رلى راشد
في سيرة ذاتية تعود الى أواخر ستينيات القرن العشرين سمّاها "تكلّمي، يا أيتها الذاكرة" يذكر فلاديمير نابوكوف ان"اللولب دائرة روحانيّة"مشبّهاً حياته به، وإن مع بعض التعديلات، ذلك انه رآها"لولبا ملوّنا في وسط كرة زجاجيّة صغيرة". لا لبس في أن نابوكوف هو الأكثر إفصاحا ووفاء في وصف نابوكوف. والحال ان كلام الكاتب الأميركي من أصول روسية يرسم بدقة المنحيين التأليفي والشخصي عنده، ذلك ان الإلتفافات جمّة والإنعطافات أسلوب تصرّف وتفكير.
وها إن صدور صفحات من السيناريو السينمائي الذي كتبه نابوكوف انطلاقا من روايته"لوليتا"بملاحظاتها الكثيرة والمنشورة للمرّة الأولى، يعزز إيماننا بأن التلكؤ عند نابوكوف نصير الإستثناء، وبأن الحذف المتكرر يظلّ الحماية الوحيدة لأي نص.
لم تكن"لوليتا"، رواية نابوكوف الأثيرة التي صنعت مجده الأدبي، أول فصل في سيرة عرفت مراحل من الوفر والشحّ والنفي. كانت الحركة الأخيرة في سمفونية معيش أفاض في الكتابة عنه متلمسا إنقاذ روحه مما وصفه"حديقة حيوانات الكلمات". انتقلت"لوليتا"الى السينما برؤية المخرج ستانلي كوبريك الذي اختزل اسمه اللمّاع تجربته وشيئا من نزقه أيضا. لم يكن المخرج ليرضى بالإملاءات في سياق مشروعه، وإن أتت من صاحب النص الأصلي، ومن ذائقة كاتب بمستوى نابوكوف. من المفارقات انه طلب من الروائي وبإصرار مرة أولى فثانية تولي السيناريو، من دون ان يثنيه ذلك لاحقا عن استمالة الحكاية وتفاصيلها تماما وعن استبقاء الفتات فحسب من اقتراح الكاتب النهائي. لم يأبه لاستبقاء نابوكوف في معموديته السينمائية، الشخصيات الأساسية وخط روايته العام وانصرافه الى مدّ كل مشهد بدرامية مضخمة، كأنه يقف خلف عدسة الكاميرا. تحكّم كوبريك بالبداية كما بالنهاية، كأن الحكاية ملكيته الخاصة.
في الصفحة الثانية من"لوليتا"الرواية، يسرد هامبرت هامبرت حكايته بضمير المتكلم. يتحدّث عن ولادته في 1910 في باريس وعن والده الودود والمتساهل المتحدر من خليط جينيّ، سويسري من أصول فرنسية ونمسوية مشتركة، يحمل اندفاع نهر الدانوب في عروقه. يكتب نابوكوف عن فتاة إنكليزية ارتبط بها والده في الثلاثين، وعن والدته"الجذابة فوتوغرافيا التي توفيت في حادثة غريبة (نزهة خارجية، صاعقة) عندما كنتُ في الثالثة". أتت حادثة الموت مقطوفة كالبرق في النص الروائي، غير ان نابوكوف يستدعي في السيناريو حرية الإسهاب في وصف المأساة. نقرأ:"صوت هامبرت: قتَلها وميض إحدى الصواعق خلال نزهة خارجية في عيد ميلادي الرابع، في مكان مرتفع في منطقة الألب ماريتيم". يزيد بالخطّ المائل"مرجٌ جبلي- غيوم مكدسة تتقدم فوق منحدرات حادة. يندفع أشخاص عدة بحثا عن ملجأ، وترتطم أولى قطرات المطر بمعدن علبة الطعام. بينما تتوجه السيدة المسكينة في ثوبها الأبيض هرولةً صوب أحد المباني، تُسقطها هَبّة من النور الحانق. يطوف شبحها الرشيق فوق المنحدرات السود ممسكا بمظلة ومُرسلا القبلات لزوج وولد واقفين في الأسفل وهما ينظران الى الأعلى بينما يمسك أحدهما يد الآخر".
في هذا المقتطف جمال خالص راود سرد نابوكوف المتعدّد المقاربة والطبقة. لكن الألق اللغوي المتكوّر على تلاطمات هامبرت هامبرت، لم يناسب منطق السيناريو السينمائي المتكئ في الأساس على الحوار. دفع ذلك بكوبريك وشريكه في مغامرة اقتباس"لوليتا"للسينما، المنتج جيمس هاريس إلى ممارسة الرقابة على ذهن نابوكوف، فلم يترددا في اجتثاث جزء أساسي من تلك الخلفية"الروائية"ولا سيما الحكاية الجبلية هذه. على هذا النحو، يختار كوبريك بدء الشريط السينمائي بوصول هامبرت هامبرت إلى"هايز هاوس"حيث يغرم بالصغيرة لوليتا، ناهيك بحض ممثليه على الإنصراف الى الإرتجال منتهكا كل مقاربة واعية تمسك بها نابوكوف.
يجيء عام 2014 إذاً بأوراق من هذا السيناريو المفتوح على الأهواء والمقاربات، وحيث تغزر الملاحظات بخطّ يد نابوكوف لتحكي سياق تطوّر المسوّدة. في إحدى صفحات السيناريو لقاء بين هامبرت وعشيق لوليتا الكاتب المسرحي كلار كيلتي. نقرأ:"باحة فسيحة وبشعة حيث مرآة طويلة فضلا عن رأس خنزير بري ضخم معلّق على الجدار. يدخل هامبرت. بقلق السكير الخاص يغلق الباب خلفه. ينظر حوله. يُخرج مسدسا. يروح يستطلع، يروح يحدّق في غرفة ملاصقة تفصح عن بقايا حفلة إنتهت قبل فترة وجيزة، أحداق فارغة وناتئة على السجادة. لقطة أخرى: يأتي رجل ضخم (كلار كيلتي) من أسفل السلالم في ثياب حريرية. لا يسعنا أن نرى وجهه. نرى ظهره المتمدد في حين يجتاز القاعة. (...) نقرأ:"كيلتي: ظننتني سمعتُ رنين جرس الباب، غير انه يبدو اني على خطأ. هامبرت: اترك هذا الباب مفتوحا. كيلتي: مثلما تريد. هامبرت: جلبتُ لك شيئا".
في لحظة سينمائية أخرى كما تصورها نابوكوف، يلحق هامبرت وهو في حال اضطراب واضح بشارلوت الى الحديقة. نقرأ"شارلوت: هذه بنتي وهذه أزهار الزنبق خاصتي. هامبرت: (متمتما)، جميلة جميلة. شارلوت: (باستسلام جذاب) حسنا، هذا كل ما يسعني أن أقدمهُ لكَ: منزل مريح، وحديقة شامسة، وأزهار الزنبق خاصتي، ولوليتا خاصتي، وفطائري بالكرز. هامبرت: أجل أجل، أنا ممتن جدا. متى يسعني أن أنتقل الى هنا. شارلوت: ماذا؟ أتعني؟ هل ستقيم معنا فعلا؟ هامبرت: أجل طبعا طبعا. هامبرت: آه، طبعا. شارلوت: (وجهها يشعّ) يا أيها الرجل العزيز، هل كانت فطائر الكرز التي أعدّها العنصر الحاسم في خيارك؟
في مقابلة صحافية سئل نابوكوف عن "لوليتا" السينمائية فردّ ان الجزء الأكبر من المشاهد التي رآها على الشاشة لم يكن أفضل من تلك التي كتبها، ليزيد انه نادم تماما على الوقت الذي أضاعه في تأمّل"مجالدة كوبريك خلال ستة شهور ليطوّر منتجا بلا قيمة".
ينمّ الكلام عن حنق إزاء اقترافات مخرج استبدّ بخيال الكاتب بلا شك، لكن الخشية على حرفة نابوكوف من جراء ذلك ضرب من الجنون. استمر على حرفته، يستخرج النسيج اللغوي البديع من أسوأ حالات الإزعاج.
عن النهار