فاتن حمامة على كرسي الاعتراف..انا كما لايعرفني الناس

فاتن حمامة على كرسي الاعتراف..انا كما لايعرفني الناس

انا خيالية جدا، وعاطفية جداً، وواقعية جدا، وغيورة"بس مش جدا"ومسرفة (برضه مش جدا) وكذابة، من غير سوء نية، وحرامية، وأسال عني"الفكهانية"
طفلة صغيرة (مقروضة) في وجهها قسمات ملاك، وفي عينيها براءة كتكوت، كانت تقف هادئة وكان"الفكهاني"المجاور لبيتها في حي السيدة زينب، وفجأة وبحركة لا شعورية، تغافل"الفكهاني"وتخطف خيارة او مشمشة، ثم تضع ذيلها في اسنانها وتنطلق هاربة ضاحكة، سعيدة بالمسروقات التي ظفرت بها.

ولكنها لم تكن تنعم بانتصارها طويلا، فسرعان ما يتصافح وراءها اخوانها الذين يلعبون على مقربة منها قائلين:
- الحق يا عم محمد، فاتن سرقت خيارة طبعا عرفتم الان ان السارقة هي انا"فاتن حمامة"وطبعا لم يحدث ان امسكني عم محمد عقب مغامراتي المماثلة، فقد كنت سريعة الجري كالقمر الروسي.
ولست ادري ما الذي يدفعني لسرقة"الفكهانية"، او الخيارة والمشمشة بالذات.
هل تدرون انتم يا من عرفتموني على الشاشة طفلة وصبية وشابة وزوجة واما؟
لقد عرفتم عني كل شيء، كل اطوار حياتي، بل لقد قدمت لكم طفلي مصورا في الصحف قبل ان يراه ابوه، اي اننا لسنا غرباء عن بعضنا، فهل لكم ان تفسروا لي كيف كنت شقية وعفريتة وحرامية كمان؟
ثم ان ما خفي في حياتي كان اعظم، وهذه هي العينة:

انا خيالية جدا
هذه صحيح، واضيف اليه ايضا انني كنت مغرورة، و"قنزوحة". حدث وانا في الخامسة من عمري، ان اصطحبني والدي الى السينما، وكانت حفلة العرض الاولى لفيلم تتولى بطولته السيدة آسيا، وتصادف ان كانت جلستها في"لوج"يقع في مواجهة مقاعدنا. وعندما انتهى الفيلم انطلقت الاكف والاصوات من المتفرجين تحيي نجمة الفيلم، ووقفت انا ايضا على الكرسي، لا لتحية الفنانة كغيري من المتفرجين، وانما لأريهم نفسي بانني انا المقصودة بهذا الهتاف والتصفيق، ليست السيدة آسيا.
فقد عشت في الفيلم بخيالي حتى امنت بانني انا الممثلة الاولى فعلا، كما كنت اجد اني بطلة جميع الافلام التي شاهدتها بعدئذ. وكان دوري في كل منها يتغير حسب الظروف والأحوال. فاذا كانت البطلة مغنية كنت مغنية مصر الاولى، واذا كانت راقصة باليه كنت انا راقصة بالية امشي على"طراطيف"اصابعي، بينما العيون تلتهمني من كل اتجاه وظللت اعيش في خيالي الجميل الذي حتى ظهرت في فيلم"يوم سعيد مع عبد الوهاب واصبحت فنانة، مع ان الفن لم يطرق باب اسرتنا من ايام سيدنا ادم الى ان ظهرت فاتن، التي هي انا.
قلت اسعدني الحظ بالظهور في"يوم سعيد"وهذا حق، لان هذا الفيلم فتح لي الباب على مصراعيه، ولو ان الحظ وقف عند الباب، وتركني اصنع مستقبلي بيدي وبتشجيع الجمهور لي، ولهذا فانني لم اخش المنافسة اطلاقا – وبيني وبينكم – انا كنت في صغري مغرورة حبتين اما اليوم فانني عندما افكر قليلا، اراني اعترف بيني وبين نفسي بانني فعلا اخشى المنافسة، اذ ظهرت الفنانة التي تمتاز بموهبة تفوق موهبتي في التمثيل. ولكنني والحمد لله لم اقابلها بعد.
الشهرة ستار يظهر العيوب
واعود الى فيلم"يوم سعيد"فاذكر انني حصلت منه على اول اجر تقاضيته في حياتي، وكان عشرة جنيهات ومجموعة من اللعب، ولم تهمني العشرة جنيهات طبعا، وانما كان همي هو الدمى والعرائس.
ولم تكن اللعب هي كل ما خلفه لي فيلم"يوم سعيد"وانما خلف عندي ايضا الغرور.
والحق انني كنت معذورة في غروري وقتئذ ولكم ان تتصوروا طفلة لم تتجاوز الثامنة من عمرها، تظفر باعجاب الناس، وتصبح فجأة مادة لسمرهم واحاديثهم.
ولهذا فقد قاومت بشدة فكرة اشتغال ابنتي"نادية"بالتمثيل في سنها المبكرة هذه، ومع ذلك فقد ظهرت هي في فيلم"موعد مع السعادة"الذي انتجته منذ اعوام، وما كادت ترى نفسها على الشاشة حتى بدأت تعامل زميلاتها في المدرسة معاملة من هم اقل منها اهمية، كما حدث لام لها من قبل.
فعندما كنت ادخل المدرسة، كانت زميلاتي الصغيرات يتدافعن حولي وعلى لسان كل واحدة منهن سؤال عن هذا الممثل او ذاك، وكان غروري بابي على ان اجيب بانني لا اعرف الا الممثلين الذين ظهرت معهم في"يوم سعيد"ومع ذلك كنت اهز راسي واقول لهن ان هذه اسرار لا استطيع ان ابوح بها، وان وقت اذاعتها لم يحن بعد. وكانت لهجتي التي اصطنعها توهم الصغيرات بانني عليمة ببواطن الامور.
وكان خيالي الخصب يساعدني على التمادي في هذا الغرور، حتى تصورت يوما ان جميع الناس اغبياء، وانني وحدي من تفهم كل شيء.
ثم ما لبثت بعد ذلك حتى عرفت ان الشهرة ليست هي كل شيء، وانها لا تقوى على تغطية عيوب صاحبها، بل هي ستار شفاف يبرز العيوب ويضخمها في عيون الناس.

سعادتي في يوم الجمعة
ومع هذا فانا عاقلة جدا، واحرص كل الحرص على حياتي الزوجية، وعندي من معرفتي السابقة في الزواج خبرة كبيرة، حرصي على حياتي العائلية يجعلني بالتالي احرص على سعادة اولادي وراحتهم، وقد اكون مقصرة في حقهم بعض التقصير، لكنني ارى نفسي بان هذا التقصير مبعثه حرصي على ان أوفر لهم حياة طيبة سعيدة، وقد صنعت لنفسي دستورا لا احيد عنه ابداً، وان كنت مشغولة بعملي.
ففي يوم الجمعة من كل اسبوع تراني اعطي المربية اجازة، واتفرغ انا لرعاية اولادي رعاية تامة، فالاعبهم والاطفهم واقضي لهم حوائجهم، كأي ام شديدة الشغف باولادها، وقد ابالغ احيانا، بسبب انصرافي عنهم مضطرة بقية ايام الاسبوع، واخشى عليهم من الحسد فاطوف حولهم بالبخور سبع مرات، فاضع لهم الخرز الازرق في ثيابهم، لحمايتهم من العين، ومن شر حاسد اذا حسد.

انا مسرفة وكذابة
وماذا ايضا في حياتك يا فاتن؟ ماذا؟
لقد قلت لكم انني خيالية جدا، وعاطفية جدا، وواقعية جدا، وغيورة لكن بعقل، و"حرامية"صغيرة.
آه، نسيت اقول لكم انني مسرفة ايضا، لكن في حدود المعقول، فاذا لا ارمي فلوسي في الهواء، لكنني احب ان ابحبح على نفسي بقدر الامكان.
ثم انني لست انانية، وانما ابذل كل جهد حتى اوفر السعادة لكل من حولي، ولو كان هذا على حساب نفسي.
وبيني وبينكم انا"باكدب"، مش عليكم والنبي، وانما على الاخرين، ولكنه كذب ابيض، لا يترك جروحا ولا ايذاء، ولقد مرت بي في حياتي فترة كنت اضطر فيها الى الكذب على نفسي وعلى الناس ايضا، حتى اريح واستريح.
اظن انني قلت لكم اشياء كثيرة عن نفسي، بمنتهى الصراحة، وافشيت كل ما كنت ادفنه في صدري، ولكن بقيت لي ملاحظة صغيرة قوي قوي، تضايقني قوي قوي ايضا، ساقولها لكم لكي استريح.

الجميع يضايقنا والحكومة تكرهنا
هناك فئة من المجتمع ما زالت تنظر الى الممثل او الممثلة على انه لو انها عجينة اخرى دون عيجنتها، ومن هذه الفئة السادة اعضاء مجلس ادارة النادي الاهلي.
تصوروا انني قدمت لهم طلبا لكي اتشرف بعضوية ناديهم، كأية مواطنة مصرية تتمتع بهذا الحق، وانهم رفضوا طلبي بحجة انه ليس لديهم اماكن خالية!
اهذا كلام؟
واعضاء مجلس ادارة نادي الجزيرة ايضا لقد تقدمت لهم بطلبي، ثم فهمت منهم انهم لا يرتاحون الى وجود اهل الفن بين زرمتهم الحقيقة انني تأثرت جدا من هؤلاء الناس، لا لنفسي، وانما اسفا على اولئك الذين يفكرون في منتصف القرن العشرين بعقلية اوائل القرن التاسع عشر، ايام"بمبة كثر"و"خوخة"و"الكلوبانية".
وكان عزائي في هذا ان كرمتنا الحكومة، نحن الفنانين، ومنحتنا الاوسمة والنياشين، واختارتني ضمن وفد مصر في مؤتمر التضامن الاسيوي الافريقي الذي عقد في القاهرة، وانا فاتن حمامة.. الممثلة!.


المصـــــور/ آذار- 1956