صالح الرزوق
اختار سعد محمد رحيم لروايته (مقتل بائع الكتب)* بطلا إشكاليا هو محمود المرزوق، وقدمه منذ أول سطر بصفة ميت. وقد سقط ضحية جريمة اغتيال غامضة.
هل أراد أن يحاكي بهذا العمل (الأشجار واغتيال مرزوق) باكورة أعمال عبد الرحمن منيف، أم أنها مصادفة تدل على عامل لاشعوري مدفون تحت ركام هائل من الخبرات والتجارب القديمة.
قد يكون الأمر كذلك.
إنما أي فحص للعملين لا يثبت وجود تقاطعات.
فالرواية تقدم صورة للنخبة ولنشاط الصالونات الأدبية، وتركز علنا على نماذج أصبحت شائعة في المشهد الثقافي، وفي مقدمتها الخلود لميلان كونديرا واسم الوردة لأمبرتو إيكو.
تتألف رواية (مقتل بائع الكتب) من ثلاثة محاور.
الأول يعيد تصوير الذاكرة الفكتورية.
ولا يخفى على أحد أن معنى الذاكرة هنا وضعي، إنه بتعبير كيت ميتشيل نوستالجيا لدافع سياسي يشترط تكوين حالة الاندماج بالأمةص ٣٦**. وانتقال بفرضية التقابل بين الحقيقة والخطأ إلى التقابل بين الحقيقة والخيال ص ٣٧.
وهذا يدل على موقف الرواية وسياستها تجاه التاريخ، فهي بلا صلة مع المدونة العربية، ولكنها ضمن إطار الخيال الفني الذي جاء إلينا من الغرب مع معركة ذات الصواري وصعود نابليون.
بمعنى آخر إنها رواية استعمارية تحاول تحرير العقل الوطني.
لقد كانت الحرية هي المحرض لكل الأحداث، وبلغة بطل الرواية محمود المرزوق: الحرية هي الهدف الذي يسعى إليه الإنسان ص ٣٥. وحالما تتحقق يصيب الحياة الخمود ص ٣٥. وكأن الحرية ليست شرطا، ولكنها وعي بصدمة حضارات مستمرة.
لذلك كانت الحضارة، من وجهة نظر الرواية، تراكمات لها بريق أخاذ. ولكن ماهيتها مزيج من القسوة والضلال. ص74.
المحور الثاني هو البنية اللامركزية في أسلوب عرض الأحداث، فالشخصيات تتساوى بالأهمية. والحبكة لا تتطور على نحو متسلسل ولكنها تنمو من خلال التذكر واليوميات والسرد المباشر. وهذا يحول الرواية إلى عدة وحدات سرد. لكل منها قوانينه ولغته. فيوميات المرزوق تستعمل لغة متوسطة بين المونولوج والإلقاء من على المنابر، بينما يستعمل ماجد المحقق في صحيفة (الضد) لغة شاعرية تنمو بدوائر، ولكل دائرة أسلوب يحدده الموضوع. وهو الأسلوب الذي يميز كل رموز حداثة الستينات عند العرب.
لكن إذا كان هم الستينات هو صياغة موقف سياسي للأفراد عوضا عن الجماعات، فإن هم هذه الرواية هو تكوين موقف اجتماعي لإنسان البعد الواحد. بالمعنى الذي استعمله ماركوزة، فشخصيات الرواية مستلبة وفاقدة للإرادة، ويحركها فضولها الذاتي وليس حكمة المؤسسة.
المحور الثالث هو توفير أكبر عدد ممكن من أدوات الاتصال الحديثة، والتي تحيلنا مباشرة لثورة الصناعات الصغيرة كالموبايل والستالايت والحاسوب وآلة التسجيل....
وأرى أن لذلك أكثر من معنى.
إنه يضع الرواية على الخط الفاصل بين الأطوار.
لقد عملت الرواية على إضفاء طابع ذكوري على الجو، ولم تحاول تأنيثه بطريقة الصالونات المخملية للعهد الفكتوري، الأمر الذي يدل على ميول إصلاحية، أو ما أفضل تسميته تثوير الماضي وتفكيك الذاكرة.
وأعتقد أن سعد رحيم أدى هذا الدور بقدر من المهارة. فهو في مقاربته، لمشكلتنا مع الذاكرة، يعتمد على أحداث منقولة. ولا يجهد ذاته النوعية، ولكن يضغط على النموذج.
وضمن له هذا التكتيك التمسك بالجانب الموضوعي من الذات، فأصبح شاهدا على الأحداث والواقع وليس جزءا منه.
ألم يذكر علانية: أننا ضحايا وشهود. ص 75.
وقد أضاف لموقفه، بهذه الحيادية والانفصال، شيئا من اللامبالاة الوجودية والتي تجدها عند ألبرتو مورافيا.
فالانتباه لواقع المأساة التي تعصف بالمنطقة حرض لديه الإحساس بالألم والسقوط لكنه لم يفرض عليه التزاما مباشرا. وفيما أرى إن هذه النقطة هي التي تؤشر لولادة جيل النكسة الثاني ومحنة استعمار المشرق بعد خروجه منه. وعلى هذا الأساس تسمع كلمة (اليانكي) عشرات المرات وبكل مناسبة.
يقول المرزوق في يومياته: ما يحدث هو اللامعقول بعينه. ص 52.
ويضيف في مكان آخر: لا شيء منطقي في هذه البلاد.ص 52.
حاول سعد رحيم أن يصنع من حادثة مقتل شخص قضية، فجعل الخيال جزءا من الواقع. وحول العمل إلى كولاج ذهاني يشخصن حالة نفسية. حيث أينما فقد الجسم صورته فرضت الأفكار والذكريات كتلتها كتعويض أو بديل.
ولذلك كان الذهان في شخصيات الرواية نوعا من العصاب المتطور، ويجزئ الذاكرة دون أن يلغي وحدتها. فهي ذاكرة متماسكة وتعمل في عدة مستويات غير متساوية من الشعور والانتباه.
لا شك أن هذه الرواية جزء لا يتجزأ من الأدب ما بعد الكولونيالي. فهي مثل سابقاتها (ترنيمة امرأة) و(ضفاف الرغبة) تضع المفاهيم الوطنية وراء حدود المصطلحات، وتحاول أن تضفي مصداقية على الأسلوب، لكنها لم تغادر أبدا حدود النوع.
لقد احتفظت ببندين من بنود الخيال الغربي:
التوجه للنخبة، والاهتمام بالحبكة، وكانت هنا حبكة بوليسية تهتم بفنون الظلام والعنف أو غريزة الفناء (المنون/الموت)، بنفس الطريقة التي اتبعها في (ترنيمة امرأة) حيث أن الوقائع تتحول إلى مطاردة في كابوس، أو الطريقة المتبعة في (ضفاف الرغبة)، وهي التحقيق بهوية وشخصية امرأة مجهولة.
حتى الحب في هذه الأعمال كان نوعا من المشاعر فوق العاطفية، وتلبية لضرورة فرويدية مباشرة هي مبدأ إشباع اللذة. فالمرزوق في الرواية لا يؤمن بالزواج، ويريد علاقات الغرام حرة ص 90.
لقد انعطف سعد رحيم بروايته من أزمة الشريحة، سواء في طور حركات الإصلاح أو فترة صعود أدبيات المقاومة، واستعاض عن العلاقة بالأرض والمكان بعلاقة مع الوعي الذي يشخصن استاطيقا الأمكنة. ولم يتأثر على الإطلاق برواسب المدونة الشعبية (ألف ليلة وتفريعاتها). وقفز من فوق كل المحاولات الجاهدة لتعريب الخيال الفني، والتي اتكل عليها الطاهر وطار وقبله إميل حبيبي، ورسم صورة لمجتمع غربي ناطق بلغة عربية.
لكن..
لم يكن أداؤه اختزالا مجردا لحكمة الغرب. إنه لم يحل محل المنفلوطي في تمصير القصة والرواية.
كان الاستلاب لديه تغريبا ليبراليا لشرط المكان. فبغداد في الرواية ذاكرة لا تغرب من الذهن على الإطلاق. وكل المشكلة أنها فقدت العلاقة مع الشرط الثابت لمطلق التاريخ..
يقول محمود المرزوق بطل الرواية الميت: الأيام الجميلة، دائما ليست الآن، وليست هنا. بل في مكان آخر. ثم يضيف علانية: في زمان آخر. ص ٢٩.
وكأنه يردد عبارة مشهورة لكونديرا وهي: الحياة في مكان آخر.
والإشارة واضحة.
إنها تبشر بواقع بديل في المنفى، وإن لم يتوفر سيكون في الذهن.
ومن الواضح أن الماضي هنا مضاعف، فالسرد بالوكالة وليس مباشرا، فهو نقل عن شخص راحل.
لذلك زمن الرواية يختلف عن زمن الحكاية. وكلاهما يتآلف في تيار بشكل حدس متحرك، أو لا شعور يدرك نقاط الفاجع التي تنضوي فيه، وهذه هي كل المسألة..
أن لا يرتبط الزمان بطور نرغب في تثبيته.
إنه مكان مفصول، ولا يعرف الحقبة التي يفكر بها أشخاص الرواية.
وربما هذا هو المبرر الأقوى لاختيار شكل التذكر واليوميات وصيغة الماضي.
*صدرت عن دار سطور. بغداد. 2016.
**كل الإشارات لكيت ميتشيل عن كتابها (التاريخ والذاكرة الثقافية). ترجمة أماني أبو رحمة. منشورات نينوى. دمشق. 2015.