كلود سيمون.. جماليات الأدب عصية على الترجمة

كلود سيمون.. جماليات الأدب عصية على الترجمة

«أكتب كتبي كما تصنع لوحة، وكل لوحة تأليف قبل كل شيء"هكذا قال الروائي كلود سيمون المولود عام 1913 لأبوين فرنسيين في مدغشقر، لكنه تعلم في فرنسا، وبدأ الكتابة في الأربعينات، بعد أن تعلم الرسم، وقد ترك هذا أثراً كبيراً في حياته، كما أنه عاش أحداثاً مهمة في حياته، فقد كان في إسبانيا إبان الحرب الأهلية الإسبانية، وخدم في بداية الحرب العالمية الثانية،

وأسر في عام 1940، وهرب من الأسر في العام نفسه، وكان لهذين الحدثين الأثر الكبير في روايته «حديقة النباتات».
ينتمي كلود سيمون إلى مجموعة كتاب الرواية الجديدة في فرنسا، التي كان من أعلامها: آلان روب جرييه، ناتالي ساروت، مرجريت دورا، ميشيل بوتور، جان ريكاردو، حيث تمثل الرواية الجديدة رفضاً للتقليد الواقعي للقرن التاسع عشر، ولتمثيل سياق تاريخي واجتماعي في النص الروائي الذي يخلق واقعه بنفسه، والرواية الجديدة التي ترفض التأثير في القارئ، تجعله شريكاً فعالاً عبر فعل القراءة، ويتميز كلود سيمون بتقنية روائية خاصة به وأصيلة، استحق من خلالها جائزة نوبل عام 1985، ومن أهم رواياته «الغشاش الحبل المشدود، درس أشياء، الدعوة، القصر» وغيرها من الروايات، إضافة إلى خمسة كتب في الفن، جاءت تعليقاً على رسوم وصور فوتوغرافية له ولغيره من المبدعين. قبل أن يترجم أنطون حمصي رواية كلود سيمون «حديقة النباتات"إلى العربية، كان يرى أن ترجمة سيمون مغامرة غير مأمونة العواقب، تؤدي بالمترجم إلى مسالك وعرة، يتعثر فيها ويتهدده الانزلاق، في كل خطوة يخطوها، وكل الذين يعرفون كلود سيمون كانوا على حذر من المبادرة إلى ترجمته، أولهم وعلى رأسهم، المفكر الكبير أنطون مقدسي، الذي هتف: «لا تقترب من كلود سيمون، إنه الكاتب الذي لا يترجم، من أراد قراءته يجب أن يتعلم الفرنسية، إن لم يكن يعرفها».
كان طه حسين لديه سابقة من هذا النوع، فحين قرأ وحلل قصيدة بول فاليري الشهيرة «المقبرة البحرية» قلب وجوه ترجمتها، وانتهى إلى التخلي عن المحاولة، ونصح من أراد قراءتها أن يقرأها بالفرنسية «لكن ما وجه الشبه بين فاليري وكلود سيمون؟ يقول حمصي: لعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن كلاً منهما قمة في مدرسته، فاليري في القصيدة الرمزية، وسيمون في الرواية الجديدة، التي استحق على ريادتها جائزة «نوبل"في الأدب، وبعيداً عن هذا التشابه الشكلي، يشترك فاليري وسيمون في أن كلاً منهما كتب بلغة خاصة به، هي الفرنسية، لكنها مطبوعة بطابعه، مطوعة لتحقيق أغراضه الفكرية والجمالية.

يوضح حمصي أن كلود سيمون - من حيث الشكل - تتناوب نصه اللغة العادية، والأسلوب الشائع، الذي ينتهجه عامة الكتاب المباشرون في قص الحدث الذي يتناولونه، وأسلوب ولغة خاصان به، هما جوهر كل صعوبته وتعقيده، لكن لسيمون طابعه الخاص حتى حين يكتب بالأسلوب الشائع، فهو لا يحترم التنقيط، فكثيراً ما يتفق أن يرد ما يقرب من خمس صفحات دون نقطة واحدة، ويكاد سيمون أن يبخل فيها بالفاصلة، ولا وجود إطلاقا لنقطتين في معرض القول، أما الأقواس فلها سمتها الخاصة في نص سيمون، فهي أولاً طويلة في كثير من الأحيان، فيبدأ الكاتب مقطعا يفتتحه بعبارة، أو غالبا بجزء من عبارة، ليفتح قوسا، يستغرق عدة صفحات قبل أن يغلقه، ويعود إلى تكملة بقية العبارة التي بدأها، وفي كل مرة تتداخل أقواس فرعية، ضمن القوس الأساسي، وتقتحم مجراه، بحيث يحتاج القارئ إلى أكثر من مراجعة لرد وصف أو تعليق إلى القوس الذي ينتمى إليه.
أما حين يكتب سيمون باللغة الخاصة به، فإن المسألة تبلغ الذروة في التعقيد، فهو يتعمد بين حين وآخر كتابة مقطع، يطول أو يقصر، مؤلف من كلمات، بعضها مرصوف إلى جانب بعضها الآخر، فيها الأسماء والصفات والألوان تتواصل إلى نهاية المقطع، دون نقطة أو فاصلة، دون أحرف ربط، ودون أفعال تساعد على فهم الصلة بينها، وتكون مهمة القارئ هنا أن يرتب قطع اللغز، بحيث تشكل شكلاً كاملاً، وهذه القطع متعددة في أشكال ترتيبها الممكنة، بحيث يمكن لكل قارئ أن يرتبها بصورة تختلف عن قارئ آخر يختلف، بدوره مع قارئ ثالث، وهكذا دون أن يكون هناك بالضرورة مخطئ ومصيب، بين الذين حاولوا تجميع قطع اللغز، ولعل كلود سيمون يريد، دون أن نؤكد ذلك - الكلام لأنطون حمصي - على الرغم من كل ما يؤيد هذا الرأي، أن ينتزع القارئ من عادة القراءة الكسول، ليشركه في تأليف النص، ليجمع بين متعة القراءة ومتعة التأليف والكشف.

عن جريدة تشرين