نزار عبدالستار ويقظة الروحانية الإنسانية.. رواية يوليانا.. فن المسير نحو الخلاص

نزار عبدالستار ويقظة الروحانية الإنسانية.. رواية يوليانا.. فن المسير نحو الخلاص

نجم الشيخ داغر
ما أن تبدأ بقراءة رواية (يوليانا) لنزار عبد الستار، حتى تشعر ان الكاتب تمكن بحرفيّة عالية ان يرجع بك عشرات السنين الى الوراء، حيث عاش ابطال روايته المليئة بالأحداث الواقعية والفنتازية، او كأنه ادخلك في برنامج محاكاة تكاد من خلاله تلمس شخوص الرواية او شم رائحتهم.

الرواية تتضمن خليطاً من الإبداع الذي يشبه ظفيرة تتشابك فيما بينها بتنظيم سلس، فهي لم تركز بسرد تاريخي او عمراني على منطقة عاشت في حقبة ما فقط، ولا هي تناولت مظاهر الحياة الاجتماعية لشريحة أثرت كثيرا في المجتمع العراقي ولكنها،وهذا ما يميزها، تناولت بواقعية مرة الحياة الانسانية المنصهرة في ذلك المجتمع وتبدلاتها التي تتماشى مع روح العصر رغم المقاومة الكبيرة من قبل بعض ابطال الرواية، وتأثير ذلك التقدم السريع على سكينتهم وسلامهم الداخلي المرتبط بايمانهم بالغيب.
تمكن نزار عبد الستار بحق ان يوقظ في القارئ،وهذا ما شعرت به أنا على الأقل، تلك الجنبة الروحية والانسانية التي تميز هذا الكائن عن بقية المخلوقات، وحلّق بنا بعيدا برقصة صوفية جعلنا نتناسى من خلالها في بعض الأحيان اعاقة البطل وشكله اللقلقي الذي لا يتناسب مع كونه بطلا ملائكياً وقديساً يجب ان يكون خالياً من العيوب والعاهات، وناقش بوعي كامل مفردات الإيمان الفردي والجمعي وكيف ان مسيرة الانسان نحو خلاصه ربما تكون عبر خريطة خاصة جداً لا تشبه أية واحدة أخرى، بل أحياناً يكون العقل الجمعي وشروط الإيمان والمسير نحو الخلاص الذي يضعها المجتمع تكون هي العائق الرئيس والمانع من الوصول الى باب الخلاص.
استطاع نزار عبد الستار الولوج بمهارة الغواص الى عمق مجتمع لا ينتمي اليه عقائدياً، الأمر الذي يكشف قدرته الكبيرة على الانتماء الى ذلك المجتمع (المسيحي) ولو بشكل افتراضي، ومشاركته (عقلياً) صراعات العقل والقلب ومكابدات الحقيقة المنعكسة على صفحة النفس النقية من خلال ظهور القديسة يوليانا لججو وبعده ولده حنا وسخرية الواقع التي تحاول طمس كل نقاوة في وحل الغرائز الانسانية وسعيها نحو التملك والتسلط والقهر.
ومن الملامح التي تميز رواية يوليانا بشدة، ذلك التناغم الرائع بين المأساة والملهاة بشكل يجعلك تقترب في بعض الصفحات من سكب الدموع، ليفاجئك بموقف او كلمة تكاد ترميك على ظهرك من شدة الضحك، وهذا ما يجعلها تقترب من كونها اكثر واقعية وملامسة للحقيقة المعاشة، كما يدهشك الكاتب ايضا بقدرته على التشويق من خلال سرد ممتع وحوارات مشبعة بالحكمة تتناول قصة الصراع الأبدي بين الخير والشر، وفسح المجال لكل طرف بتبرير افعاله من خلال نظرته الخاصة للأمور، كما في قول المهرب أبلحد المليء بالتناقضات بأنه يكره الكنائس الباردة ولكنه يحب الله، لذلك لا تستغرب عندما تراه يتبرع بالأموال التي استولى عليه بالنصب والاحتيال لمساعدة فقير او قضاء حوائج الناس، أو في الحوار الذي دار بين ججو البريء والقس يوسف عن الكيفية التي يتم من خلالها وعظ الناس، حينما فاجأ ججو القس بأن القديس مار أدي الرسول قد أمره بالوعظ، ورد عليه القس بأن الناس سيسخرون منه وعليه ان يقول للرسول بأنه لن يكون شماساً حتى لو زرع القمر وأطعم كرمليس أبد الدهر، ليأتي جواب ججو الحكيم والصادم في آن (لماذا نضع صلاتنا بين الجدران).
الرواية بشكل عام تعد محاولة جريئة وناجحة من قبل الكاتب المبدع نزار عبد الستار لسبر أغوار مجتمع لعبت فيه العقائد الدينية أثراً كبيراً في تشكله الاجتماعي ونظرته للأمور، واستطاع بخفة ومهارة الانتقال بالقارئ في حقب متنوعة من تاريخ العراق الحديث والمظاهر الاجتماعية التي مرت بها شرائحه، حتى ولو كانت نظرة عن كثب على إحداها فقط.
وفي اعتقادي،ان كان الروائي نزار عبد الستار قد استطاع وباستحقاق عالٍ ان ينال اكثر من جائزة عن روايته (ليلة الملاك)، فإن رواية يوليانا تمثل بحق جائزة مجانية لكل من يقرأها، لأنها ستبحر به نحو عالم الإبداع والصفاء النفسي ومقولات الحكمة التي نفتقدها بشدة في خضم صراعات الديكة التي نعاني منها في جميع المجالات.