في رحاب الأهوار.. قراءة جديدة في كتاب   العودة الى الأهوار

في رحاب الأهوار.. قراءة جديدة في كتاب العودة الى الأهوار

د. قيس كاظم الجنابي
ـــ 1 ـــ
جاء كتاب كافن يونغ (العودة الى الاهوار تتمة لما كتبه الرحالة مكتشف الاهوار ويلفرد تسيغر، وما كتبه تحت اسم مستعار (فلانين) واسمه الحقيقي (هيد جكوك) بعنوان الحاج ركان. عربي من الاهوار وما كتبه ايضا كافن ماكسويل عام 1956 بعنوان (حلقة مياه رائعة). وكان العرب قد سموا الاهوار البطائح (مفردة بطيحة) وجرى ذلك في المعجمعات الجغرافية وخصها القزويني باهتمام خاص في كتابه اثار البلاد واخبار العباد.

تعد الكتب التي صنعها الاجانب من الاهوار احدى روافد الجغرافية الحديثة لانها تعد من ادب الرحلات التي دأب الغربيون على القيام بها الى البلدان الغنية بالاثار والاقتصاديات، والاماكن ذات الاشارات الخاصة وقد نالت المسحطات المائية والحياة الفطرية لسكان الاهوار اهتماما جليا من اجل التعريف بها وقد وصفوا مجتمعاتها العشائرية وسموهم بالمعدان وقد كتب العراقيون عنها وعن مجتمعاتها ولكن ليس بصورة عميقة كتب ادباء وقصاصون وشعراء روايات وقصائد ونصوص عن الاماكن التي تسجدها ولكن يبقى الهاجس الاستكشافي مهيمنا اكثر من الهاجس الاخر، وقد عملت بعض الانظمة السياسية على اخراج هذه المجتمعات من حياتها الفطرية بغية السيطرة عليها وبث الفكر السياسي الذي تصفه بحجة رفع مستواها الثقافي مما اسهم في تشتيت نسق الخطاب المضمر لديها ولان الفضاء المكاني يحمل مؤثراته العميقة على الانسان فكريا واجتماعيا كان لعب دورا فاعلا في حياة عشائر المعدان واسهمت المتغيرات والاتتصالات الحديثة في احالة حياتهم من الفطرة الى التذبذب.
لقد كان ادب الرحلات الاستشراقية التي اسهم المفكر ادوارد سعيد في تشخيص ابعادها في كتابه الاستشراق يحمل معه اغراضه المعلنة وغير المعلنة وخصوصا وان هذه البقعة الواسعة من جنوب العراق والتي تعد من اغنى بقع العالم في النفط والطبيعة الحية، لهذا نجد ان يونغ يحاول ان يضفي على رحلته طابع البساطة وغياب الاهداف ولكنه لم ينسَ ان يعود الى من سبقه والى مصاحبته للرحالة شيغر في رحلته للاهوار وهنا لابد من الاعتراف ان الاهوار في نظام الاقطاع هي غيرها في ظل بعد الاقطاع وكذلك هي غيرها بعد نشوب الحرب العراقية الايرانية 1980 ــ 1988 لانها تعرضت للتشويه وتحولت من محميات للاقطاعين الى فضاءات خاصة باهلها ثم دخلت المتغيرات الحديثة بعد نشوء المدارس وتجنيد شبابها في الخدمة العسكرية، ومشاركتهم في حروب العراق مع جيرانه ثم محاولات تجفيف الاهوار والتقليل من خطر معارضة عشائرها للانظمة السياسية المتلاحقة.
لقد اشار يونغ الى بعض هذه المتغيرات في رحلته الاخيرة على استحياء خشية اثارة النظام السياسي السائد،خشية تفسر رحلته تفسيرا سياسيا اذ انه عاد عام 1973 لتدوين رحلته وهو الذي عد مذكرات الرحالة السابقين وملاحظاتهم الدقيقة علامات مضيئة كانها شموع.
ـــ 2 ـــ
الامر المثير لدى الرحالة هو العمق التاريخي للاهوار او النسق المضيئة الذي بقي يتحرك منذ القدم حتى الان ليشير بشكل خفي الى حضارة اطبقت شهرتها الافاق الا وهي حضارة السومريين فان الرحالة المعاصرين الذين راوا بان الاهوار هي بلد للسومريين ومنبع ثقافتهم استنادا الى ما قرأوه عنهم في كتابات الاثاريين وبالذات الواح سومر وملحمة كلكامش، وهذا يشير الى ان تلك الحضارة كانت مثار اعجاب العالم حتى الان وكانهم يلمحون الى ان عرب الاهوار هم احفاد السومرية انصهروا بالتدريج بالثقافة العربية ودانوا بالاسلام لذا نراه يقول:
فمشهد ارض سومر خارج مساحات الاهوار رتيب لا يقلق عثر ظلال بعض اشخاص ملفعين"شاديش طويلة"او خيالة او مجاميع من الطيور او قطعان ما شية فيربط بينها وبين ملحمة الخليقة"اينوما ايليش"التي مطلعها عندما في الاعالي اذ وردت الاشارة الى الاله اثليل او مردوخ وملحمة كلكامش والطعم فان فاستطاع ايليل ان يبني جزيرة من القصب على سطح الماء ووضع فيها الانسان اقنع بعد ذلك الالهة الاخرين كي يرسلوا الطوفان ليمحوا كل حياة حيوانية وهي الطريقة المستعملة لحد الان في بيوت اهل الاهوار ثم اشار الى ان السومريين هم الذين جلبوا اسلاف الجاموس العراقي من الهند قبل الالف الثالث قبل الميلاد.
لقد اقترن التوصيف التاريخي بذكر الملامح الجغرافية واللغة الادبية القادرة على منح القارئ صورة حية عن حياة انسانية مثيرة وطبيعة متفردة في محاولة للاستفادة من اللغة والمفردات الواصفة التي هي تعبير عن تكثيف المشهد الطبيعي وشحنه بطاقات عميقة الاوصاف والاشارات التي تخفف من السرد الطويل الذي يحتوي على مشاهد اضافية احيانا ويرفع من مستوى التعبير البلاغي او السرد القصصي الموجه الى القارئ الغربي وغالبا تقترن تلك الاوصاف بالاثارة والفضول مع الالتزام بالواقع بعيدا عن المتخيل الذي ربما يصلح لكتابة القصص اكثر مما يصلح لكتابة الرحلة فهو يقول"كان جمال المكان الطبيعي ساحرا. طيور الرقراق المرقطة لاتنفك تغطس لالتقاط فرائسها. أسراب من الحمام تحلق فوق رؤوسنا،مجامعيع من اللقالق بيضاء كالثلج تتصيد ببهاء وفي السماء لابد من وجود عقاب واحد على الاقل.
ـــ 3 ـــ
نالت الحياة الاجتماعية من الرحالة الاوربيين اهتماما كبيرا فوصفوها وصفا واضحا بعيدا عن الهرجة في الكلام وعبر مفردات لغوية لها دلالتها لانهم يولون الانسان وحياته وتكونيه الاجتماعي الطبقي والعشائري اهتمامهم من اجل توثيق تلك الحياة ودراستها والكشف عن التناقضات الماثلة فيها والمتغيرات التي تحصل لها من حيث تأثير الزمن وتأثير الواقع السياسي. فقد اقترنت حياة اهل الاهوار المعدان الاجتماعية والاقتصادية بروابط عميقة بحيث جاء الوصف يجمع بين الجانبين فصفة المعدان تعني سكان الاهوار واحيانا مربي الجاموس كما اهتموا بمن يسكن معهم من الفرق والديانات كالصائبة وبتقاليد الناس التي تتصل بالتمازج الاجتماعي اذ اشار الى ان قبل ما بين النهرين كانت مسيحية على الغالب وتساء معاملتهم على ايدي الفرس الزرادشتيين وكانوا يشعرون ان الفرس غرباء عنهم فتغززت وشائجهم المتينة اصلا مع عرب الصحراء في مصر كما نزحت بلهفة قبائل عديدة من الصحراء الى وادي الرافدين الخصب قابل هؤلاء العرب الانقياء مربو الجمال من شبه الجزيرة العربية رجال الاهوار في الاسواق وفي الحقول المجاورة للانهار والبحيرات فتعلموا منهم خصالهم زواجوهم واعطوهم بالمقابل عقيدتهم الاسلام في اشارة الى التحولات التي تلت السومريين بعد حكم الفرس ثم الفتح الاسلامي للعراق كما تحدث عن شيوخ العشائر والتحالفات القبلية في العهد العثماني ثم الاقطاع في العهد الملكي ثم زواله في العهد الجمهوري.
كما اهتم بالازياء والروابط الاجتماعية فقال جميع نساء الاهوار يرتدين الحلي وغالبا من النوع الراقي المصنوع ببراعة بعض الاساور والخلاخل والحلقات وزينة الرأس تصنع من الفضة وقد برع بصنعها الصائبة واشار فضلا عن ذلك الى التقاليد الاجتماعية ومنها تقاليد الاخذ بالثار واستخدام المرأة وسيلة لرأب الصدع بالزواج المعروف عرفا بالفصلية فقال"تقاليد السلوك الاجتماعي في الاهوار عريقة جدا وهي ليست سهلة فتقاليد الفصل التي بامكانها الغاء الثار تحسب وفق اصول تشبه جدول الضرب في الحساب يجري التعويض اما بالنساء او بالجواميس او الفلوس".
وهكذا هو الاوربي وهو يتناول حياة عرب الاهوار ينظر للحياة من كافة جوانبها.

هوامش:
* العودة الى الاهوار: كافن يونغ ترجمة د. حسن الجنابي،
دار المدى (دمشق ـ بغداد 2012م) ص 70.