ستانلي كوبريك والسينما الجدلية

ستانلي كوبريك والسينما الجدلية

بشار كاظم
على الرغم من أنه كان من المخرجين المقلين في العمل , إلا أن ستانلي كوبريك ترك بصمة كبيرة وواضحة في عالم السينما وذلك لقدراته الإبداعية وبراعته في الإخراج , وذلك لما أثارته افلامه من جدل على نطاق واسع.ولد ستانلي كوبريك في مانهاتن , وعمل في بداياته كمصور فوتوغرافي في مجلة (لوك) الأميركية فكان بارعاً في التصوير الفوتوغرافي مثلما هي براعته في لعبة الشطرنج.

قام في بدايات شبابه بإخراج وإنتاج بعض الأفلام الوثائقية وهي (يوم النزال 1951) (القديس الطائر 1951) (الملاحون 1953) قبل أن يجد أول فرصة في إخراج الأفلام الروائية من خلال فلم (الخوف والرغبة 1953) ثم تبعه بفلم (قبلة القتل 1955) وكانت هذه بدايات بسيطة , وليست ذات جودة , لكنها بدايات رسمت ملامح فنان مبدع.

في عام 1956 إستطاع كوبريك بالإشتراك مع صديق منتج يدعى (جيمس ب. هاريس) بتكوين شركة إنتاج خاصة بهما , مما أتاح لكوبريك القيام بأول محاولة جادة وخطوة صحيحة في مشواره بإخراجه وإنتاجه فلم (القتل 1956) الذي يكاد أن يكون رائداً لطراز السينما المستقلة. وهو واحد من الأفلام البوليسية حيث قام كوبريك في هذا الفلم بتبديل وجهات نظر كل من أفراد العصابة التي قامت بالهجوم على إحدى ساحات سباق الخيل بأن صوّر نفس المشهد عدة مرات ,كل مرة من زاوية مختلفة, مع إدخال تغييرات تدريجية متعاقبة. فكان هذا الأسلوب من الأساليب الإستثنائية التي جذبت إنتباه مشاهدي ونقاد هوليود.
بعد هذا النجاح إستطاع كوبريك أن يحقق نجاحاً أكبر , وأن يثبت نفسه بين مخرجي هوليود المبدعين من خلال فيلم (دروب المجد 1957) من بطولة النجم كيرك دوغلاس (والد النجم السينمائي مايكل دوغلاس). في هذا الفلم بدأ مشوار كوبريك مع أفلامه الجدلية حيث منعت فرنسا عرض هذا الفيلم الذي إستوحاه كوبريك من أحداث حقيقية عن الإعدام الجماعي للجنود الفرنسيين ليكونوا عبرة لغيرهم خلال الحرب العالمية الأولى. إن الحظر الفرنسي لهذا الفيلم المناهض للنزعة العسكرية جلب شهرة أكبر لمخرجه ستانلي كوبريك ومؤلفه (همفري كوب).
بعد (دروب المجد) إستمر تعاون كوبريك مع كيرك دوغلاس كممثل ومنتج في الفيلم التاريخي الشهير (سبارتكوس 1960) عن رواية الأديب (هوارد فاست) وهو فيلم تاريخي ذو طابع ثوري يبين ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس ضد طغيان رما. بعد الشهرة والنجاح لفيلم (سبارتكوس) إنتقل كوبريك للعيش في لندن وعاش فيها بقية حياته ليقدم سبعة افلام خلال ثلاثين عاماً، وبالرغم من كونها حصيلة قليلة إلا أن كل فيلم من هذه السبعة كان علامة بارزة في عالم الفن السابع تستحق الوقوف عندها.
*لنــدن
إستهل كوبريك مسيرته في لندن بإثارة الجدل من جديد من خلال فيلم (لوليتا 1962) عن رواية الروسي (فلاديمير نابكوف) وهو أول عمل مع الممثل بيتر سليزر وجيمس ماسون وسو ليون. وهو فيلم يتكلم عن علاقة كاتب كهل مع مراهقة. اثار الفيلم ضجة كبيرة لفكرته الجريئة والمشاهد الجنسية التي يحتويها.
ثم تلاه كوبريك بفيلم (دكتور سترينجلوف: كيف تعلمت التوقف عن القلق وأحب القنبلة 1964) عن رواية (الإنذار الأحمر) وهو من بطولة بيتر سليزر ايضاً , والفيلم من نوع الكوميديا السوداء يصور فيه حالة الرعب التي تسببها الحرب النووية.
إنقطع كوبريك خمس سنوات ثم عاد برائعته السينمائية (أوديسا الفضاء: 2001) عام 1968 بسيناريو قام بوضعه بالتعاون مع (آرثر س. كلارك). أسس هذا الفيلم لإستخدام الرموز والمؤثرات الصورية التي وظفت فيه بصورة خيالية، عن طريق طرح العلاقة الجدلية بين الإنسان والآلة وبدايات تكوين الدوافع البشرية.
أثبت كوبريك من خلال هذا الفيلم إنه مدرسة مستقلة في تاريخ السينما. إستمر كوبريك بالتصاعد وإثارة الجدل من خلال فيلم (البرتقالة الآلية 1971) عن رواية لأنطوني بريغس بنفس الإسم ويعالج هذا الفيلم موضوع العنف ونموه والنزعات التخريبية السادية التي تنمو مع تقدم البشرية. حصل الفيلم على تصنيف (X) وهو تصنيف لأفلام تحتوي على مشاهد جنسية وعنيفة مبالغ بها. وتدخلت الكنيسة لمنع عرض هذا الفيلم الذي ظل محظوراً لسنوات عـــدة.
بعد ذلك قام بإخراج فيلم (باري لندون 1975) عن رواية كلاسيكية لثاكري وهو من بطولة راين أونيل ويتكلم عن الأجواء البرجوازية في القرون الوسطى. ثم قام كوبريك بتحويل رواية لستيفن كينغ بعنوان (البريق 1981) الى فيلم مثل فيه جاك نيكلسون دور كاتب ينعزل وزوجته وإبنه في قصر مهجور فيصاب بحالة من الفصام ويحاول قتلهما. بعدها قام بإخراج فيلم (طلقة بغلاف معدني1987) بالإستناد الى رواية (العائدون قريباً) لغوستاف هاسفورد وفيه تصوير بارع لأجواء الحرب الأميركية – الفيتنامية.
توقف بعد ذلك لمدة طويلة جداً , ثم عاد الى العمل بفيلمه (عيون مغلقة بإتساع 1999) الذي جمع النجمان توم كروز وزوجته , في ذلك الوقت , نيكول كيدمان وهو يصور أجواء العربدة و الليل في نيويورك. لكن خبراً حزيناً قد خيم على أجواء الفيلم إذ مات ستانلي كوبريك بالسكتة الدماغية في 7/3/1999 وقبل أن يحضر إفتتاح هذا الفيلم.
بالرغم من هذه السيرة المليئة بالإبداع والإبتكار إلا أن ستانلي كوبريك لم يحصل على جائزة الأوسكار كأفضل مخرج - مثله مثل مبدع آخر هو ألفريد هيتشكوك - , وعلى الرغم من الإتهامات التي وجهت له بالإنعزالية والتنسك والسوداوية إلا إنه يعتبر واحداً من أعظم مبدعي السينما وآخر عباقرتها.