منهجية عبد الجبار الرفاعي: قراءة في الدين والظمأ الانطولوجي

منهجية عبد الجبار الرفاعي: قراءة في الدين والظمأ الانطولوجي

فالح مهدي
كتب الكثير عن عبد الجبار الرفاعي، وهو يستحق دون ريب عبارات الثناء والتقدير التي وردت في كل تلك الكتابات. لم تكن تلك الكتابات بدافع الإطراء والمديح لذلك الرجل دمث الأخلاق والمفكر الذي ينزع إلى انسنة الدين، إنما كانت تتلاقى مع أطروحات الكتاب

في قراءتي هذه سأغرد منفرداً اعتمادا على منهجي الذي يدرس الظاهرة الدينية على ضوء المكان. من المؤكد إنني لم اقرأ كل ما كتب عن عبد الجبار الرفاعي، لكنني قرأتُ ما كتبه عنه أصدقاؤه وتلامذته ومريدوه وما قرأت من نقد ومراجعات لعمله.
من البداية يضعنا عبد الجبار الرفاعي ودون مواربة أمام الإشكالية الأساسية، لهذا الكتاب والمتمثلة بالفقر الوجودي لعالم لا دين فيه. ففي الصفحة 6 يذهب إلى التالي« الفقر الوجودي حقيقة يتفق عليها الكثير من الفلاسفة والمتصوّفة والعرفاء، لكن ربما يقال: لماذا الدين هو سلّم الكمال لا غيره؟....». ويستمر في طرح الأسئلة. وفي نفس تلك الفقرة يتساءل عن دور الفنون والآداب في الحد من ذلك الظمأ، ويشير إلى إن المعرفة والشوق إلى الإبداع ذات أهمية قصوى لكي يحس الكائن الحي ان لوجوده معنى.
وعلى ضوء ثقافته وسعة افقه لم ينكر أن لكل ذلك أثرا في أغناء الوجود الإنساني، أنما وفي نفس تلك الصفحة يؤكد: «لكن ذلك كله أيضا لا يغنيه عن الحاجة إلى الدين، ولا يكون بديلاً عن الدين،وإن قدّم له شيئا مهما يهبه الدين."
فكما أشرت ليس من أخلاق عبد الجبار الرفاعي المخاتلة واللعب بالكلمات فهو أمين اشد الأمانة إلى ما يعتقد انه صحيحاً. لذا فأن جوهر كتابه مع تعدد مقالته يصب في الدفاع عن الفكرة القائلة ليس هناك من حياة تستحق العيش دون إيمان ودون دين.
تلك المقولة تجد صداها وجوهر وجودها في الحيز العمودي، ذلك إن الدين كمفهوم، وفهم للكون، تفسير وتأويل وإيديولوجيا، طقوس ومعابد من نتاج ذلك الحيز. أما الحيز الأفقي فهو فقير في إنتاج عقائد ماورائية. ما موجود من عقائد واديان في العالم المعاصر هي من بنات الحيز العمودي.
عبّر الكاتب بأمانة عن ثقافة ذلك الحيز والذي هو جزء منه. لذا فأننا لن نجد صعوبة في فهم عبارة الدين سلّم الكمال، ولا يمكننا إن نتخيل أمراً أخراً في ضوء ثقافة المكان التي أنتجت الدين.
ثقافة عبد الجبار الرفاعي الواسعة والمنفتحة على كل النوافذ، لم تمنعه عند الكلام عن الإنسان، من اللجوء إلى التعميم، إذ نجد في الصفحة 8 ما يلي: « الإنسان يبحث عمّا يتجاوز الوقوف عند سطوح الأشياء والاكتفاء بظواهرها.... انه يفتش على الدوام عمّا هو ابعد مدى... انه في توق لاكتشاف"معنى المعنى"...»!
عن أي إنسان يتحدث عبد الجبار الرفاعي هنا؟ فهو لم يأتي الى هذه الدنيا يوم أمس بل إن تجربته في الحياة وفقر حال والديه وضعه أمام سكتين، إما إن ينتقم من ذلك الماضي ويتحول إلى كائن رخيص أو إن يترفع عن كل ذلك. ودون تردد اختار السير على السكة الثانية حيث تجد في سلوكه حبه للإنسانية، ترفّعه، موضوعيته وقدرته الهائلة على التسامح والتسامي. انه على دراية من إن عبارة إنسان تضم تحت جناحيها مشارب، واتجاهات، ميول ومواقف، أذواق وحساسيات.. الخ، بيد انه لم يتوان من استخدامها بمعناها المطلق.
عندما تلتقي به يذهلك حكمه على من يعرفهم، دون إن يتخلى ولو لهنية عن موضوعيته ورقته فيقول بان فلان متمكن بيد انه وعر في سلوكه، وأن فلان مع إن الدنيا فتحت له أبوابها إنما بقى يعاني من عقدة نقص الأقليات...الخ.
استخدامه لمفردة إنسان وعلى ذلك النحو غير دقيقة في تقديري، لا اجتماعيا ولا انثروبولوجياً، ولا ثقافيا ولا نفسيا. عبد الجبار الرفاعي على دراية ان الناس مشارب واتجاهات، وليسو سواسية كأسنان المشط: لا في سلوكياتهم، ردود أفعالهم، اندفاعاتهم، رهافة حسهم، تألق ضمائرهم، استعدادهم لبيع أنفسهم...الخ
لم يكتف بذلك بل ذهب الى مقولة متمثلة بشوق ذلك الإنسان في البحث عن معنى المعنى! لا اعرف ماذا يعني الرفاعي بمعنى المعنى، ذلك ان البحث عن المعنى لوحده أمر شاق من الناحية المنهجية، فما بالك بمعنى المعنى؟
منهجه ذاك أدى به إلى إيجاد مصطلح أطلق عليه"الأنا الخاصة"،إذ يبدأ القسم الأول من كتابه بتعريف تلك الذات، وعلى ضوء منطقه وعقلانيته، يقوم بتعريفها على النحو التالي: « وإنّما نريد بها الذات الفردية والهوية الشخصية والتي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل انسان ذاته ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً..."ص 15.
في تقديري إن الذات والتي بطبيعتها شخصية ليست الهوية التي أطلق عليها الرفاعي"شخصية"، ذلك أن مفهوم الإنسان عن نفسه يبدأ وينمو ويتفاعل وينضج على ضوء تجاربه ومراراته وخيبات أمله أو إحساسه المرضي والنرجسي المتمثل بتضخم تلك الذات. هذا الشعور ينبع من أدراك الفرد لوجوده وكينونته. البعض يعرّف الذات باعتبارها إناءً يستقر فيه الوعي أو الشعور والاستجابات لخبرات وتجارب تنطوي على ألمّ وسرور. عملية التفاعل تبدأ عندما يقوم المرء بوعي تلك الذات كموضوع أي إدراكه لنفسه بنفسه وتقيمّه لها أو الفكرة التي يكونها الفرد عن نفسه.
إما الهوية، فهي كموضوع مستقلة عن الذات ومرتبطة بالثقافة والمكان، التاريخ والجغرافية، التقاليد والعادات. وتعرّف باعتبارها مجموعة القيم والمثل والمبادئ التي تقوم عليها الشخصية الفردية والجماعية. فبدون هوية لا يستقيم أمر الذات، إذ إن هناك علاقة ديالكتيكية بين المفهومين ولا يقوم احدهما دون الأخر. هوية الفرد هي لغته وثقافته وتاريخه. الهوية مرتبطة على نحو لا فكاك منه بمفهوم الثقافة.
ولا يغفل الكاتب هذا المفهوم، فيبذل جهداً واضحاً لتطويره، فنجده يقول في الصفحة 16 « لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقة إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقق من دون فعل... الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات...»
وقبل الحديث عن الحرية، ينبغي الإشارة إلى إن الذات البشرية لا تتحقق دون ان يكون لها وجوداً، لذا فالأصوب هو أن الحياة الإنسانية لا تبدأ إلا عند وجود تلك الذات اولاً وتحققها ثانياً.
لا يكتفِ عبد الجبار الرفاعي بذلك، بل ربط ما بين الذات والحرية وتوصل إلى نتيجة مفادها « وحيث لا حرية تنطفئ تلك الذات». أذا أخذنا تلك المقولة العميقة على نحو مطلق، نجد أنها سليمة. بيد إننا إمام كاتب مؤمن وهو يعلم قبل غيره إن الإيمان والدين لاسيما في الأديان التي لم تخرج من ماضيها ولم تقم بقراءة جادة ونقدية لكثير من الطقوس والمفاهيم، يحد من تلك الحرية.
الكاتب يصّر على مسألة الشعائر والطقوس، إذ يذهب في الصفحة 73 إلى التالي « لا يتكرس الاعتقاد، وينتج الإيمان، من دون العبادة والطقس الخاص بهذا الدين. ليس هناك اعتقاد، وإيمان منبثق عنه، من دون تقليد محدد للعبادة. لا إيمان بلا حدود وعبادات وشعائر وسنن مرسومة. لا إيمان إسلامياً بلا صلاة إسلامية... ».
في هذه النقطة بالذات، اختلف كلياً مع عبد الجبار الرفاعي.، في قناعاتي أن الدين منتج من المنتجات الأساسية للحيز الدائري. الطقس فعل إيديولوجي، فرضته العقلية الدائرية، قائم على المقايضة"أعطني لأعطيك". ولو نظرنا الى ثقافة عصر الصيد والعصر الزراعي والذي لا زال قائماً، نجد أن مفهوم المقايضة جلي ومن الأسس الجوهرية لمفهوم الدين والإيمان(في كتابي القادم: البحث عن جذور الإله الواحد. نقد الأيديولوجية الدينية، دراسة عن هذا المفهوم).
عبر مفاهيم الطقوس والصلوات يقوم عبد الجبار الرفاعي بإعادة بناء الإله الدائري. أله الكون لا يحتاج إلى طقوس وعبادات.
الرفاعي على علم من أن التفكير يتوقف عن ممارسة نشاطه عندما تغلق الأسئلة المفتوحة، وهو على يقين من انهيار الايدولوجيا إمام تلك الأسئلة (راجع ص 122)، أنما لا يعتبر الطقوس والصلوات فعلاً إيديولوجيا، بل من ماهية الدين وجوهره.
ولإثبات وجهة نظره يخصص صفحات معظم هذا الكتاب للتفريق بين الدين والأيديولوجيا، ففي الصفحة 148 من الفصل المخصص لنقد شريعتي (103-150) نجده يقول « إنّ ما أفضت إليه ادلجة الدين هي عبودية الإنسان للأيديولوجيا واستلاب الأيديولوجيا لروحه وقلبه وعقله وإقحامه في أحلام رومانسية ووعود خلاصية موهومة»,
لو كان الكلام متعلق بالأيدلوجيات فحسب لأعلنت إعجابي بذلك الفهم المتميز، انما يفرق الرفاعي بينها وبين الدين. في حين لا يستقيم أمر أي عقيدة في تقديري دون ادلجة وطقوس وعبادات، في مجال الدين، مسيرا ت ودعايات، إعلام وثقافة، كبش فداء (الطقس ديني أنما حولته الفاشية والنازية والستالينية إلى طقس علماني وذلك بإيجاد أعداء وتشخيصهم ومن ثم تصفيتهم، وقد استخدم صدام حسين هذا السلاح على نحو مفرط).
لقد أصاب الهدف بتفكيك فكر شريعتي ونقد ما جاء فيه، ذلك إن شريعتي يفرق بين التشيّع العلوي والتشّيع الصفوي وهو مصيب في ذلك بيد ان تشّيع علي لايمكن له ان يقف على قدميه دون أيديولوجيا. كل ما كتب باسم هذا الرجل هو إيديولوجيا لا غير.وأكاد أن اكون على يقين من اتفاق الرفاعي معي في هذه النقطة بالذات.
الدين بدون إيديولوجيا لا يمكنه أن يستمر على قيد الحياة.الدين كما يؤكد الرفاعي نفسه طقوس وعبادات، وهذا يعني الخضوع لمشيئة رب أو أرباب تحوكها المخيلة الدينية.
الدين يولد إيديولوجيا، فهناك عقيدة (تتحول إلى كتاب) وهناك رب مهمته الأولى إنقاذ من يؤمن به. في كل العقائد (توحيدية أم تعددية) يقوم الدين بصناعة أحلام رومانسية (ينسبها الرفاعي الى الأيديولوجيا) ويقوم بنشر وعود خلاصية موهومة، إذ تنشئ تلك الأحلام والوعود من لحظة قيام ذلك الدين، أي لحظة التأسيس. البناء الأيديولوجي لا يبني صروحه بدون لحظة التأسيس تلك.
كما ان الرفاعي يقيم علاقة بين الدين والأخلاق، مستندا في ذلك على نفي الفيلسوف ايمانويل كانط «الاعتقاد النظري بالله، لكنه رأى الاعتقاد الأخلاقي به راسخاً لا يتزعزع» (ص170) ومن ثم يؤكد وفي نفس تلك الصفحة « أن الأخلاق إنما تقود على نحو لابدّ منه على الدين.... الإنسان لا يتحلى بالأخلاق لأنه متدين، انما يتدين لآنه اخلاقي»
لا اعلم كيف توصل الرفاعي إلى تلك الإحكام المطلقة! من اين جاءة اليقين من أن الإنسان يتدين لأنه إخلافي؟
عند التأمل ودراسة ما قام به عدد من أهم الباحثين في موضوع فلسفة القانون، توصلنا الى قناعة من إن وجود الأخلاق أملته ضرورات العيش المشترك. وبما ان الإنسان كائن اجتماعي، لذلك اوجد عادات وتقاليد أصبحت ملزمة بمرور الزمن، كاحترام الأخر، رعاية اليتيم ، مساعدة الفقير، احترام الأبويين الخ. هذه القواعد وغيرها كثير لم تنشأ بفضل الدين بل اقتضتها الضرورات الاجتماعية والعيش المشترك.
كل ما فعله الدين هو انه احتضن تلك المبادئ السامية. ولو عدنا الى قانون حمورابي مثلاً باعتباره الأكثر كمالاً في قوانين العالم القديم، فسنجد أن حمورابي اوجد قانونه لأن ربه شمش طلب منه ذلك، إنما وعند التدقيق نجد ان حمورابي قام بتقنين ما وجد في قوانين السومريين قبله بمئات السنين. بل ان السومريين أنفسهم قاموا بصياغة ما اعتاد عليه القوم في تلك اللحظات من التاريخ الإنساني.
لا ادري إذا كان يعلم الصديق عبد الجبار الرفاعي من أن أكثر من ثمانين بالمائة من السويديين لا يؤمنون بوجود إله خالق ولا يؤمنون بأي دين، بيد أنهم من أكثر شعوب الأرض خلقاً!
اللحظة الانطولوجية أو الوجودية، تلك التي تتساءل عن جوهر الحياة الإنسانية وعن اصل الوجود ولم نحن هنا والى اين سنذهب مثلاً،لا علاقة لها بالأخلاق البتة، بل بحساسية الإنسان ورهافة حسه والى بيئته الثقافية والى حيزه الذي ولد وترعرع فيه.
قبل أن انهي ملاحظاتي هذه بودي الإشارة إلى احد فصول الكتاب الذي يأخذ بتلابيب النفس نتيجة صدقه وعفويته وعمقه، واقصد بذلك الفصل الثاني. فتحت عنوان نسيان الإنسان(راجع الصفحات 29- 101) دعانا الرفاعي لتلك الرحلة الممتعة في ماضيه، في طفولته، في عذاباته، في فقر أهله، في موت أبيه المبكر. هذا الفصل يصلح ان يكون عملاً روائياً مستقلاً فهو ممتع للغاية.
وختاماُ لم يبق إمام الرفاعي في تقديري سوى هدم الأسوار التي بناها بين الدين والايدولوجيا، ليرى بأم عينيه ان ذلك التفريق هو الوهم بعينه.