العمى ..  حين يصيب روحية المدن

العمى .. حين يصيب روحية المدن

أوراق
"ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى"، هذه الجملة الرائعة من رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998، التي صدرت عن مؤسسة "المدى" للإعلام والثقافة والفنون بترجمة محمد حبيب.

تحكي عن استشراء العمى في مدينة ما مجهولة الاسم مثل طاعون عاصف أصاب المدينة بأكملها، تبدأ رحلة الوباء برجل يصاب بعمى أبيض أثناء قيادته لسيارته إذ بدأ يرى كل شيء أبيض مشعاً، ينقلونه لعيادة أحد الأطباء الذي لم يجد تفسيرا علميا لهذا العمى، ثم ما يلبث الطبيب نفسه أن يفقد بصره وتتوالى الإصابات بحيث يهجم عمى أبيض ومشع يعم المجتمع فيمنعه من الرؤية، عمى غريب ورهيب ينتج عنه هيجان وتكالب على السلطة والحياة بأساليب جشعة وخشنة ووحشية. ولن نستغرب هذا المسلك من قِبَلِ قلوب أقل ما يمكننا وصفها بها هو القسوة في فرض السيطرة والتحكم الجائر على عميان لا يرون في ضياء النهار، الكاتب هنا يصرح بأن الأنانية المتحكمة في التصرف والسلوك هي التي تفرض قواعد ظالمة، ومن يخالف هذه القاعدة الجائرة يتم منعه من الأكل وضروريات الحياة، فما أقسى هذه الفلسفة!
وما معنى أن تظل امرأة واحدة فقط هي المبصرة كما صورها الروائي جوزيه ساراماغو، الروائي البرتغالي المدافع عن الحق في الحياة بكرامة؟ إنها بلا شك رمز الاستمرارية والمداومة، وهي التربة الغنية، وكان لزاما على الكاتب المبدع أن يمتعها وحدها بنعمة البصر فهي الأم والأخت والبنت، ترى مسوخاً من الطغيان والجبروت لا يشفع ولا ينفع ولا يغني ولا يسمن من جوع، فها هو العمى يضرب ضربته فينتقل المجتمع من شكله الإنساني المعطاء إلى شيء آخر لا يمت بصلة إلى البشرية المتفانية في التعاون والتكافل. فالمرأة المبصرة ترى الكثير من المشاهد التي لا يستطيع أن يراها العميان، فها هي ترى السرقة والزنا والاستبداد والاستغلال فيقشعر لهذه المناظر جسدها وتصدم روحها، إنها ترى جثث متعفنة في الطريق ومرضى يتألمون.
وينقلنا سراماغو إلى منحى آخر من المفارقات العجيبة بإظهار ذلك القلق الذي يصيب شابة عمياء زانية على والديها، وكيف تبدل جهدها من أجل الاطمئنان عليهم وتطمئنهم عليها، فالبذرة هنا طيبة لكن التربة التي وجدت الفتاة نفسها بداخلها هي الفاسدة. والحب في السرد الروائي عند سراماغو أعمى فعندما تسترد الفتاة بصرها وترى العجوز الذي أحبته قبيح الشكل والمنظر تتركه، فالحب المبني على جهل بالأخلاق والمبادئ والجمال لابد من التخلي عليه دون أسف وبلا رجعة.
عندما يختفي النظام والرقابة يتحول البشر إلى وحوش بشرية عمياء لا تتوقف عند مبدأ أو مسلك أخلاقي رفيع، فتنقطع الكهرباء ويتوقف ضخ المياه فتعم الفوضى في المدينة العمياء وتنتشر الأوساخ والأمراض والجثث. فكيف في أتون هذه الفوضى يمكنك رؤية الصواب؟ فحاسة الشم في هذا الظرف لن تفيد في شيء بل ستساعد في زيادة التيه عن معالم الوجود والاستقرار تماماً.
فهوية الإنسان تتجلى في صميم رؤيته للواقع وتفاعله معه وخلقه لبيئة ملائمة للعيش ببصيرة وعلم، فعندما يختتم الروائي ساراماغو روايته بأن يعيد للناس أبصارهم فيسيرون مبتهجين في الشوارع ومحتفلين بعودتهم إلى حظيرة المبصرين. هنا تعلق المرأة التي ظلت مبصرة على هذا الحدث بقولها:
"أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقا نرى!" وفي الحين يبرز الوقت المثالي للتفكير في الحيز المكاني الذي يجمعنا والمدى الزمني الذي نعيشه، ألا يستحق أن نبذل جهدنا لنعيشه بعشق وبكثير من الاسترخاء حتى لا يدمر بعضنا البعض بفعل عمل أهوج جاهل وأعمى؟.
إن العمل الروائي الذي أتحفنا به جوزيه ساراماغو لم يأتِ من فراغ، وإنما هو امتداد للواقع الذي عايشه، والمتأثر بطبيعة القضايا السياسية والاجتماعية المكونة لعناصر الحياة المحيطة به، هذه العناصر التي تمثل هموماً عامة تمس قطاعات عريضة من البشر، والتي تفاعل معها الروائي فأنتج عملا فذا لن ينقرض أبدا. فانحطاط كائن الإنسان إلى ما تحت الحيوانية وفقدان المدنية لكل مقومات وجودها الجمالية هي ما حاول الكاتب بحبكة روائية مدهشة هنا الكشف عنها بالإطلالة عما يختبئ داخل غابات النفس البشرية.
الرواية تكشف الجانب المظلم من طبيعة الإنسان عندما يصاب بالعمى الذي ينتشر داخل المدينة فيطفو إلى السطح زيف الحضارة ومدى تدمير العمق الإنساني الفعال والحقيقي في خضم من السرعة في اتجاه المصلحة الشخصية والأنانية. ومن هنا نضع أيدينا على رواية عابرة للزمان والمكان فاتحة الباب على معان وإشارات للخلود والحكمة.