بنية الكتابة.. تجميع الصراع وسعي التحليل وتفكيك المعنى في رواية

بنية الكتابة.. تجميع الصراع وسعي التحليل وتفكيك المعنى في رواية

علي لفته سعيد
تبدو العلاقة واضحة بين العنوان في رواية (تسارع الخطى) لأحمد خلف وبين بنية الكتابة التي انتهجها كتدوير بنائي للثيمة والفكرة وهو ما يجعل الترابط واحدا من اهم الطرق التي يبحث عنها المتلقي كلما سارع هو الى مسك خيوط الفكرة التي تتعامد مع الهدف والقصدية وتكون في حالة افقية في طريقة البناء واستخدام اللغة وتوزيع الشخصيات.

بنية العنوان
ان العنوان اذا ما عد العتبة الاولى او بقعة الضوء الكبيرة التي تسلط على الأجزاء الأخرى من مساحة النص التي ستزرع بأفكار وطرائق الثيمة فانه يعني ان "تسارع الخطى" تحتاج الى تأنٍ في التأويل والى مفتاح قادر على فتح مغاليق النص والى مسك الضوء والكشف عن بؤر التسارع والخطى داخل النص من خلال ربط الشخصيات وحركتها بالتزامن مع الزمان والمكان وما يمكن ان يفضي الى الواقع الثقافي للمؤلف والواقع القصدي للفكرة والتي يبدو من خلال الوهلة الاولى انه تسارع من اجل الهرب او تسارع من اجل التخلص من شيء ولكن يمكن ان ننطلق باتجاه التأويل والتحليل وتبيان معالم القصدية من ان التسارع نحو الحرية والانعتاق من ربقة الخوف والتخلص من فعل الاسر ولهذا يحتاج هذا التسارع الى تفكيك اسباب الخطف التي ستتضح بمحمولها الدلالي وبعدها الفلسفي انه لم يكن مختصرا ومقتصرا على شخصية البدل الذي حمل اسم عبد الله بل ان عبد الله هو المواطن العراقي.
قيادة الاستهلال
تبدا الرواية فعلها الحركي المرتبط بالعنوان منذ الاستهلال.. المفتتح الذي يقود سير الحركة الى الأمام ومن ثم رسك طرق الانتقال الكتابي للحركة المصاحبة سواء منها للشخصيات او الذكريات المرتبطة بكل تأكيد بالشخصية المحورية الرئيسية.. ولان الاستهلال يبدا بحوار بين اثنين راوٍ يروي هذا الحوار ليبدا تداخل فعل التدوين وتسطير وطرح المعلومات عن الشخصية الرئيسة / البطل المحوري وان تشعب الى عدة ابطال في تشابه مقصود واختلاف متعدد بالنيات والافعال والصراع والثيمات.. الحوار الذي سكب في أول السطر ربما لا يوحي بحوار عادي بل هو مقصود في البناء وهو فعل سؤالي اي حوار السؤال الذي يتعكز على عملية البحث عن إجابة.
- هل لي معرفة اين انا الآن؟
هذا الاستهلال هو السؤال الزمن الآني المفضي الى حيثيات تقود عمليات البحث عن الإجابة وغور مشاكله اي السؤال وتفكيك أدواته أي الزمن وتحديد آفاقه اي الصراع والتركيز على معنوياته اي الأفق المعرفي المخيالي الذي يبدا بقوة المشاكسة من جهة او الخوف او نقطة عليا لإضاءة الصراع والتصادم بين حالتي الإيجاب والسلب في العلاقات الروائية وتنظيمها.
- لتبقَ ساكتاً وساكناً ايضا عليك أن تكفّ عن السؤال فلن يصغي إليك أحد.
لن يكون جواب الآخر على سؤال الاستهلال هو بداية او مفتاح البنية الكتابية بل هو القوة الاولى لمعرفة بنية الصراع لان هذا لم يكن السؤال الاول (عليك ان تكف عن السؤال) وهو ما يعني ان البينية الكتابية في إدارة الحدث ستكون غايتها فك طلاسم العنوان في لهاثه فتسارع والخطى يعني الركض واللهاث والهم في الوصول وفك الشفرات وتفكيك العلائق.. والبحث عن الفسحة في الاختناق واهمية ما حبلت به مفاتيح الاستهلال من أجنة تريد اكتمال معالمها وتقشير الخوف الذي زرع منذ البدء (قد تأتي بالسوء الى قلبك المكلوم فانت خائف وربما ينتابك عشرات الصور المفزعة.)
ان الاستهلال وهو يضع العتبة الاولى.. الشخصية/، الصوت الاول.. الشخصيات/ الرد على الصوت الأول.. ليبرز وجود المرأة ولهذا نرى ان الحوار يطرح أسلوبين المخاطب على لسان المرأة ما بعد الاستهلال حيث تتكشف الخيوط التي نسجها السؤال والاجابة لتتبين معالم المكان والشخصيات المرافقة.. وكذلك الاسلوب الثاني هو الغائب الراوي بدلا من البطل / الفنان.. وهذا الاسلوب يتحول الى اسلوب المخاطب حين تتصاعد ذروة الحوار مع النفس/ حوار داخلي للبطل الذي يتبين من فعل الاستهلال انه رجل مخطوف من قبل جماعة مسلحة او تشتد ثيمة الصراع بين ما يتم وضعه بين الاقواس لعلاقة بين الراوي / البطل والراوي / الروائي الذي يتدخل في الكثير من الاحيان لبث ما يعين على اكتمال الفكرة وما لها علاقة بالوطن والصراع داخله والاحتراق السياسي وبالتالي تدخل الروائي هو معين لسرد المعلومات داخل الحكاية.
لذا فإن بنية الكتابة بدأت بمستوى إخباري في استهلال يصاحبه المستوى التصويري المختبئ خلف المستوى التحليلي بمعنى ان التصوير للمشاهد لم يكن بارزا بمفرداته الواضحة بقدر ما كان يرافق هذا التصوير طريقة الروي التي يمكن وصفها بانها تنتمي الى المستوى التحليلي.. ولذلك فان هذه البنية اعتمدت في بعض مفاصلها على منح المعلومة الصحفية لتبيان طبيعة الصراع أو سببه او زمنه من خلال وضع الكلام تارة بين قوسين او داخل كلام الراوي الغائب او المتكلم الراوي او بين شارحتين وهو ما يعني ان هناك راوياً اعلى هو الروائي ذاته.
شخصنة
الرواية ملاحقة لحدث.. شخصية فنان وهي شخصية تتوسط الشخصيات الاخرى وقد اختيرت على انها المثقفة البسيطة التي لا تنتمي الى السلطة من جهة ولا تقترب من قاتلي الجمال وهي ضمن التعهد الاخلاقي للمجتمع وبالتالي فان شخصية الفنان والاصح الكاتب المسرحي بالإمكان وضع شروط الروي بما يتلاءم مع الشخصية ومكنونها.. ولانه فنان يستشعر الواقع فهو متذبذب ايضا وخائف والشخصيات التي حوله متمردة وخائفة وقوية وقاهرة وملعونة ومجرمة ومستغلة.. هو يريد اكتشاف الاشياء مثل شخصيات الرواية التي تريد الانغماس في الحياة لذا كانت المحاور الاخرى منغمسة في الخارج عن المألوف هند التي ارتكبت حماقة وصديقها رياض وعبد الله الخال الذي جعله الفن والكتابة الفنية اكثر معرفة بالواقع وغير متعصب ويفهم الوقوع بالخطأ الذي سببه الحب وكذلك الصورة الادهاشية لأم عباس وابنها والصرة والانفجار وكلها شخصيات ارتباطية بالحدث وان التصقت به كدليل معاناة في ترتيب البيت الذاكراتي للبطل.. الخاطفون وطرق اللغة الابدية التي ابتلي بها الشعب. الخاطفون في الرواية بلا وجوه حتى لا يكون لهم دليل ودلالة لجهة ما. وصف مخترق بالخوف وخوف يرتعد من الواقع.. الشخصيات التي تلعب بالمصائر والشخصيات الملعوب بمصيرها حولها الروائي الى شخصنة محورة في جميع الاتجاهات وخاصة شخصية عبد الله التي جعلها محورة يمكن لها ان تكون اي شخص او فرد وهي تنتقل من كونها شخصية فنان وكاتب مسرحية يتطلع الى كتابة نص جديد واسماه (الصرة) بما تحمله هذه المفردة من دلالات شعبية وايحائية دالة على المكنون الاجتماعي من جهة والاختناق الفردي في الهواجس من جهة ثانية والباحثة عن لحظة انعتاق من اختناقها لكي ينكشف ما بداخلها وهو يكون سريا دائما في الدال والمدلول لهذه الكلمة الشعبية.. وهي لها علاقة ايضا كعنوان مؤجل لنص مسرحي حياتي لم يكتب بسبب الاحداث لان تكون هي ذاتها شخصنة ايحائية مرمّزة في مخيالها لترتبط بالهواجس الاخرى حين نكتشف ان عبد الله هنا المحرك والمحور هو ضحية مرة ومجرمة مرة اخرى وفاسدة ثالثة فهو المتهم الذي لا يعرف لماذا تم أسره وهو فعل مقصود إن العراقي يتعرّض الى الطف لمجرد الخطف حتى لو كان من اجل المال رغم انه كشخصية فنية ليس لعائلته القدرة على دفع الفدية وهو ايضا التاجر والوسيط التجاري وهو محرك آخر من التغيرات التي حصلت في العراق ما بعد التغيير وهو هنا يمثل نقطة الاجرام المنتشر وعبد الله الشخصية السياسية التي تريد من عبد الله الفنان ان يكتب له سيرة كاذبة لتزييف التاريخ الشخصي وهو هنا نقطة الفساد وهو عبد الله الذي يريد ان يحصل على مناقصات من التجارة مع الدولة وهو هنا نقطة السرقة وبالتالي فان تعدد (عبد الله) لشخصيات عديدة اصبحت شخصنة لكل التضارب الذي يمكن ان يفضي الى الفوضى القاتلة وليست الى فوضى إرباكية لأنها تؤدي الى الموت والقتل والاختطاف وغيرها من عناوين الجرائم الجديدة بما فيها عنوان الجنس والقوادة والفعل المنغمس بين الفضيلة والعهر وما تمثله القوادة ومن يساعدها في التأثيث لعنصر الخراب. بمعنى ان صراع عبد الله مع المحيط الذي يبدا بالخطف وينتهي بالفنانين الوصوليين والسياسيين وهلعه وحبه وانعتاقه من العادات والتقاليد ومعاناته مع النكاح وسوءاته مع التجارة وخيباته مع السياسة وفشلها واساليبها مع الفقر وانمحاء آدمية عبد الله ليكون القاسم المشترك الاعظم لحياة العراقيين الذين يواجهون صناعة الأزمات التي تجعله مكبلاً لا ينفك من الخروج من عنق واحدة حتى يدخل زجاجة أخرى ونفقا اكثر ظلاما ليتحول القاسم المشترك الأعظم الى اللامعقولية.
ما نود قوله ان شخصية عبد الله الفنية تمكّن الروائي من طرح الأفكار على لسان الراوي والاستفادة منه في تحليل الشخصيات والواقع معا وان بإمكانه ان يأتي بنصوص اخرى تبين ثقافة الراوي والشخصية وخاصة المسرحية منها بما يتعلق مثلا بشكسبير وديستوفسكي وغيرهما لإعطاء أبعادا سايكولوجية لهذه الشخصيات وكيفية تصرفها وما هي جذورها.. وهو بالتالي / البطل / عبد الله / الفنان شخصية غير محظوظة في بلد مرتبك وهو اصلا لم يأخذ فرصته وهو هنا معادل موضوعي لأزمة المثقف من جهة والإنسان العراقي من جهة أخرى.
مستويات السرد
يعتمد البناء الدرامي في الرواية على تحريك فعل الروي والانتقال من صيغة الى اخرى عبر ثلاث مستويات الاولى من الغائب الى المتكلم والثانية من المتكلم الى المخاطب والثالثة من المخاطب الى الغائب وهي تندمج جميعها في لوحة السرد خاصة وان الرواية في لهاثها وخطاها المتسارعة احتاجت الى بنائية من نوع آخر وهي الا تكون هناك فصول او ارقام او هوامش او مقاطع بل جعلها وحدة واحدة متسارعة في الانتقالات وهو ما اتاح له حرية الانتقال في صيغ الروي الثلاث لأنها الحجة والعذر في استخدام هكذا نوع من متن سردي ان تكون الانتقالات وفق حرية الروائي واستغلالية الراوي وتوجه المبعث الدلالي داخل الصراع للوصول الى المستوى القصدي الذي يريد بثه للقارئ لعبله يتمكن من قطف ثمار المستوى التحليلي وبالتالي جمع المستوى الفلسفي من هكذا ثيمة وهكذا بنائية.. وعلى الرغم من ان دار الطبع لم تتمكن من منح الخارطة الفنية او الاخراج النهائي للرواية من خلال عدم تركيزها (وهذا ما اراه) على أهمية الاقواس والحوارات والفراغات القليلة التي وضعها الروائي / المنتج بين قسمن وآخر كإنتقالة زمانية او حوارية كما في صفحة 73 وصفحة94 واعتقد ان هناك فراغات اخرى كمحطات انتقال بنائية مقصودة في صفحات اخرى لم تفعل او تتوضح من قبل دار النشر.
ان هذه الانتقالة بين صيغ او مستويات الروي تمنح المنلوج الداخلي قدرة على الاتيان بالحالات النفسية والصراع المتذبذب والاختناق الدلالي والمفردة المأزمة وخاصة تلك المتعلقة بحالة الاطمئنان اللاواعية وغير المرتبة التي فرضتها الظروف على ابطال الرواية وهي ايضا تأتي من أجل شد وحدة الحالة النفسية لهذه الشخصية او تلك الاقرب الى الفنان سواء ما هو متعلق بعائلته او أصدقائه الفنانين الآخرين الذين هم ايضا يعيشون الة تذبذب من قبله لأنه يفتقدهم ويعدهم مصيرا جديدا حين اعتقد انهم تخلوا عنه.