تشايكوفسكي.. الحياة تتنوع كالموسيقى والأسرار هي المبدعة الأولى

تشايكوفسكي.. الحياة تتنوع كالموسيقى والأسرار هي المبدعة الأولى

سلمان كاصد
هل ثمة ارتباط بين الموسيقى والأدب، هل هما عالمان مختلفان أم أنهما يصبان في نهر واحد هو نهر الإبداع واللذة اللا محسوسة؟
منذ فجر التاريخ كان الإنسان يسمع الأصوات فيطرب لها، كان يسمع الكلمات أيضاً فيتماهى في التغني بها، كان يطلق أصواتاً، بل يصنعها حتى أنه اهتدى إلى الموسيقى. كل ذلك قاده إلى أن يصنع آلاته وأن يجوِّد بها، ويتفنن في روحها الحزينة، المفرحة، الصادمة، الرقيقة، حتى تراه قد اكتشف المئات من الآلات الموسيقية التي ظلت بعضها أسيرة الجماعات والشعوب ضمن موروثها الفني بينما خرجت الأخرى من «عذريتها الجغرافية"لتصبح جزءاً من التراث الإنساني،

تعزف عليها شعوب الأرض جميعها حتى لتحسبها منتمية لمن يجيد العزف عليها. وصلت الموسيقى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الى أروع مجدها بما يطلق عليها اليوم بالموسيقى الكلاسيكية، إذ ألفت فيها روائع الإنسانية الكبرى وظهر من أقصى الغرب والشرق موسيقيون عظماء، استطاعوا أن يقدموا للبشرية منجزاً إبداعياً لا يضاهى. الموسيقى الكلاسيكية لم تعرف غرباً ولا شرقاً، إنما عرفت المبدع الذي استطاع أن يلونها وينهل من روحها الباذخة، ظهر بيتهوفن وموزارت وباخ وفيفالدي من غرب الأرض وظهر كورساكوف وتشايكوفسكي من شرق الأرض، فتعانق الشرق والغرب فوق موجة من اللحن البارع والفن الراقي. وربما يأتي اختيارنا لتشايكوفسكي بسب كتاب صدر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان «تشايكوفسكي.. سيرة ذاتية"للمؤلفة الروسية الكسندرا أورلوفا وهو من ترجمة سمير علي ومراجعة سلطان الخطيب. يقول تشايكوفسكي صاحب «كسارة البندق"و»بحيرة البجع»: «إن الاهتمام بموسيقاي سيثير الاهتمام بي شخصياً، وهي فكرة شديدة الوطأة، أعني فكرة أن القوم في يوم ما سيحاولون سبر العالم الخصوصي لأفكاري ومشاعري وكل شيء حرصت على إخفائه طوال حياتي لهي محزنة وغير سارة». ولكن ما الذي أخفاه تشايكوفسكي من حياته عن الآخرين ولم يرد أن يعرف مطلقاً؟
رحلة العمــر
ولد تشايكوفسكي 1840 في مدينة فوتكنسك في مقاطعة فياتكا، والأمر الوحيد الذي يعرفه أن جده لأبيه كان طبيباً وعاش في مقاطعة فياتكا. انحدر ايليا بتروفيتش تشايكوفسكي الأب من عائلة فقيرة من طبقة بلا أرض، وبعد تخرجه من كلية المناجم وهي الآن معهد بليخاتوف للتعدين عاد إليها مدرساً لسنوات عديدة لافتاً الانتباه إلى قابليته ليكون معلماً وإدارياً في الوقت نفسه، وفي عام 1827 أصبح مديراً للمصنع في فوتكنسك وهو منصب أدى إلى تحسينات عظيمة في ظروفه المالية. أما بيتر إليتش تشايكوفسكي الابن (7 مايو 1840 – 6 نوفمبر 1893)، فقد كان مؤلفا موسيقيا روسيا ويعد بطل تطور الموسيقى الروسية الحديثة. حتى السابعة من عمره كان مرتبطا بمربيته الفرنسية، وعندما بلغ السابعة بدأ دروسا منتظمة في عزف البيانو لمدة 3 سنوات رحلت بعدها العائلة الى مدينة بطرسبورغ «لينينجراد»، وهناك تولاه الموسيقي الكبير فيليبوف الذي وجد فيه تلميذا جديا ولكنه غير معجزة ولا خارق للعادة، وفي نفس الوقت الحقه أبوه بالمرحلة الابتدائية بمدرسة القانون، التي دخلها في سانت بطرسبرغ، والتي تخرج منها بعد 9 سنوات (1859) ليعمل كاتبا من الدرجة الأولى بوزارة العدل. كانت الموسيقى هي اقرب الأشياء إليه، ولكنه لم يكن حتى هذه المرحلة من حياته قد حقق شيئا في مجالها إلا أنه عندما بلغ العشرين بدأ يرتجل الحانا جميلة لإرضاء نزعات التأليف التي تفجرت فجأة، كما ألف العديد من رقصات البولكا والفالس. وفي خريف 1861 بدأ لأول مرة في دراسة نظريات التأليف الموسيقي بالفصول الموسيقية «كونسرفتوار». عندما بلغ الثالثة والعشرين 1863 كانت الموسيقى تأخذ كل وقته وفكره وكيانه، فاستقال من وظيفته وواجه حياته الجديدة كموسيقي محترف. ثم اتجه إلى دراسة الموسيقى في معهد الموسيقى بسانت بطرسبرغ من عام 1862 إلى 1865م. ماتت أمه بوباء الكوليرا، وفقد أبوه ثروته ولم يستطع تقديم أي معونة لابنه سوى الاقامة المجانية، فاضطر تشايكوفسكي الى اعطاء دروس خاصة. تخرج تشايكوفسكي من الكونسرفتوار في 1865، وكان العمل الذي قدمه في الامتحان النهائي هو تلحين «نشيد السعادة « للشاعر الألماني شيلر وهو النشيد الذي لحنه بتهوفن في ختام سيمفونيته التاسعة (الكورالية). بعد عامين من سفره لتدريس مادة الهارموني في كونسرفتوار موسكو كتب ثلاثة أعمال كبيرة اهمها: سيفونيته الأولى «أحلام الشتاء»، كما كتب يومياته التي نعرف منها انه كان يعاني من اضطرابات عصبية بسبب أزمات نفسية. وكان مصدر راحته هو العزلة والهروب الى الريف والهدوء. وفي صيف 1868 التقى بزملائه الخمسة الكبار وهم المؤلفون القوميون الروس الذين كانوا يدعون الى حركة قومية في الموسيقى وكان منهم المؤلف رميسكي كورساكوف وبالاكرييف. وفي سيموفينيته الثانية استعان بألحان شعبية أوكرانية، كما استعان بهذه الألحان في القصيد السيمفوني روميو وجوليت والتي أهداها الى بالاكرييف. وهذا العام 1868 شهد أيضا أول علاقة عاطفية لتشايكوفسكي، وكان ذلك مع نجمة الأوبرا الأولى في ذاك الوقت «ديزيريه ارتو"وكانت تكبره بـ 5 سنين وتعلقت به بشكل غير طبيعي، ولكن تشايكوفسكي تعلل بأنه يخشى على حياته الموسيقية من الزواج، وتزوجت بعد ذلك بعام. واصل تشايكوفسكي العمل وكتب الكثير من روائعه واهمها كونشيرتو البيانو رقم 1 وفي عام 1875 أحس تشايكوفسكي بالتشاؤم والاكتئاب الشديد ثم انهار عصبيا واضطر للسفر الى فيشي بفرنسا للعلاج، ومما زاد في تشاؤمه أن أعماله لم تلق أي نجاح في مختلف العواصم الأوروبية. كان تشايكوفسكي أول الموسيقيين الذين تلقوا تدريبا منظما في أساسيات الموسيقى وفي السادسة والعشرين من عمره عُين أستاذاً لتدريس الموسيقى في «معهد موسكو للموسيقى» من عام 1866 وحتى عام 1877 م. كانت بدايته الجدية في التأليف في عام 1866م، تطورت أحاسيسه وانفعالاته في هذه الأثناء خلال فترات طويلة من الإحباط النفسي، ومن المثير للعجب أنه قد ألف بعضا من أكثر مقطوعاته الموسيقية بهجة خلال هذه الفترة. ومن بين الأماكن التي أقام فيها تشايكوفسكي منزل له في بلدة كلين التي تبعد 85 كيلومترا شمال موسكو. هذا المنزل تحوّل حاليا إلى متحف يزوره الآلاف سنويا، ففي 2008 زار المنزل 86 ألف زائر. اشترت أرملة ثرية اسمها «نادزدا فون مك» الحقوق الأدبية المتعلقة ببعض أعمال تشايوفسكي العام 1876، بعد أن أعجبت بموسيقاه ووافقت على تقديم الدعم والمساندة له، حتى يتوفر له الجو المناسب للتأليف الموسيقي، وقد وفر له ذلك دخلا مضمونا مما جعله يتخلص من معهد موسكو للموسيقى، مركزا جهده على التأليف الموسيقي. قام بجولات كثيرة وشارك في افتتاح قاعة كارنيجي في مدينة نيويورك، وقد توفي بمدينة سان بيترسبورغ بروسيا.

غنــاء الأم
تشايكوفسكي كان مغرماً بغناء أمه، فقد ظل يتذكر طوال حياته غناءها وحين امتلك الصبي الموسيقي آرغن آلي «أوركستريون"بدأ يعزف أحب الأعمال إليه وهي «دون جيوفاني» لموزارت ومقاطع من أوبرات فيبسر وبيليني ودينيزتي وروسيني. كان تشايكوفسكي يؤمن بالطموح والشهرة ومن عواقبهما معاً، وقد كتب عن أثر هذا الاهتمام في عام 1886 ما نصه: «من المحتمل أن الناس سيهتمون بعد وفاتي بعض الاهتمام لمعرفة ما أفضله في الموسيقى وما أتحيز ضده، ويعزز هذا الاحتمال أنني نادراً ما عبرت عن آرائي هذه في أحاديثي الخاصة». سجل تشايكوفسكي آراءه في بيتهوفن وموزارت وغنلكاو ودارغوميزسكي، لقد قدم روميو وجوليت وتاتيانا بشكل رائع، وصور حكاية الأطفال البسيطة في «كسارة البندق"حيث خلق في مخيلته تلك الصور الهمجية عن مملكة الفئران أما تلك الرقصة في ثيمة الأميرة اورورا فتعد من الروائع العالمية. ترك تشايكوفسكي عدداً هائلاً من الرسائل تصل إلى الآلاف ولا يمكن للقارئ أن يغرق في هذا البحر من الكلمات، لذا كان لابد من تنقيحها وإخراجها على شكل سيري. إن رسائل تشايكوفسكي مليئة بتفاهات الحياة اليومية وشؤون العمل وقضايا محض عملية وثمة تكرارات كثيرة للمعلومة نفسها حين توجه إلى اناس مختلفين، لذا كان لابد لها من أن تعمل لإقصاء الكثير وإبقاء ما يستحق ليكون مسيرة كما تصفها الكسندرا كاتبة سيرته. كان تشايكوفسكي يشعر بالعزلة دوماً، لذا نجد جذوراً عميقة نفسانية وبدنية لوجهة نظره الشديدة الذاتية والمأساوية تجاه العالم، ولعدم انسجامه الروحي، ومن دون معرفة هذا المظهر من حياة تشايكوفسكي فإن من المستحيل تعقب مصدر ذلك العذاب الهائل من البحث عن سعادة متعذرة النيل. لقد عانى من حب متبادل لزميلة له في المدرسة مما انعكس كل ذلك على نصه «روميو وجوليت»، كما كتب أخوه مودست تشايكوفسكي، وكأن أعمال تشايكوفسكي الموسيقي الرائع تكشف نفسها من خلال معاناة حياته العقلية والإنسانية ذاتها، كما قال هو نفسه: هل عرفت حباً لا افلاطونياً، فإذا وضعت السؤال بصيغة مختلفة وسألنا ما إذا كنت قد عرفت السعادة التامة في الحب فإن الجواب هو لا ولا ولا ثالثة. لكن السؤال تجيب عنه موسيقاي. أما بخصوص ما إذا كنت أعرف القوة الكاملة، القوة التي تعذر سبرها في هذا الشعور فأجيب أجل وأجل وأجل ثالثة. وسأقولها ثانية إن جهودي المتكررة في التعبير في موسيقاي عن العذاب، وعن النعمة في الحب في الوقت نفسه هي جهود بذلتها بحب». وربما هذا يتطابق مع ما قاله ليو تولستوي الروائي الروسي صاحب الرواية الكبرى «الحرب والسلام"حين ذكر «أن الفن مجهر يجربه الفنان على أسرار روحه وهو الذي يظهر تلك الأسرار المشتركة للقوم الآخرين». وبينما يقول بوشكين عن تشايكوفسكي «إن لديه أسلوباً تراسليا» كان تشايكوفسكي يحب القراءة والكتابة والدردشة مع الأصدقاء والتراسل. إلا أن أكثر الرسائل قوة موجهة الى أخويه المفضلين التوأمين أناتولي ومودست، فهو يكشف لهما عن أكثر الأسرار حميمية في قلبه. لقد نبذ موسيقى موسورغسكي في إطار فهمه الجمالي للموسيقى. ومما يعرف عن حبه للأدب، كان يحب الشاعر الروسي بوشكين الذي استمد من أعماله أوبرات ثلاث وهي يوجين أونجين ومازيبا وملكة البستوني، كما وفرت قصة «عشية عيد الميلاد"للقاص الروسي جوجول موضوعاً لواحدة من ألمع أوبراته وهي تشيريفنشكي «فاكولا الحداد في صيغتها الأولى». أما الأدب الأجنبي غير الروسي فقد حفز تشايكوفسكي من مثل دانتي وشيلر وشكسبير وبايرون. لقد أبدع «العاصفة"و»روميو وجوليت» و»هاملت"لشكسبير موسيقياً وقرأ تاكري وتشارلز ديكنز، بينما ظل تولستوي المفضل لديه. فبصيرة تولستوي السيكولوجية وحبه وعاطفته للبشر هما ما يكشف عنهما تشايكوفسكي.

رحلة الإبداع
يُعد تشايكوفسكي من أوائل الموسيقيين الروس الذين اشتهروا عالميا، فقد كان متمكنا من تنسيق الفرقة الموسيقية (الأوركسترا) بمقدرة فذة من مزج أصوات الآلات الموسيقية المختلفة بخلق الأثر الموسيقي المتنامي، وكانت له أيضا موهبة خاصة في كتابة المقطوعات الغنائية. وصف تشايوفسكي بأنه مؤلف الموسيقى التي يغلب عليها الحزن، ومن أهم أعماله: السيمفونيات الثلاث الأولى والتي نادرا ما تؤدي في الوقت الحاضر، وتعد سيمفونيته الرابعة أولى روائعه على النمط السيمفوني، أما الخامسة فهي الأجمل من حيث التركيب المنظم. وتضم قائمة أعماله أيضاً: الكابريشيو الإيطالي، نتكراكر سويت، كونشرتو للبيانو، الأوركسترا رقم 1، بحيرة البجع، الجمال النائم، العاصفة، مانفريد، روميو وجولييت، هاملت، فرلاانشكا داريمني، والرباعية الوترية الثالثة.
يُعــد بيتر اليتش تشايكوفسكي من أكثر الموسيقيين الكلاسيكيين شعبية في العالم لما تتميز به موسيقاه من ألحان غنية وشحنات عاطفية جذابة مما يجعلها محببة لدى الانسان العادي والمتخصص في الموسيقى على حد سواء. كما تعكس موسيقى تشايكوفسكي نفسية مؤلفها بوضوح شديد بسبب ما يعتمل في موسيقاه من عواطف جياشة. ولكن برغم كل ذلك لا يختلف اثنان في ان تشايكوفسكي كتب موسيقى على درجة عالية من الجمال والمهارة التقنية، بل في هذا المجال على معاصريه من الموسيقيين الروس الذين يُلقبون (بالخمسة العظام).
وُلِدَ تشايكوفسكي في أسرة ميسورة الحال في بلدة فوتكينسك في السابع من مايو عام 1840. كان ابوه كبير مفتشي المناجم الحكومية وامه من اسرة فرنسية مهاجرة. وعندما كان تشايكوفسكي في الرابعة من عمره استعانت الأم بمربية فرنسية لرعاية اطفالها. كما كانت عادة ابناء الطبقة العليا في روسيا انذاك.
عرفت المربية (فاني دوباخ) التي كانت في الثانية والعشرين عندما التحقت بخدمة الاسرة برقتها وحساسيتها وقدرتها على التحكم بنوبات تشايكوفسكي الانفعالية وحساسيته المفرطة لاي انتقاد يوجه اليه.
بدأ تشايكوفسكي تعلم العزف على البيانو في الخامسة من عمره. وحقق تقدماً سريعاً في دراسته. وكانت السنوات الأربع التي أمضتها فاني مع الأسرة اسعد سنوات حياته لذا كان حزنه عظيماً عندما تركتهم بعد ان قرر والده الانتقال الى موسكو توقعاً لوظيفة أفضل هناك.
وصلت الأسرة الى موسكو في خريف عام 1848 ولكن الاب اصيب بخيبة أمل حينما وجد ان الوظيفة التي سعى اليها قد شغلها آخر وزاد الطين بلة ان وباء الكوليرا كان منتشراً في موسكو. وما كان من الأب الخائف إلا ان سارع بأسرته الى بطرسبورج. وهناك ألحق بيتر وشقيقه الأكبر نيكولاس باحدى المدارس الداخلية فترك هذا التغير في نفس تشايكوفسكي اثراً مروعاً بعد سنوات السعادة التي عاشها من قبل.
وكان يكتب الى مربيته بين الحين والحين. فقد كتب اليها رسالة في عام 1850 قال فيها (انني لا أُفارق البيانو وهو يدخل البهجة الى نفسي كلما كنت حزيناً).

كان تشايكوفسكي يحب أمه حباً جماً وبكل الحرارة التي تنبع من طفل شديد الانطوائية, فكانت وفاتها وهو في الرابعة عشرة من عمره مأساة تركت في نفسه اثراً لا يُمحى مما جعله يشعر فيما بعد بالحنين إلى أيام الطفولة السعيدة. ولقد عبّر عن هذا الحنين بصورة مؤثرة في الحركة الثانية من سيمفونيته الرابعة. انه لشىء محزن ان يسبح الانسان بخياله في ذكريات الماضي, ولكنه حزنٌ لا يخلو من العذوبة.
بدأ تشايكوفسكي بتأليف كونشرتو البيانو الأول وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. وقد لقي الكونشرتو نجاحاً كبيراً في الولايات المتحدة. وعزف بعد ذلك في روسيا في مدينة بطرسبورغ. ويعكس كونشرتو البيانو الأول بعض الخصائص الاساسية لمؤلفات تشايكوفسكي كقوة التعبير الدرامي وجمال الألحان وبراعة التلوين الاوركسترالي. كما يعكس تأثره بالمدرسة الغربية بالمقارنة الى معاصريه الذين تزعموا المدرسة الروسية في التأليف الموسيقي والذين اشتهروا بأسم (الخمسة العظام).
والواقع ان تشايكوفسكي لم يبدأ موسيقياً محترفاً. فقد كان موظفاً في وزارة العدل بعد تخرجه من مدرسة الحقوق في عام 1859. ثم التحق بكونسرفتوار موسكو الذي كان قد انشىء حديثاً في عام 1862 ولكنه استقال بعد ذلك بعام ليتفرغ كلية للتأليف الموسيقي. وكان عمره آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً وما لبث ان عُيّن بعد تخرجه استاذاً لمادة الهارموني في المعهد نفسه.
كان الموسيقيون الخمسة الكبار يتزعمون الحياة الموسيقية في روسيا في تلك الفترة. وكان تشايكوفسكي على صلة بهم. وبرغم خلفيته الدراسية الأعمق وقدراته الأفضل من الناحية التكتيكية إلا ان تأثيرهم على أسلوبه بدا واضحاً في موسيقاه التي ألفها في أواخر الستينيات واوائل السبعينيات وقد كتب افتتاحية روميو وجوليت في عام 1869 بناء على اقتراح بالاكيريف زعيم الجماعة. وكان موضوعها مأساوياً بدرجة تكفي لان يبدع تشايكوفسكي عملاً يعد من اروع مؤلفاته. صور فيه الحب المأساوي خير تصوير.
عندما كان تشايكوفسكي منكباً على تأليف سيمفمونيته الرابعة في عام 1877 سيطرت عليه فكرة تأثير القدر على الحياة. وكان يفكر في نفس الوقت في قصيدة يفغيني اونيغن للشاعر الروسي بوشكين كموضوع مناسب لأوبرا يؤلف موسيقاها. وفي أواخر ابريل من تلك السنة تلقى رسالة من فتاة تدعى انتونينا ميليوكوفا تقول فيها انها تحبه وانها ستنتحر مالم يلتق بها. وقد تجاهل تشايكوفسكي في بادىء الامر تلك الرسالة وعدة رسائل اخرى لاحقته بها الفتاة. ولكنه عاد ورأى فيها صورة ناتيانا بطلة قصيرة بوشكين التي رفض يفغيني بطل القصة حبها بازدراء.
واختلط الخيال بالواقع في عقل تشايكوفسكي وقرر ان يتزوج انتونينا. ولكنه افهمها بوضوح ان علاقتهما ستكون علاقة افلاطونية بحتة. وقبلت الفتاة فيما يبدو على امل انها ستتمكن فيما بعد من التأثير عليه بسحر انوثتها. ولكن تشايكوفسكي كان ينظر الى المسألة كلها وكأنها قدر مكتوب. وتم الزواج في منتصف يوليو وانتهى فيما يشبه الكارثة في آواخر أكتوبر. فلقد كان تشايكوفسكي يجد زوجته منفرة بغير سبب ويجد التأليف بقربها مستحيلاً فتدهورت حالته النفسية التي عاناها في تلك الفترة العصيبة من حياته.
غادر تشايكوفسكي في اعقاب انفصاله النهائي عن زوجته في رحلة زار خلالها سويسرا وايطاليا وفيينا. وكانت السنوات القليلة التالية من اغزر السنوات انتاجاً في حياته. وقد ألف في تلك الفترة عدداً من الاعمال التي تعد من ابرز وأهم مؤلفاته الموسيقية.
كانت موسيقاه تحظى بالإعجاب في كل مكان وبرغم مسحة الحزن التي اتسمت بها بعض اعماله إلا انه ألف العديد من الالحان المرحة مثل اوبرا فايتولا الحداد وكنشرتو الكمان والموسيقى التي ألفها لرقصات الباليه مثل (بحيرة البجع) الشهيرة التي ضمت مجموعة من الرقصات المرحة. ولم تخل حياة تشايكوفسكي من قصص غريبة كعلاقته بأرملة ثرية اسمها ناديجدا فون مك التي استمرت 14 عاماً. واقتصرت على تبادل الرسائل وحسب. فقد كان كلاهما مصمما ألا يلتقي بالآخر. واصبحت راحة تشايكوفسكي وتفرغه لموسيقاه شغلا شاغلاً لناديجدا التي خصصت له مرتباً سنوياً ليترك وظيفته كاستاذ في كونسرفتوار موسكو ويفرغ نفسه كلية للتأليف.
اشترت أرملة ثرية اسمها نادزدا فون مك الحقوق الأدبية المتعلقة ببعض أعمال تشايكوڤسكي عام 1876 م بعد أن أعجبت بموسيقاه ووافقت على تقديم الدعم والمساندة له، حتى يتوفر له الجو المناسب للتأليف الموسيقي، وقد وفر له ذلك دخلا مضمونا مما جعله يتخلص من معهد موسكو للموسيقى، مركزا جهده على التأليف الموسيقي، قام بحولات كثيرة وشارك في افتتاح قاعة كارنيجي في مدينة نيويورك.
شهدت السنوات الأخيرة من حياة تشايكوفسكي مزيداً من الجولات الفنية وبحلول عام 1893 آخر أعوام حياته كان قد حقق نجاحا لم ينله غير قلة من الموسيقيين في حياتهم. وكانت مؤلفاته تعزف في أوروبا وأمريكا فتتلقاها الجماهير بحماسة. وبدأ يتلقى آيات التكريم فانتخب عضواً مراسلاً في الاكاديمية الفرنسية, كما منحته جامعة كمبردج درجة الدكتوراه الفخرية في الموسيقى خلال زيارة لبريطانيا.
وفي العام ذاته ألَّف تشايكوفسكي سيمفونيته السادسة والأخيرة التي قال عنها: اعتقد انها أفضل مؤلفاتي وهي السيمفونية التي اشتهرت باسم المؤثرة مشبعة بجو قاتم من الغموض يعلن عن نفسه منذ البداية. وقد عزفت هذه السيمفونية للمرة الأولى بقيادة تشايكوفسكي في بطرسبورج في 28 أكتوبر اي قبل وفاته بثمانية أيام فقط.
لاقت مؤلفات تشايكوفسكي تأييداً فنياً، وشاعت في روسية ومدن أوربة وعواصمها، عدا ڤيينة وباريس، وفي أمريكة الشمالية. ولما كانت الموسيقى تعكس حياة الإنسان، كانت موسيقى تشايكوڤسكي مرآة لانفعالاته ومشاعره العاطفية، ومثالاً للرومنسية الأصيلة فيه. ومع ذلك لم يكن ميالاً إلى الكثيرين من الموسيقيين الرومنسيين من أمثاله. وبسبب استسلامه لعواطفه الجياشة في موسيقاه، فإنه لم يوفق في السيطرة على البناء الموسيقي في بعض ألحانه. ومع أنه كان يؤمن بعولمة الموسيقى، ويمثل التيار الغربي في بلده، فهو لا يعد نفسه بعيداً عن القومية الروسية. وفي الحقيقة، فإن العنصر الروسي الأصيل لايمكن إنكاره في موسيقاه. فالموسيقى الشعبية كانت ذكرى طفولته السعيدة، وحلية في بعض ألحانه، فلم تكن أساساً في مؤلفاته كما هو الحال في موسيقى موسورغسكي مثلاً.
من مميزات موسيقى تشايكوڤسكي التقانة الجادة والمشاعر الصادقة في أعماله. فقد قدّم الباليه بنمط سمفوني كانت بدايته على يديه. وكتب أعمالاً كثيرة في صيغ موسيقية مختلفة منها: عشر أوبرات من أشهرها «أوجين أونيغين» و«ملكة البسطوني»، وثلاث باليهات شهيرات وهي بحيرة البجع والجميلة النائمة، وكسارة البندق، وثلاث حواريات للبيانو (أشهرها الأولى ـ 1875) وحوارية للكمان (1878)، وست سمفونيات أشهرها الثلاث الأخيرات وخاصة السادسة منها «المؤثرة (وهناك أوراق متناثرة لسمفونية سابعة غير مكتملة)، وافتتاحيات مختلفة من أشهرها «فرنشيسكا داريميني» (1876i و«افتتاحية 1812» (1880) و«هملت» (1888)، وقطعة «المارش السلافي»)، و«النزوة الإيطالية»، وثلاث رباعيات وترية، وقطع موسيقية وافرة من موسيقى الحجرة [ر. الموسيقى] Chamber Music ولمختلف الآلات الموسيقية المنفردة وللمجموعة وللغناء المنفرد وللجوقات الغنائية.
تعرّف تشايكوفسكي على مجموعة الخمسة، وهي خمسة موسيقيين روس نادوا بقومية الموسيقى الروسية عوضاً عن الموسيقى الأجنبية وهم: بالاكيريف M.Balakirev، وكْوي Cui، وموسورجسكي M.Moussorgsky، وريمسكي-كورساكوڤ N.Rimsky-Korsakov (وهو من أشهرهم)، وبورودين A.Borodin، وغدا تشايكوڤسكي صديقاً لبالاكيريڤ، وعلى خلاف عميق مع موسورغسكي الذي كان أشد المجموعة تمسكاً بقومية الموسيقى بخلاف تشايكوفسكي الذي لم يلق بالاً لنهج «المجموعة"القومي. ومع ذلك، فقد أبدى أعضاء المجموعة إعجابهم بسمفونيته الثانية التي كان يتخللها بعض الألحان الفولكلورية الروسية، إلا أنهم اتهموه، فيما بعد، بأن موسيقاه أوربية لاتنتمي إلى المشاعر الروسية. ومن دواعي ذلك أن الناقد الموسيقي والأدبي ستاسوف (1824-1906) V.Stassov، الذي كان المشجع للمجموعة والناطق باسمها، كان يقدم لأعضائها موضوعات أدبية روسية لتلحينها، بينما كان يمنح تشايكوڤسكي أدبيات أجنبية، إضافة إلى ذلك، كان الموسيقي دارغوميشكي (1813-1869) A.Dargomyzsky قد أوحى إلى تشايكوڤسكي بوجوب شيوعية الموسيقى دون توكيد قوميتها. وهذا ما شجعه على زيارة عدة بلاد أوربية وتوسيع علاقاته الفنية مع موسيقييها، إضافة إلى إعجابه بمشاهير مؤلفي الأوبرا الإيطاليين مثل روسيني G.Rossini، وفيردي G.Verdi، وبلّيني V.Bellini، وبالكثير من الرواد الموسيقيين الأوربيين السابقين له مثل موتسارت، وبتهوڤن وغيرهما من المشاهير.
كانت علاقات تشايكوڤسكي النسائية فاشلة. وكان أن تعرّف عام 1868 المغنية البلجيكية ديزيريه آرتو D.Artot إلا أن علاقتهما العاطفية سرعان ما فُصمت عراها. وتزوج عام 1877إحدى طالبات كونسرڤاتوار موسكو ثم انفصل عنها بعد أسابيع قليلة. وإضافة إلى معاناته النفسية بسبب فقدان والدته، والصعوبات المالية التي يعانيها، كل ذلك كان له الأثر الكبير في سلوكه الشخصي والنفساني، وكان عنصراً فعالاً في حياته الاجتماعية والفنية. ولم ينقذه من محنه تلك سوى صلته الروحية بالأرملة الثرية الروسية فون ميك N.Von Meck التي عشقت موسيقاه، دون أن يلتقي بعضهما بعضاً، وخصصت له راتباً سنوياً سخياً للتفرغ للتأليف الموسيقي فحسب، وعدت فون ميك بذلك نصيرته الأدبية والفنية والمالية، وحبه الوحيد البريء. توالت بعد ذلك جولات تشايكوڤسكي الموسيقية في أوربة وأمريكة مؤلفاً موسيقياً وقائداً للأوركسترا. وافتتح عام 1891 مسرح كارنغي هول Carnegie Hall في نيويورك، وحاز شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة كمبردج Cambridge في لندن عام 1893، قبل وفاته بأربعة أشهر. وأقيمت له تماثيل شخصية ـ بعد وفاته ـ في موسكو وبطرسبورغ، وتحولت داره في مالدانوڤا Maldanova إلى متحف خاص لحياته الموسيقية والخاصة. وتقام مسابقات دولية سنوياً في موسكو باسم (تشايكوڤسكي).
توفي تشايكوفسكي في السادس من نوفمبر عام 1893 مصاباً بالكوليرا. وفي الثامن عشر من نوفمبر عزفت هذه السيمفونية في حفل اقيم تكريماً لذكراه.. وتأثر الجمهور تأثراً عميقاً وخاصة عندما استمع الى الحركة الأخيرة التي قال عنها تشايكوفسكي انها تعبير عن الموت فأصبحت بمثابة نبوءة من الفنان بنهاية حياته.