مقدمة طبعة دار المدى  لرواية  آنا كارنينا

مقدمة طبعة دار المدى لرواية آنا كارنينا

طرأ شيء من التوقف على أعمال تولستوي الأدبية المُبدعة، بعد "الحرب والسلم". وذلك لا يعني أن الكاتب يظل خالياً من العمل، على العكس: إنه يقرأ بكَثرة، ويعمل على تأليف، "كتب القراءة الأربعة" التي يَعُدّها أعظم الأعمال الأدبية شأناً في حياته. وتتفتّق في ذهنه مشروعات روايات جديدة. لكن صوفيا تولستوي تُدوَّن في 24 شباط 1870 مايلي: "قال لي البارحة مساء أن قد ظهر له نموذج امرأة متزوجة، من الطبقة الارستقراطية. ضلّت سبيلها.

وقال لي: إن مهمته تنحصر في عَرض هذه المرأة على أنها جديرة بالعطف وليست مذنبة، وما إن مَثُل هذا النموذج بين يديه حتى وَجدت جميع الشخصيات والطباع المذكّرة التي ظهرت له من قبل مكانها وانتظمت من حول هذه المرأة. "لكن ذلك لم يكن سوى فكرة عارضة؛ وبدا المشروع كأنه لا مستقبل له. وبالفعل، فإن تولستوي، في السنوات الثلاث التي تلت، يُنجز كتب القراءة الأربعة، ويدفعها إلى الطباعة في 1872، وتشغل بالَه، قبل كل شيء، فكرة كتابة رواية تجري في عهد بطرس الأكبر، رواية يُحرّك فيها جدَّه بطرس تولستوي، تلك الشخصية الملتبسة التي تنتهي حياتها نهاية جدّ مثيرة. وهو يحيط نفسه بمجموعة من الوثائق ويقرأ كتب التاريخ، ويُعيد كتابة البداية نحو عشر مرات، ثم يَعجز، في نهاية الأمر، عن الانتقال بالخيال إلى عصر العاهل العظيم، السحيق البعد، فيَهجُر مشروعَه ليعود إلى المخلوقات التي تُحيط به. إلى الوسط الاجتماعي الذي يعرُفه حق المعرفة والذي يستطيع أن يصفه بوضوح أعظم.

-1-
وإذا بحادث فاجع يقع عند جيرانه في الريف، فيردّه إلى المرأة الارستقراطية التي ضلّت سبيلها، في نظر المجتمع، من جرّاء الحب. ففي شهر كانون الثاني 1872 عمدتْ عشيقة ملاّك مجاورٍ لإياسنايا بوليانا، هي آنا بيروغوف، خيّب الحب آمالها، إلى إلقاء نفسها تحت عجلات قطار لنقل البضاعة. ولا يلبث تولستوي الذي أُنذِر بالأمر أن يصل إلى المحطة الصغيرة، وهي أقرب محطة نُقلت إليها هذه المسكينة، ويتأمل الجثمان طويلاً. وتُدوِّن صوفيا تولستوي: "رآها ليون نيكولايفتش (في مبنى المحطة) عارية الجمجمة، منزوعة الملابس، مقطّعة الأوصال. كان الأثر مروعاً وقد انطبع فيه بعمق".
لكن يجب أن ننتظر سنة بعد ذلك لنقرأ بتاريخ 20 آذار 1873 هذه الأسطر: "بدأ ليون فجأة أمس رواية عن الحياة المعاصرة. وموضوعها خيانة امرأة، والفاجعة التي جرّتها تلك الخيانة". ومنذ هذا اليوم، يدفنُ تولستوي الرواية التاريخية ويستغرق في العمل الجديد الذي سيتجاوز كثيراً، كما سنرى، الموضوع الأولي، والذي سيغتني بأغراضٍ جديدة أثناء الخلق.
كان التصميم الأولي محدوداً: كان موضوعه يروي قصة مرأة استقراطية متزوجة من موظف كبير، عشقت ضابطاً شاباً مهيبَ الطلعة، وكان هذا العشق مشؤوماً؛ ذلك أن آنا تترك زوجها، ويحتقرها المجتمع، وتحصل أو لا تحصل على الطلاق (لم يستقر الرأي على هذه النقطة). هذا الموضوع الأولي يشهد بالتأثير الكبير "لبوشكين الإلهي" في تولستوي الذي كان يقرؤه بإعجاب، ولاسيما من أجل الإيجاز في أسلوبه. فبعد أن أعاد تولستوي قراءة مقطع للشاعر يبدأ بهذه الكلمات "كان المدعوون يجتمعون في الدارة"، هتف تولستوي: "هكذا ينبغي أن تكون البداية، يجب أن نلجّ الموضوع رأساً". وليُسمح لي بهذه المناسبة أن أصحح خطأ ارتكبه "سير جهينكو" كاتب سيرة تولستوي الذي روى هذه الواقعة في 1898، وأعلن أن مؤلف آنا كارينين بدأ كتابه بالجملة الشهيرة: "كان كل شيء مقلوباً رأساً على عقب في منزل آل أوبلونسكي". فقد أشار الأستاذ "غودزي" في 1935. على أثر العمل الذي قام به حول مختلف مخطوطات تولستوي، إلى وجود مشروع أول للكتاب يبدأ، في الحقيقة، بالجملة التالية: "كان المدعوون يجتمعون في منزل الأميرة". وتظهر فيه، بالفعل، امرأة من علية القوم واسمها كارينين تتعرف، رأساً، إلى ضابط شاب اسمه غاغين، (الذي سيُدعى، بعد ذلك بقليل، بالاشوف). العقدة هنا بسيطة جداً، والرواية لا تحيد عن الخطة التقليدية للروائيين الفرنسيين حول الثالوث: الزوج والزوجة والعاشق. وكان مقرراً ألا تتضمن هذه الرواية سوى اثني عشر فصلاً وردَ منها فصل السباق، ووضع آنا، وزيارة زوجها، وورَد أيضاً في إحدى النسخ فصل الطلاق الذي سيُتيح للبطلة أن تتزوج عشيقها، ومن هنا العنوان -العابر- الذي حرص عليه تولستوي آنذاك وهو: "زواجان". كانت الرواية إذن نوعاً من الرواية العائلية ذات المرمى البسيكولوجي والقصد الأخلاقي المُثقف: لقد أراد المؤلف أن يُظهر قوة العشق المدمّرة عندما يَدخل في نزاع مع قانون الزواج المقدس، والواجبات تجاه الزوج والأولاد.
وعندما انتهت المسوّدة. كتب تولستوي إلى صديقه ستراكوف في 30 آذار 1873: "إنها رواية حية، مثيرة، تامة؛ أنا راضٍ عنها، وستكون جاهزة في مدى خمسة عشر يوماً، إن شاء الله". وطلب إلى ستراكوف أن يتولى تصحيح التجارب المطبعية! وكما نعلم، فلم يَكف تولستوي خمسة عشر يوماً بل كان لابد له من سنة كاملة لإنجاز القسم الأول وحده الذي طرأت عليه تعديلات هامة، أثناء كتابته. فقد اتسع الإطار، وظهرت شخصيات جديدة، وفصول جديدة أيضاً. وأُخِّرت بداية النص القديم إلى الفصل السادس من القسم الثاني، الخ. وظهر الكتاب، آخر الأمر، في نحو ألف صفحة. ونحن نشهد فيه، كما هي الحال في "الحرب والسلم"، نمواً متوازياً لمصير ثلاثة أزواج تجمعها بعض روابط القرابة وهي: آنا كارينين وفرونسكي في بطرسبرج؛ والزوجان أوبلونسكي، في موسكو؛ وأخيراً كيتي تشربانزكي وليفين، في موسكو تارة، وفي الريف تارة أخرى.
لقد أُجريت كثير من الأبحاث لاكتشاف الشخصيات الحقيقية التي قد تكون ألهمت تولستوي، ولاسيما في وسطه العائلي. فليس من شك أن ليفين هو مرآة لشخصية المؤلف، أو على الأصح هو أحد اتجاهات شخصيته، إلى الحد الذي قال فيه أحد النقّاد: "إننا لنتساءل أحياناً أين تنتهي الرواية وأين تبدأ مذكّرات تولستوي الحميمة". ومن الواضح أن وََصْف نهاية نيقولا المحزنة الذي مات بالسل، يُذكر بموت أخي الكاتب الذي تُوفي في "هيير"، في فرنسا سنة 1860. ونحن نعلم، من جهة أخرى، أن نائب حاكم موسكو "بيرفيلييف" قد تعرّف نفسه من خلال ملامح الطيب القلب "ستيفا أوبلونسكي". وقد رأينا أي نموذج استلهمه المؤلف لرسم صورة آنا كارينين نفسها. لكن لعبة الأحاجي تنتهي ها هنا. فالشخصيات الأخرى مكوّنة من قسمات استقاها تولستوي من كائنات شتى وألف بينها بفنّه، وعلى طريقته الخاصة: ذلك أن الجوهري عنده هو أن يعطي صورة حيّة وأمينة للمجتمع الذي يتحرّك فيه. والواقع أن تولستوي لم يُجِدْ التعبير قط إلا عما أحس به هو نفسه أو عما عاشه الآخرون تحت بصره.
إن "آنا كارينينا" تبدأ إذن، في نصّها النهائي، بمأساة أسرة أوبلونسكي، وهي نظير مأساة آنا: لكن خطيئة ستيفا، أخي البطلة، تظل خافية عن "الناس"، ولا تنجم عنها أية فاجعة. ولقد ظهرت آنا، ذلك الكائن الذي يفيض سحراً ورشاقة، أول ما ظهرت في غمرة النكبة العائلية، وكأنها رسول العناية الإلهية الذي جاء من بطرسبرج إلى موسكو ليُوحي بالمغفرة وليُحقق السلام بين الزوج المتقلب والزوجة المخدوعة في الأغلب. وما أن نُحِّيت هذه المأساة، حتى برزت مأساة أخرى أشد خطراً بعواقبها: فعند وصول القطار إلى موسكو لقيت آنا "هذا الفتى الطيب والفاتن" فرونسكي وهو لقاء سيكون شؤماً عليها. فبعد أن أصلحت آنا بين الزوجين "أوبلونسكي" قصدت إلى الحفلة الراقصة حيث "ستسحر" فرونسكي "بإغرائها الغريب" وستَفْجع كيتي التي كانت على وشك الزواج بالفارس الجميل. وعند عودتها بالقطار إلى بطرسبرج -القطار الذي دهس رجلاً، وذلك نذير شؤم- تبعها فرونسكي الذي يريد أن "يكون حيثما تكن"، لأن الهوى قد فتنه كما فتن آنا نفسها، وهو لا يستطيع أن يفعل غير ذلك. إن معنى "الحتمية" البارز أشد بروز في "الحرب والسلم" يعود إلى الظهور هنا بلجاجة لا تقل عما في الحرب والسلم.
ولا يفوتنا أن نشير، في طريقنا، أن آنا كارينين، في مشروع الرواية الأول، لا تتألّق لا بجمالها ولا بخُلقها، في حين يبدو زوجها شخصاً قريباً من النفس. لكن وجهيْ الزوجين سيتغيران شيئاً فشيئاً، مع تغيرات رواية النص نفسه: ستغدو آنا شيئاً فشيئاً أكثر إغراء وجاذبية في حين أن زوجها ينتهي باتخاذه مظهراً منفّراً (أذناه!) وسوف يصوَّر باعتباره نموذج الموظّف الديواني الجاف، "وهو آلة، وليس إنساناً" كما ستعرّفه آنا نفسها.
ولم تصمم آنا على هجر زوجها وابنها لتقيم مع عشيقها إلا بعد صراع نفسي طويل. إنها أعظم صدقاً واستقامة من أن تقبل بوضعها الملتبس، وأعظم حساسية من أن تكبت شعورها الفاجع بدورها كامرأة ينبذها المجتمع لأنها تصرّفت بصراحة، هذا المجتمع الراقي الذي تنتمي إليه والذي يغْتفر أشد المواقف زيفاً (أوبلونسكي، بيتسي، العجائب السبع) إذا ظلّت مخبّأة، وإذا راعت القاعدة الاجتماعية. إن آنا التي لا تطيق الرياء، تكره الكذب وتتحدّى المجتمع. بيد أن المجتمع لا يغفر لها، ففي المساء الذي قصدت فيه المسرح، أشعرها معارُفها بذلك على نحوٍ قاس. وهكذا فإنها ترى نفسها مَدينة، دانَها عالم ليس أهلاً "للحكم عليها". العدل الإلهي وحده، يستطيع في عرف تولستوي، أن يُنزل بها عقابه لأنها هجرت زوجها وابنها. وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم تلك العبارة المعمّاة التي صدّر بها روايته. ولقد قرأها تولستوي في نص لشوبنهاور بالألمانية. لكن يبغي آلا نعطي تلك الجملة المعنى الذي يمكن أن يكون لها في سفر التثنية حيث يتحدّث يهوه عن استئصال جميع أعداء الشعب المختار. بل يجب أن نضعها في منظور بولس الرسول (الرسالة إلى أهل رومية -12) حيث قيل: إنه ينبغي ألا نردّ على الشر بالشر، بل أن نعيش بسلام مع الجميع، وأن نحب أعداءنا وأن نقابل الشر بالخير "لا تنتقموا لأنفسكم، أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب" لأنه هو الذي يجازي، في الحقيقة. ونحن نجد هنا بذرة تبشير تولستوي المقبل. بحيث أنه ليس لأحد، في المجتمع الفاسد الذي يَسْتحضره تولستوي، حتى اتهام آنا أو قبول تحدّيها الذي تلقيه في وجه المجتمع بصدق هواها وتماسك منطقه. فالنزاع العائلي، وهو موضوع الرواية في بداياتها، يتحول، كما نرى إلى نزاع بين الفرد والمجتمع.

-2-
ليس للمجتمع الحق في اتهام آنا. لكن للكاتب، بالمقابل، الحق في اتهام المجتمع. نحن في عصر، في روسيا، يسعى فيه الأدب جهده للكشف عن عيوب النظام الاجتماعي ومفاسده. ويكفي أن نفكّر في "شياطين" دستويفسكي وفي كل أعمال سالتيكوف -شتيدرين. وسيتحول تولستوي بدوره إلى مُتّهِم للمجتمع المعاصر، لكن بعبارات أكثر اعتدالاً بكثير من عبارات هذين الكاتبين. والواقع أن المجتمع الروسي الذي يهاجمه هو مجتمع في أوج مرحلة الانتقال والتفكك، مرحلة "انقطعت فيها -كما قال بحق الشاعر نيكراسوف- السلسلة الكبرى فضربت بأحد طرفيها الإقطاعي وبالآخر الفلاح" فالإقطاعيون يصعب عليهم أن يتكيّفوا مع الشروط الجديدة للعمل الحر، والفلاحون لا يحصلون إلا على القليل من الأرض ولا يستطيعون أن يخرجوا من فقرهم. ويجري البحث عن طرق جديدة، وصيغ جديدة. لكن عادات النظام المحافظ تشتد وطأتها على الحياة الاجتماعية وتضع العراقيل في كل مكان.
حين وسّع تولستوي إطار روايته مازجاً بها تصوير المجتمع في زمنه وخالقاً لذلك طائفة من الشخصيات، فقد تصدى لمشكلات في غاية الخطورة: وقبل كل شيء مشكلة الطلاق الذي يصعب التوفيق بينه وبين مفهوم الزواج الديني الخالص، وهو مفهوم يناقض، في الغالب، مقتضيات الحب الحقيقي والحرية الفردية. ثم هناك الإدارة العليا التي تتصدى لمسائل خطيرة من مثل ري الأقاليم وتوطين السكان المتنقلين، الخ؛ لكن هذه "الديوانية" بعيدة أشد البعد عن الحياة الواقعية حتى إن أفضل المشاريع تغدو، في النهاية، ذريعة للتنافس الشخصي وللمكائد. كارينين، زوج آنا، مثلاً أليس ديوانياً مندفعاً، دقيقاً، شريفاً؟ لكن خصاله هذه تَبلى مع الزمن في جو "الورقيات" وتحاسد المكاتب. ستيفاً أوبلونسكي هو أيضاً، من جهته، موظف ممتاز، لكنه متقلّب الطبع، محب للمرح، يُثقل نفسه بالدين ويضطر إلى التماس عمل في "لجنة الوكالات المتحد’ وهي في أيدي الرأسماليين الذين لا يتحرّجون من شيء. أما المجتمع الارستقراطي في بطرسبرج فتمثّله الكونتيسة ليديا، على وجه الخصوص، وهي مسيحية كاذبة، تقويّة، مؤمنة إيماناً بليداً باستحضار الأرواح الذي كان شديد الشيوع آنذاك. وهي عديمة الإحساس إلى الحد الذي منعت فيه كارينين من مطاوعة مشاعره الكريمة: أي منح آنا الطلاق. وقد نجحت في إقناعه بالانسياق لعرافة عراف، مشعوذ فرنسي. وحولها تدور طائفة من النساء الارستقراطيات، العاطلات عن العمل، المتعاليات، الثرثارات والخاليات تماماً من الأخلاق، في معظم الأحيان. أما الرجال، الضباط فهم، في معظمهم فتيان، طيّبون، يحاولون أن يكونوا لطفاء وشرفاء. لكن قانون الشرف عندهم الذي حدده فرونسكي يُدهشنا مع ذلك: مثلاً، يجب أن يدفع المرء ديون القمار ولو لغشاش، لكن ليس مهماً أن يدفع دين المتعهد أو الخياط، لا يجوز أن يخدع المرء زميله، أما الزوج فيجوز أن يخدعه... الخ.... وفرونسكي يخضع لقانون الأخلاق الملتبس هذا، بالرغم من حُسن نيته. فهو يبني في الريف مستشفى فخماً كلّفه مائة ألف روبل، لكنه يرفض خفض أجرة المزارعة للفلاحين الفقراء.
أما الطبقة النبيلة في المقاطعة فتتألف، في جزء منها، من الرجعيين الذين يأسفون على زمن القنانة، بينما يبدو للكاتب أن الجيل الجديد، لا يفهم حاجات الشعب الحقيقية، ويضيع في المناورات الانتخابية. وأعظم ممثل لهذه النزعة التحررية هو الأستاذ كوزيتشيف. فهو، بالرغم من ذكائه، وفكره، وسعة معرفته، يعيش بعيداً عنا لحياة الواقعية، ويجهل كل شيء عن حياة المقاطعة وحياة الفلاحين. والمؤلف الضخم الذي كرّس له ست سنوات من حياته والذي عنوانه "بحث في المبادئ والأشكال الحكومية، في أوروبا وروسيا"، والذي يمدح فيه محاسن النظام الدستوري، قد استقبله الناس بلا مبالاة. فجُرح المؤلف بسبب ذلك، وأحس أنه هو نفسه عديم الفائدة.
ولقد وصف تولستوي، بضرب من السخرية اللاذعة، ومن خلال الكثير من التفاصيل، مجلساً انتخابياً للنبلاء في المقاطعة، "هذه المؤسسة التي انقضى عهدها والتي لا تعيش إلا بقوة التقاليد"، وبالمقابل فلن يتحدث تولستوي عن المجالس المحلية، هذه المؤسسة الجديدة التي كانت اختصاصاتها موقتة وأهدافها مباشرة أكثر من تلك. ولعل سبب ذلك لأنه عانى بعض الخيبة بهذا الصدد ، أو لأنه أخذ يظهر ميله لإدانة جميع وظائف الدولة والإدارة والعدل، ولاسيما الحرب، تمهيداً لفوضويته الدينية في السياسة. وفضلاً عن ذلك، فهو لا يتعاطف مع السلافيين الجنوبيين في 1876. وهو يصوّر سفر المتطوعين الروس إلى بلاد الصرب باعتبارها مغامرة يقوم بها أفراد فاشلون، لا عمل لهم. وهو لا يستطيع أن يوافق على فكرة الحرب العادلة، بعكس دوستويفسكي الذي دافع عنها في السنة نفسها في "يوميات كاتب" .

-3-
إن هذا النقد لمجتمع يخلق فيه المال هوة بين الطبقات كان، كما نعلم، سمة مميزة للأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر. ونحن نجد هذا النقد أشد قوة لدى فلوبير، وبلزاك، وزولا بطبيعة الحال، على سبيل المثال. لكننا نستطيع القول: إن تولستوي يختلف عن هؤلاء الواصفين الموضوعين "للملهاة البشرية" بالعنصر الذاتي الذي يُدخله في روايته بل ويمنحه مكاناً عريضاً، وهو ما يجعل الرواية أحفل بالتأثير وبالحياة. فبواسطة شخصية ليفين يُطلعنا على ردود أفعاله الخاصة أمام مأساة عصره الاجتماعية، ويشارك في النقد الجاري؛ إنه هو نفسه مقحم في النزاع. والواقع أننا، مع ليفين، بإزاء محاولة للبطل الإيجابي: الرجل الفاضل، العفيف، الشريف، العاقل، المثقّف، المشغوف بقضايا الحياة الريفية، المشمئز من المجتمع الارستقراطي، وإن لم يقاطعه. وهو يتمنى، مثل آنا، أن يحيا باعتباره كائناً حراً، بعيداً عن المواضعات الاجتماعية، وهو أيضاً منجرف وراء حب ملتهب. لكن هذا الحب نقي، يفضي إلى زواج سعيد على عكس عشق آنا، الفاجع الذي يفضي إلى الموت، تحت وطأة الخيبة.
لقد أُشير غير مرة إلى التشابه بين حياة ليفين والحياة التي عاشها تولستوي في "إياسنايا بوليانا"، بدءاً من مشاهد التزلج والصيد والعمل بالمنجل، الخ... إلى حركات نفس هذا الشاب الريفي النبيل التي تُماثل حركات نفس تولستوي. إن ليفين يحس، مثل تولستوي، أنه طاعن في السن، وأنه غير جدير بخطيبته المعبودة، ونحن نعلم أن المكاشفة الغرامية الصامتة، التي استخدمت الحوَّار لكتابة الأحرف الأولى التي تبدأ بها الكلمات، مأخوذة من سيرة تولستوي الذاتية، مثلها مثل فصول الاعتراف والزواج الرسمي. والحياة العائلية الجديدة، وولادة الطفل الأول الذي انتظره الزوج طويلاً، ومجيء هذا الطفل وردود أفعال الأب عند مرآه، كل ذلك قد عاشه الكاتب نفسه. ومن هنا كثافة هذه الصفحات الفذة، كل ذلك قد عاشه الكاتب نفسه. ومن هنا كثافة هذه الصفحات الفذة، النابضة بالحياة. وليفين، مثل تولستوي، يستشف، وهو يشهد موت أخيه، وراء هذا السر "ثغرة في الحياة العادية تكشف عن شيء أعلى". وسيعمد الأب الشاب بدوره إلى البحث عن تلك الحقيقة العليا، إنه يبحث عن المعنى النهائي للحياة والموت مثلما يبحث في الوقت نفسه عن اكتمال وجوده، عن حياة سليمة وأخلاقية. إنه يبحث عن ذلك كله، لكن ليس من السهل عليه أن يعثر عليه. فلن تحمل إليه متع اللهو التافهة في المجتمع الراقي ما يبحث عنه؛ ولا ذلك النشاط الإداري الذي اندفع فيه زمناً ثم استقال منه مؤكداً أن "الحكم الذاتي وعدالة السلام غير مجديين". وفي مجلس النبلاء يبدو كالغريب ولا يفهم شيئاً من المناورات السياسية البارعة التي يباشرها أصدقاؤه. وبالمقابل، فهو يحسّ أنه أقرب كثيراً إلى الفلاحين، إلى آغات ميخايلوفنا، إلى الحاصدين، إلى مربّي النحل، بيد أنه يلاحظ أن هناك حاجزاً يقوم بينه وبين عالم الفلاحين.لا، ليس من السهل عليه أن يجد خطاً للسلوك صحيحاً وفعّالاً. إنه يشعر من جانبه، بالظلم الذي ترزح تحته الحياة الاجتماعية من جراء الملكية الكبيرة والتوزيع المتفاوت للخيرات، لكنه لا يحاربه إلا بوسائل غير ناجعة. وهكذا يقترح على الفلاحين أن يتنازل عن نصف دخله ليثير اهتمامهم بإدارة أملاكه التي لا يريد أبداً أن يتخلّى عنها، لأنه يحسُّ أن تعلّقه بها أخذ يزداد منذ أن أسس أسرة... يقول تولستوي وهو يتحدث عن بطله: "عندما كان يحاول قديماً أن يعمل بحيث يحسن إلى الناس جميعاً، إلى الإنسانية، إلى روسيا، إلى قريته، لاحظ أن هذا النوع من الأفكار مُفرح للقلب، لكن النشاط الذي ينجم عنه يظل غير مرضٍ: كان ينقصه اليقين من أنه يصنع عملاً ضرورياً، وكان نشاطه الذي يبدو، في مطلع الأمر، على درجة كبيرة من الاتساع يضيق شيئاً فشيئاً ويتحوّل إلى لا شيء. أما منذ زواجه فقد اكتفى بأن يعيش لنفسه؛ ومع أنه لم يكن يشعر بأي حبور إزاء نشاطه، فقد كان على يقين من أنه يقوم بعمل ضروري يُعطي نتائج مرضية أكثر فأكثر. لقد غدا الآن يغوص في أعماق الأرض، ضد إرادته إن صح القول، كما يغوص المحراث فيها، ثم لا يستطيع أن ينتزع نفسه منها إلا بعد أن يُنهي ثلمه". أراد ليفين أن يعيش كما عاش أهله وأجداده، ويحافظ على أرض السلف ليورثها خلفه. لكن، لم يتسنَّ له، في غمرة مشاغله، أن يتساءل إن كان "يفعل خيراً أم شراً"، كان يعيش وهو يجهل ماهيته وعلة وجوده على هذه الأرض. ومع الزمن، عذّبه هذا الجهل حتى إنه كان يفكّر في الانتحار، وهو الزوج المغبوط والملاك السعيد. وبعد خمس سنوات استطاع مؤلف آنا كارينين أن يكتب في اعترافاته: "منذ خمس سنوات، بدأتُ أشعر بأعراض غريبة. كانت تُصيبني لحظات من الحيرة، من توقّف الحياة، فلا أدري ما أنا فاعل ولا لمَ أنا موجود. وكان توقف الحياة ذاك يتجسّد في سؤالين: لماذا؟ وماذا بعد ذلك؟ وكأنني قد عشتُ زمناً طويلاً مكتفياً بالحاضر، غير متطلّع إلى المستقبل، وسرتُ إلى الأمام حتى وصلت أخيراً إلى شفا هوّة ليس لي بعدها من أمل سوى العدم والهلاك الأبدي. كنتُ أسعى بكل قواي إلى الابتعاد عن الحياة. أنا الذي كان يُعدُّ أحد سعداء هذا العالم، فاجأتُ نفسي وأنا أبعدُ عن نظري حبْلاً كان يمكن أن أشنق نفسي به لو علّقته بالجسر الذي يفصل بين خزانتيْ غرفتي. وكففتُ عن الذهاب إلى الصيد، لأن بندقيتي تُيسّر لي سبيل الخلاص من الحياة".
هذه التجربة، عاناها في الوقت الذي كان يكتب فيه آنا كارينين. وما سيُنقذه من الانتحار هو الاحتكاك بالنفوس البسيطة، بأبناء الشعب الشغّيلة، الأتقياء. كتب حوالي سنة 1876: "بعد سنتين من هذه الحياة مع الشعب، حدث فيَّ تحول. إن حياة أمثالي من الأغنياء والمتعلمين لم تَبْعث فيَّ سوى الاشمئزاز؛ وبدت لي أيضاً فارغة من المعنى. وظهرت لي جميع أفعالنا، ومشاغلنا الفكرية، وفنوننا، وعلومنا، بمظهر جديد. وأدركتُ أنني هنا بإزاء ألعاب المترفين التي لا يُجدي البحث عن أي معنى لها. فأخذتُ أستفظع نفسي وأقف على الحقيقة. "حينذاك استطعت أن أرى الأشياء جميعاً بوضوح".

-4-
هذه الحقيقة التي بحث عنها الكاتب بعناد، قد وجدها ليفين بدوره في كلمات الفلاح البسيط: "يجب أن يعيش الإنسان لروحه بحسب الحقيقة وبحسب قانون الرب". كما وجدها بطرس بيزوخوف في "الحرب والسلم" لدى احتكاكه بأفلاطون كاراتايف. هذا القانون قد احتوى عليه الإنجيل، وليفين الذي أضلّتْه طقوس الدين وعماياته يصل إلى الاقتناع بأنه ليس هناك عقيدة من عقائد الكنيسة يمكن أن تنال مما هو جوهري: الإيمان بالله، في الخير، باعتباره الغاية الوحيدة للإنسان. وهكذا يعثر على الإيمان -وموهبة الصلاة أثناء العاصفة حيث كادت الصاعقة تضرب زوجته وابنه.
إن هذا الريفي،النبيل، الشاب هو سعيد، كما يظهر في الخاتمة؛ وهو أخيراً على طريق ما كان يبحث عنه وقد اتسع تفكيره: "إذا كان الدليل الأساسي على وجود الله هو إعلان الخير، فلماذا ينحصر هذا الإعلان في الكنيسة المسيحية؟" إن جميع المؤمنين في جميع الديانات يمكن أن يجدوا هذا الإعلان، وبالتالي فإن جميع الناس ينبغي أن يكونوا أخوة. وهناك سمة يمكن أن نشير إليها عرضاً وهي أن ليفين لا يَنْقل شيئاً من أمر هذا الاكتشاف إلى زوجته، إنه يُخفي عنها الشعور الجديد الذي وُلِدَ فيه. فهو يستمر، في الظاهر، على الحياة التي كان يحياها من قبل، لكن كل لحظة من لحظات حياته سيكون لها، منذ الآن، معنى أكيد: هو "معنى الخير". وهاتان الكلمتان هما اللتان تنتهي بهما الرواية العظيمة التي مثّلتْ الصراع بين الخير والشر؛ وقد قُدِّر للخير أن ينتصر في نفس ليفين وفيما حوله، على الأقل، كما لاحظ "دي فوغي": "وذلك هو حل تلك المأساة العقلية الطويلة في إشراقة السعادة الصوفية، هو نشيد الحبور الذي تُعلن فيه العقلانية إفلاس العقل". إن حماسة الإيمان تتغلب، عند ليفين، على نقد العقل الخالص؛ وشكوكه تتبدد لدى احتكاكه بإيمان الشعب.
لكن كان من المتوقع أن هذه الحالة الممتازة لن تدوم. فبعد سنتين أو ثلاث من نشر "آنا كارينين"، نجد أن تولستوي -ليفين، الذي ظل في بحث مستمر عن المعنى العميق للمصير الفردي والاجتماعي، يَعْدِلُ عن المسيحية الرسمية، والفن، والمعرفة؛ ويكفر بالدولة، ويكشف عن وجهه الفوضوي، ويغدو رسولاً لدين جديد، باسم يستنكر رواياته، وباسم يزعم أنه لن يكتب سوى مؤلفات أخلاقية وقصص مُثقفة للشعب.
بيد أن آنا كارينين تظل إحدى الروائع التي يقرؤها العالم بأسره ويُعجب بها. وبالرغم من تعدد المشاهد والشخصيات، والاستطرادات من كل نوع وفي مختلف المسائل، فإن نفحة إنسانية لا مثيل لها تبثّ الحياة فيها. وهي في مجموعها وفي تفاصيلها مدهشة في صنعها، كاملة في تماسكها الداخلي حتى إن تولستوي نفسه استطاع أن يقول رداً على نقد راتشنسكي الذي لامه على تخلخل البناء باعتباره العيب الأساسي في الرواية: "إن عقود القبة متضامة بحث أننا لا نستطيع أن نجد الحجر الأساسي للعد. وروابط البناء ليست في الموضوع أو في العلاقات بين الأشخاص، بل إنها في الترابط الداخلي". فإلى جانب الحرب والسلم، تتجلّى آنا كارينين على أنها رواية بسيكولوجية عظيمة الأعماق، وعلى أنها لوحة هائلة للمجتمع الروسي في مرحلة حرجة من تاريخه، وتتجلى، عبر ذلك كله، على أنها جهاد نفسٍ في بحثها عن حقيقة الحياة.
الكسندر سولوفييف.
مقدمة الطبعة العربية لرواية انا كارنينا
ترجمة صباح الجهيم
اصدار دار المدى