كَفِن باورز في الطيور الصفر .. شهادة عن الاحتلال الأميركي للعراق

كَفِن باورز في الطيور الصفر .. شهادة عن الاحتلال الأميركي للعراق

ترجمة: عباس المفرجي
((لم يكن مقدّرا لنا ان نبقى احياء. الواقع هو إنه لم يكن لنا قدر على الاطلاق. كانت الحرب ستأخذ ما شاء لها من مدى. كانت صبورة. إنها لم تأبه بالأهداف، الحدود، أو إن كنت محبوبا من الكثيرين أو لا يحبك احدا على الإطلاق. في ذلك الصيف، حين كنت أنام، كانت الحرب تأتي اليّ في أحلامي ويظللني غرضها المنفرد: المضي قدما، فقط المضي قدما.))

الشاب الذي يتحدث هنا هو جون بارتل، جندي في جيش الاحتلال الامريكي في العراق. يشهد باكرا القتل غير النظامي، المروّع والغريب أيضا، وسيكون فيما بعد متورطا في فعل، رغم انه أُرتكب لدوافع فضلى، لكنه تقريبا سيدمّر معا عقله واي حس اخلاقي باقٍ لم يزل يمتلكه حول مهمته المنجزة، بعد سنتين من الخدمة في ساحة المعركة في محافظة نينوى. شريكه في ذلك الفعل هو رقيب، معرّف بشكل بارز بالنهلستي المتهوّر، واسمه سترلنغ، والذي يشعر جون أزاءه بأكثر أنواع الشعور مضايقة لموقفيهما المتناقضين:
((كرهت الطريقة التي كان يتفوّق بها في الموت والوحشية والسيطرة. لكن أكثر من ذلك، كرهت الطريقة التي كان بها ضروريا، كيف كنت بحاجة اليه كي يدفعني للتحرّك حتى لو واجهت الموت، كيف كان ينتابني الشعور بالجبن الى أن يصرخ في اذني ’ أقتل هؤلاء الهاجي السفلة! ‘ كرهت الطريقة التي احببته بها عندما كنت أستفيق من الرعب وأردّ على إطلاق النار، فأراه يطلق من بندقيته أيضا، باسما طوال الوقت، صارخا، وكل الغضب والحقد في هذه الأكرات القليلة يتناميان فيه ومن خلاله.))
مثل راويه، كان كفن باورز جنديا في العراق، خدم لمدة سنتين في الموصل وتلعفر. في مقدمة سريعة، يقول ان"الطيور الصفر"بدأت ((كمحاولة لحساب سؤال واحد: ماذا كان عليه الأمر هناك؟)) على أي حال، قرر بسرعة أنه غير كفء لتلك المهمة، لأن ((الحرب تشبه فقط نفسها)).
هذه مسألة متواترة في محاولة وصف تلك التجارب التي تقاسمها القليل نسبيا: الحرب، الجنون، العنف المتطرّف أو المعاناة، الأطياف الشبحية – كل هذه لا تشبه الا نفسها. لكن الواقع هو ان في حين لا يمكن نقله بكلمات، عمل الإدلاء بشهادة – ما دعاه باورز برسم ((خرائطية ضمير رجل)) – هو جوهري؛ وبينما لم يتوقع الكثيرون أن الحرب في العراق ستثمر عن رواية يمكن أن تضاهي"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"أو"شارة الشجاعة الحمراء"، لكن"الطيور الصفر"فعلت ذلك، لعصرنا، كما فعلت تلك الروايات لعصرها.
قدّم لنا باورز صورة بالغة الدقة وبصيرة للغاية عنه الرجال في الحرب: مورف الغامض والحسّاس وسترلنغ الضاري، إنما المعطوب على نحو هائل، مرسومان بدقة مدهشة، وليست مصادفة أن اسم الشخصية الرئيسية، جون بارتل، يجعلنا نفكر في ’ بارتلبي ‘ ملفيل، رجل آخر فاقد الحس الى حد أن كل ما يستطيع فعله، في النهاية، هو رفض القيام بأفعال بسيطة وقليلة يمكن ان تحميه.
سيبدو، بلا شك، أمرا متعجلا إيراد مثل هذه الأشارات في مديح رواية أولى، لكن من الصعب مقاومتها بعد قراءة متمعنة لهذا العمل الفريد: المشهد النهائي الفاتن وحده، الذي يظهر فيه جسد شاب معذب ومحطم ومشوّه الهيئة في تيار نهر دجلة البطيء، هو على حد سواء مشهد محفوف بالمخاطر الى حد بعيد ومنجز على نحو جميل؛ علامة فنان من الدرجة الأولى."الطيور الصفر"كتاب ينبغي قراءته، لا لأنه يدلي بشهادة عن هذ الحرب الاستثنائية، بل ايضا لأنه يوسّع في رؤية شحيحة بعض الشيء لكنها مفعمة بالحيوية عن الانسانية، عارها وعنفها المبهم.
((ماتبقى هو تاريخ، يقولون. هراء، اقول أنا. هو خيال أو هو لا شيء، ويجب أن يكون كذلك، لأن ما هو مخلوق في العالم، او مصنوع، يمكن ان يكون خرِبا، محطما؛ يمكن أن تكون خيوط الحبل غير منسوجة. ولو اقتضت الحاجة لذاك الحبل أن يكون معدّية لشاطئ ابعد، فيجب علينا إذن أن نبتكر طريقة لإعادة نسجه، والا سيقع غرقي في التيارات التي تقاطع مسارنا. انا اقبل الآن، مع انها في الحقيقة تأخذ وقتا، بأن هذه الـ ’ يجب ‘ يجب أن تكون هي تصريحها الخاص بها.))
عن صحيفة الغارديان