الحوانيت امام القلعة. ما مررت بمنطقة باب المعظم الا تذكرت بغداد عبر سنين طويلة يوم كان الداخل الى بغداد يمر بجامع الازبك عن جهة اليمين الذي كان يقع عند مدخل الشارع فانه سيرى على بابه شعرا قاله شاعر بغداد في الحقب الماضية صالح التميمي اذ قال من بعض ما قال:
اذا جئت للزوراء قف عند بابها -- تجد جامعا من غفلة الجهل مانعا
وكانت الى جوار هذا الجامع تكية للازبكية القادمين من اوزبكستان لهم فيها عرف ومأوى دائم وقد ازالوا هذه التكية بالمرة وشردوا ساكنيها وكنت اماما وخطيبا في جامع الازبك لمدة تنوف على العشر سنين وكانت اطيب ايام حياتي في هذا الجامع وقد اسست فيه جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية وواصلت فيه اصدار مجلتي المسماة بمجلة الفتح..
ان هذا الجامع العظيم هدم تعسفا ليبيت جامعا صغيرا ليس فيه من المشتملات ما يجعله يلفت انظار الداخلين فيه او المارة من امامه ولم تنتفع الاوقاف من هدمه.. كما كان هناك باب اثري يرجع الى اواخر عهد العباسيين مررت منه يوم كنت صغيرا اذ اخذتنا ادارة مدرستي مع مدارس ابتدائية اخرى في اوائل العشرينات متجهين الى البلاط الملكي ليستقبلنا الملك فيصل الاول ويستعرضنا ايامئذ اذ لم تكن في بغداد اية مدرسة الا ما كان في بدء انشائه منها ولا اتذكر اكنت في الصف الاول ام كنت في الصف الثاني ولا شيء من الصفوف بعد ذلك غير صفنا الاول والثاني..
وقابلنا الملك وكان واقفا في مدخل البلاط ونحن نمر من امامه الى داخله وعدنا بعد المقابلة من ذات الطريق..
ان هذه البوابة الفخمة التي تدل على عظمة بانيها بيعت بمبلغ بسيط تافه يقل عن عشرة دنانير على ما فهمناه مما اورده الباحث عبدالحميد عبادة في كتاب له..
ولم يكن من الضروري ابدا هدم بوابة بغداد لامروريا ولا هندسيا اذ لم يكن القوم يعلمون ان الاثار القديمة هي مورد اقتصادي لاي بلد في هذا العصر..

الفوتغراف
لم أتجاوز الخامسة عشرة من سني حياتي عندما التحقت بمجلة (الهداية الاسلامية) ومن بعض أعمالي فيها قيامي بجباية (الاشتراكات) في أماكن متقاربة ومتباعدة وعرفت الكثير من أمر الناس وطبائع السكان، وتعرفت منذ الصغر على اكبر مجموعة من علماء الدين وأئمة المساجد كل ذلك جعل ذاكرتي تزدحم بالمعلومات البغدادية الجمة الكثيرة.. وإذا كان التطور الذي حصل في بغداد سريعا غير بطيء فقد اختزن كثير من ذلك في ذاكرتي وبت استطيع الآن الرجوع إلى ما قبل ثمانين سنة لأرى كيف كانت الأشياء والأوضاع والتقاليد والمشاهد، بعد هذه المقدمة الموجزة اذكر أن أول اختراع إلى لفت أنظار الناس في بغداد في العشرينيات هو (الفوتوغراف) الذي عربه اللغويون إلى (الحاكي) وكانت الناس تستمع إليه في المقاهي وفيهم من امتلك مثل هذه الاجهزة في بيوتهم اذ كانت توضع الاسطوانة على مكان مخصص لها في هذا الجهاز وتوضع عليه الإبرة التي يسمونها (الالكنة) وهناك بوق ينبعث منه الصوت.
وقد ساعد الحاكي هذا على نشر المقامات العراقية في مختلف الاوساط وانما كان يسعى بالاسطوانة لم يكن الا قرصا مستديراً بحجم الرغيف الصغير وجرت تسميته بالاسطوانة لأنه كان عند اول اختراعه اسطواني الشكل. لدي هذا الجهاز القديم ومعه عدة اسطوانات تصنع من الشمع وتسجل عليها الأغاني وغيرها محليا فلما تطور هذا الجهاز صارت الاسطوانة قرصا يصنع من مادة خاصة وانتقل اسم الاسطوانة إلى القرص ومضى الأمر على ذلك.
لقد كان أهل بغداد يجتمعون حول (الحاكي) وهم يتعجبون كيف يخرج هذا الصندوق الصغير اصواتا لأناس كثيرين وكان بعضهم يدور حول الصندوق ليرى ماذا بداخله، وفي تلك الايام نظم بعض الشعراء قصائد في وصف هذه الأعجوبة النادرة ثم مضت الأيام فإذا بالراديو يظهر في بعض البيوت فتستمع الناس إلى أصوات ينطق بها الناطق في مصر ويسمعها السامع في بغداد وكنت في أواخر العشرينيات امشي مع صديق فمررنا ونحن في محلة (دكان شناوة) ببيت فقال لي انظر إلى هذا الشباك فان فيه سلكا ظاهرا على الطريق يجلب الاخبار من مصر فكذبته وأسكته إذا كان ما قاله مما لا تصدقه العقول يومذاك، وكان عبد العزيز البغدادي وهو صاحب محل للسجائر يمنح جوائز لمن ينجح في سباقات كان ينظمها فكان يقم له هدية واحدا من هذه الراديوات وذاك قبل انتشارها في الأسواق، ثم ظهر الراديو في بعض المقاهي، وقالت العامة في بغداد أن هذا من عمل الشيطان فلما سمعنا القرآن الكريم يتلى من اذاعة مصر عدلت الناس عن نسبة الأمر إلى الشيطان وانتشرت الراديوات في البلد وقل انصراف الناس إلى (الفن غراف) وبعد مرور عدة عقود من الزمن ظهر التلفزيون الذي كان يعمل على شاشة غير ملونة وإنما كانت المشاهد فيها تبرز بيضاء وسوداء ثم تطور الأمر وظهرت التلفزيونات الملونة على نحو ما يسعنا نراه ونشاهده في آخر العشرينيات.

حوار بين الحافظ مهدي والشيخ الحنفي حول تنغيم التلاوة القرآنية
اوشك عدد ليس بالقليل من المقامات والنغمات العراقية الجذابة التي تعتبر من مكوناتها واساسياتها، على الاندثار، ان لم تكن قد اندثرت وعفا عليها الزمان! فلم نعد نسمعها إلا في التلاوات القرآنية، والتسجيلات الغنائية القديمة، ربما لكونها صعبة الاداء، وربما لان المقرئين والمنشدين والمجودين يستهلون النغمات البسيطة، فكانت محاولة رائدة تولاها اثنان من المغنين والمهتمين باحياء تراثنا الآخذ بالاقول هما الشيخ جلال الحنفي، والاديب الصحفي الاستاذ فاضل مهدي، بشرت بنجاح ملموس، واعطت اكلا طيبا، يرجى له وفرة العطاء. وتهدف المحاولة الى توسيع دائرة التنغيم في التلاوة القرآنية الكريمة، بالطريقة البغدادية – او العراقية – المشهورة في كافة اقطار العالمين العربي والاسلامي، وعدم الاقتصار على نغمات بسيطة محددة، فكانت بواكير المحاولة كان اللقاء الذي سجل على شريط، على مدى يومين، في دار المرحوم الحافظ مهدي في القرغول بتاريخ (28 نيسان 1959) حضره صاحبا الفكرة، وفي المرة الثانية حضر اللقاء المرحوم عبد السلام رستم مختار محلة العزة، وقد تلطف الاخ التراثي امير عبد الله – من روادنا المتقدمين في جمع التراثيات النغمية وتسجيلها على اشرطة – فاهدى مشكورا نسخة من هذا الشريط، الذي حولناه الى حوار ، والباب مفتوح امام تسجيلات مماثلة، احياء لتراثنا الاسلامي الخالد.
يبد الشيخ الحنفي، الحوار، فيسأل:
الحنفي – ابو صلاح.. نغمة النوى يلحقها القرار، وتعتبر نغمة خاصة مستقلة كما اتصور، والقراء عادة يغنون النوى في القرآن الكريم، لكنهم ميشتغلون بالجوابات ؟ هل هذا غير ممكن فنيا؟
مهد: الجوابات في النوى عندما يقرأ كمقام، واجبة، اما بالنسبة للمقرئ فهي صعبة، لانها تكلفه جهدا مضاعفا احتمال للكثير به! ولذلك يكتفون من هذه النغمة بالقرارات والنغمات الواطئة، لانها ممكنة ومريحة، والقرار لازم في هذا المقام، لان بدونه ما يسمى نوى.
الحنفي: كيف؟ هل تسمع شيئا؟
مهدي: تتوكل على الله ، وتشوف!
ثم يتلو من آي الذكر الحكيم، من سورة الحجر بعد التعوذ والبسملة من الآية (ان المتقين في جنات وعيون) الى الآية (قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم) مصورا نغمة النوى تصويرا جميلا ودقيقا، واثناء التلاوة كانت تتردد اصوات الاستحسان مثل: الله الله .. او تمد كلمة (الله) طويلا تعبيرا عن مشاعر الاعجاب. ويؤدي الحافظ مهدي جواب النوى الصعب الوارد في المقام ليؤكد قوله بانه غير ممكن في التلاوة القرآنية، فيقتنع الحاضرون برأيه ويسلمون.
الحنفي: ملا .. هل انغام الجميلة، كيف دخلت في التلاوة القرآنية الكريمة؟
مهدي: والله.. هل عراقيات الجذابة، مثل نوى، طاهر.. هذى ماخذيها من المرحوم (ملا احمد المهظماي) هذا الرجل كان مشهورا بضبط الانغام واستعمالاتها في التلاوات، استعمال جدا جميل.
الحنفي: شوكت توفه الله يرحمه ابو صلاح؟
مهدي: توفه بالتسعة وعشرين تقريبا.
الحنفي: طيب.. الملا عثمان الموصلي، شلون كان يقرء المقامات؟
مهدي: هذا مازج بين الانغام الشرقية.. العربية والتركية والفارسية، وبين النغمات المصرية والعراقية، ومكون له اسلوب خاص بيه، واشتهر بين الناس بهل الاسلوب وكان يغني اجزاء من المقامات.. اني شخصيا ما سامعة يغني مقام كامل.
الحنفي: تسجيلات للملا عثمان غير موجودة، هل يستطيع ابو صلاح ان يقلدنه صوته؟
مهدي: انا؟ لا استطيع.. لكن اكو واحد هو السيد مجيد ( من اهالي الفضل) هذا يكدر يقلد صوت الملا عثمان، لانه يمتلك 0بحة) بصوته تشابه (البحة) مال ملا عثمان.
الحنفي: هذا وين راح تشوفه؟ ومنو يجيبنياه؟
صوت: يلتكى .. وين يروح؟
مهدي: الموسيقار كامل الخلعي ذكر بكتابه ان الملا عثمان مختص بالرست، وحين قدم الى مصر استفدنا من خبرته في التواشيح والانغام.
الحنفي: هل غنى المرحوم ملا عثمان مقام الحليلاوي، مثلا؟
مهدي: مثل ما ذكرته.. الرجل ملم المام تام بالمقامات وبالانغام، وله الحان عديدة، لكن ما سمعنه بانه يقرأ المقام الواحد بصورة كاملة.
الحنفي: مقام الماهوري.. ملا .. هذا منين ماخذيه؟
مهدي: من الاتراك وهو من المقامات المفضلة عندهم ويقرأونه في الاعياد وفي المناسبات الدينية، ويسمونه (بيغمبر مقامي) اي، المقام النبوي!.
ثم يغني الحافظ مهدي مقام الماهوري ببعض ابيات من قصيدة ابن الفارض:
ما بين ضال المنحنى وظلاله
ضل المتيم واهتدى بضلاله
وبذلك الشعب اليماني منية
للصب قد بعدت على آماله
يا صاحبي هذا العقيق فقف به
متوالها ان كنت لست بواله
وانظره عني ان طرفي عاقني
ارسال دمعي فيه عن ارساله
اترى درى اني احن لهجره
اذ كنت مشتاقا له كوصاله
وابيت سهرانا امثل طيفه
للطرف كي ابقي خيال خياله
وبعد استراحة قصيرة، اتبع هذه الابيات الصوفية، بابيات من قصيدة الشاعر العراقي جعفر الحلي، التي مطلعها:
يا قامة الرشا المهفهف ميلي
بضماي منك لموضع التقبيل
غنى الابيات التالية بمقام العريبون عجم، وصور قبل التسليم بالابراهيمي نغمة (سعيد مبركع) وهي من النغمات العذبة التي تكان تنقرض:
اتلو صحائف وجنتيك وانت
في سكر الصبا لم تدر بالانجيل
ورأيت سحر تغزلي بك فاتنا
فجملته في طرفك المكحول
اشكو الى عينيك من سقم بها
شكوى عليل في الهوى لعليل
وبعد توقف قليل يتلو الحافظ مهدي – بنغمة الحليلاوي – الجذابة من سورة الانبياء من الآية (ان الذين سبقت لهم منا الحسنى، اولئك عنها مبعدون) الى الآية (قال ربي احكم بالحق، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون).
وتمضي لحظات سكون ينطلق بعدها صوت المقرئ الشجي، الحافظ مهدي، مقام ابراهيمي، بالزهيري التالي، وقد نظمه خصيصا له احد اصدقائه:
يا ليل لا تنكضي ياليل سلينه
سلواك على البدر فديوم سلينة
عالوصف كلبي هوه ما تسمعو وناي
والروح غنت لكم قيثارة وناي
والدمع غطه العوالي ما اله وناي
يمته الوصل منكم يحباب سلينه
****

ذكر لنا الشيخ الحنفي بعد سماعه الشريط ما يلي:
- لقد كانت خطتنا ان ندخل النغمات العراقية الشجية في التلاوة القرآنية، ولا يعنينا ان كانت صعبة الاداء وتكلف المقرئ او لا تكلفهن لاننا مثلا كنا نجد المرحوم الحاج محمود عبد الوهاب يتفنن في استخدام نغمة الارواح في التلاوة القرآنية ونجد اليوم الحافظ خليل من اجود المقرئين استعمالا للنغمات العراقية، هذا عدا ما نحس به من اشراقة في صوته، ولا احجب تقديري عن بقية المقرئين.
اما الاستاذ فاضل مهدي كشف لنا الكثير وذلل العديد مما اشكل علينا اثناء سماعنا الشريط، فله ثواب معونته، والى لقاء قريب. توفى الحافظ مهدي الى رحمة الله بتاريخ 28 نيسان 1959 اي بعد سبعة اعوام من هذا اللقاء بالايام والشهور والسنين؟!.