شعرية الغنائي والدرامي في (مدونات ذاكرة الطين)

شعرية الغنائي والدرامي في (مدونات ذاكرة الطين)

زهير الجبوري
لعل الوقوف عند محطة (علي لفتة سعيد) ونتاجاته الابداعية المتنوعة يحيلنا الى قراءة منجزه قراءة متأنية وحذرة، ذلك ان التنويعات الابداعية /الأدبية التي عرف فيها في القصة والرواية والشعر، أعطت له سمة خصبة في جعل ما يقدمه معياراً لإشكالية ذهنية منفتحة على حرفنته الثقافية في فروع الأدب..

الآن وبعد عقود من الابداع، يؤكد (علي لفتة سعيد) انه شاعرٌ حاضرٌ دائماً رغم اصداره العديد من النتاجات السردية في القصة والرواية، ومع تواصله هذا، نمسك بإحساسه العميق في طرح ما يمكن طرحه من مجاميع شعرية، آخرها ما قرأناه المجموعة الشعرية (مدونات ذاكرة الطين) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية /2016، تلك المجموعة التي شكلت مساس ذاتي معلن مع ما تستثيره خلجاته ورؤياه لما يحيطه من واقع مشتبك ومشحون بهواجس ذاتية منفعلة..
المجموعة بكل ما احتوته من قصائد فاعلة، فهي تعبر عن تجربة لها مناخها الخاص، حيث الأخذ بالضمائر كوحدات مضمونية في المقاطع الاستهلالية او داخل المضمون، انما يعبر عن التحام الشاعر مع ذاته بحثاً عن (أنا) متناثرة، ولعل هذه الطريقة تبرهن عن حالة الاحساس العميق للغنائية الواضحة، ولكنها ذات بناء درامي، ولعل شعرية الدرامي تكمن في (هضمها للكثير من السمات الدرامية كالتوتر والصراع والحوار وتعدد الاصوات ذات طبيعة غنائية) ـ بحسب د.جلال الخياطـ.
صحيح ان التجربة الشعرية الراهنة كشفت عن ثوبها المتجدد من خلال فتح شفرات اللّغة وادخال مفاهيم جديدة معاصرة، غير وجهه المتوهج منذ كتابته القصيدة إبان العقد الثمانيني، ذلك لأن الرؤيا العامة تتجدد مع التحولات التي يفرضها الواقع في كل حقبة، وبهذا تصبح التجربة واعية وكاشفة، ثمّ ان لكل مرحلة فضاءها الثقافي المشبع بدلالات اجتماعية وسياسية ونفسية وثقافية، وان الأخذ بهذه التحولات والعمل عليها يؤكد قدرة الشاعر على تقديم كتابة نص متكامل بأجواء معاصرة..
نلمس من خلال قراءتنا الفاحصة لقصائد المجموعة، انها تبدأ غالبا بجمل استفهامية، منها ما تنطوي على الضمائر المخاطبة او اسماء الاشارة للآخر، ومنها ما تشكله الجمل الإسمية للكشف عن (أناه)، لذلك تصبح جلّ القصائد مشروع قراءة لمواضيع يسحبنا اليها الشاعر بحثاً عن وجوده الذاتي، وجاءت مغمسة بصور ومشاهد وشواهد تثير المتلقي من خلال وحدة البناء والطريقة الدرامية التي اشرنا اليها، ولو اخذنا القصيدة الاولى من المجموعة كإنموذج للعديد من القصائد من حيث بنائها الفني سنجد ما يبين حالات المسكوت عنه، ودلالات الحس الهاجسي للآخر/ المو ما اليه، فكانت قصيدة (انت حين حورك الطين) مستلهمة رؤيا الشاعر، نقرأ:
انت حين اراد الله الشاعر أن يكتب لوحه
جمع كلّ حروف الكون من عرض السّماوات والأرض
نفخ من روح فراديسه.. فكان كتاب الورْد
وكنت قصيدته الأجمل.(ص5).
ومثل هذه الطريقة الشعرية تكررت في قصائد المجموعة، ولكن من حيث تشكلاتها الفنية، ومشهدية الأداء وطريقة الفعل الدرامي الذي يبرز صوت الشاعر بوصه الثيمة المحاورة للآخر، بخاصة اذا ما امسكنا بالضمير (انتِ) وتكراره لـ(12) مرة،بالاضافة الى الضمائر الاخرى التي تقف متناظرة مع المشاهد الدرامية في بقية النصوص..
كما نطلع على بعض القصائد وهي تحافظ على اطارها البنائي للحس الغنائي ولحركة القصيدة الحداثية التي اخذت مواصفات المرحلة المؤسسة للشعرية الحديثة، رغم ان الجيل الستيني كان من اهم مشتغليها من ناحية النضوج، الاّ ان العقدين السبعيني والثمانيني اشتغلا على تفعيل ذلك بما تقتضيه المرحلة من تحولات، فالقصائد (رمل المساء، سواد للبياض، اتعبني الغناء، دمعة، قصب الجنوب، للماء اذان، طين، حنجرة الحروف، وغيرها)، اخذت شكلاً حضورياً متناظراً مع ما يشعر به الشاعر من اسقاطات ذاتية، وأحياناً نمسك بشعرية المنولوج الداخلي، ومثل هذا اللون الشعري تصعد فيه حدّة الحس الغنائي، بل نشعر باغترابية كبيرة داخل المضمون، نقرأ في (رمل المساء):
لا أبوح بما غنّيتُ
ادرك أني اردد الفرح
سأعود الى النسيان.. وألف من جديد على حروفٍ
ترتدي قيافة الغبار.(ص50).
هنا محاولة للكشف عن اداء الشاعر في اعطاء شعرية بالمستوى المعبر عن وحدة الموضوع الذي اشرنا اليه، فـ(عدم وجود البوح والادراك بترديد الفرح والعودة للنسيان وقيافة الغبار)، تستدركنا للإشارة الى ما تقدمه الطريقة الأدائية وتقنية البناء الشعري التي بانت هنا، وفي بعض القصائد ايضاً..
(مدونات ذاكرة الطين)، مجموعة مالت الى حالات تأثرية لمشهدية درامية استنهضت لحظة كتابتها الذاكرة الجمعية للحالات الشعورية المنضوية تحت خيوط نفسية وحسية وهاجسية، فلم تكن النصوص ذات بناء ذهني متعال بقدر ما انطوت عليه مناجاة الشاعر في حالات وصفه وتأثره بالآخر، وهي طريقة ليست بالجديدة، لكنها تمتعت باسلوب الشاعر ذاته، لذا نقرأ في قصيدة (ظلُّ الخرائط) كأنموذج وافي لما نصفه:
لا تستعجلي..
ما بداخلك من عطر
فزّ من جنح فراشة اهدتني قبْلتها
وأباحت لي بسر الأسرار..(ص108).
وتكريساً على ما أشرنا اليه، فإن الطريقة التي تمتعت به القصائد تطل ايضاً على حالات تشبيهية وتناصية، ولكن في مناطق متباعدة، واستطاع علي لفتة سعيد ان يطرح مشروعه الشعري هنا كموقف معبر عن حالات شعورية، ومجسد لموقف ذاتي يكشف من خلاله ما تبعثه خلجاته ونوازعه الداخلية..
كما ينتابني شعور عميق بأن تجربة الشاعر في مجموعته هذه او في باقي تجاربه السابقة، تحمل مشروعها القرائي التأملي، فهي لا تنسرح مع الواقع وقراءة تفاصيله، انما تحكمه دلالات وافية لمساحة مشبعة بالرؤيا والأحلام والإحساس بالأشياء من حيث تركيباتها اللّغوية، ربما هو الكشف عن رحلات ذاتية تتداخل في مضمونها إطاري الزمان والمكان مع الـ(أنا) المفحمة بكل تفاصيل الوصف الشعري المجرد..
وفي الوقت الذي اظهرنا فيه ملامح القصيدة المشهدية/ الدرامية/ المشبعة باحساس غنائي، نلحظ ايضاً تنمية عناصر تشكيلية اخرى في المجموعة، تلك التي تجسدت بما يسمى بـ(شعرية الكتابة)، بمعنى ثمّة لغة مسرودة تتجلى مع وحدة النص لتسهم في اعطاء ملامح القصيدة المكونة من ايقاعات داخلية ومؤثرات بلاغية وانفتاح الرؤيا عبر فضاءات استعارية واضحة، أبانت تجليات الشاعر في ابرازه لطريقته.