جابر عصفور
قلتم لي:
لا تدسس أنفك فيما يعني جارك
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوع الأنف
*******
ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون
يدعو اله النقمة المجنون أن يلين قلبه، ولا يلين
(ينشده أبناءه و أهله الأدنين، و الوسادة التي لوى عليها فخذ زوجه، أولدها محمداً وأحمداً وسيدا
وخضرة البكر التي لم يفترع حجابها انس ولا شيطان)
(يدعو اله النعمة الأمين أن يرعاه حتى يقضي الصلاة،
حتى يؤتى الزكاة، حتى ينحر القربان، حتى يبتني بحر ماله كنيسة ومسجداً وخان)
للفقراء التاعسين من صعاليك الزمان
ملاحنا يلوي أصابعاً خطاطيف على المجداف و السكان
ملاحنا هوى إلى قاع السفين، واستكان
وجاش بالبكا بلا دمع.. بلا لسان
ملاحنا مات قبيل الموت، حين ودع الأصحاب
.. والأحباب و الزمان و المكان
عادت إلى قمقمها حياته، وانكمشت أعضاؤه، ومال
ومد جسمه على خط الزوال
يا شيخنا الملاح..
.. قلبك الجريء كان ثابتاً فما له استطير
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد
ثم قال:
- هذي جبال الملح و القصدير
فكل مركب تجيئها تدور
تحطمها الصخور
وانكبتا.. ندنو من المحظور، لن يفلتنا المحظور
- هذي إذن جبال الملح و القصدير
وافرحا.. نعيش في مشارف المحظور
نموت بعد أن نذوق لحظة الرعب المرير و التوقع المرير
وبعد آلاف الليالي من زماننا الضرير
مضت ثقيلات الخطى على عصا التدبر البصير
ملاحنا أسلم سؤر الروح قبل أن نلامس الجبل
وطار قلبه من الوجل
كان سليم الجسم دون جرح، دون خدش، دون دم
حين هوت جبالنا بجسمه الضئيل نحو القاع
ولم يعش لينتصر
ولم يعش لينهزم
ملاح هذا العصر سيد البحار
لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم
لأنه يموت قبل أن يصارع التيار
*********
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك!
************************
************************
أصدقاء البدايات
نعم، تركت الكثير والكثير بإبداعك وكلماتك التى تحفر قلوبنا جميعا وليس الجدران فحسب فأنت لم تمت أبدا.
أخذت أقلب فى هاتفى مرة أخرى مصرة على أن أتحدث إلى أصدقائه وأن أسمع منهم عن الرجل الذى عايشوه بالواقع فى حين أنى عايشته فى كلماته فقط.
وبالفعل وجدته صديق عمره الثانى الناقد والدكتور جابر عصفور الذى اتصلت به ورحب كثيراً، حكى لى عن «عبدالصبور»، وكأنه لم يمت وحكى عن وفاته وكأنها أمس وليست من 34سنة.
«تعرفت على صلاح عبدالصبور سنة 1966، وكنت قبلها كتبت بحثًا وأنا معيد بالدراسات العليا وهو أول بحث أكتبه فى حياتى وكان عن «تطور الوزن والإيقاع فى شعر صلاح عبد الصبور»، وذهبت بالبحث إلى أشهر مجلة فى ذلك الوقت وهى «مجلة المجلة» ورئيس تحريرها الكاتب الكبير يحيى حقى عليه رحمة الله، وكنت وقتها شابًا صغيرًا جدا ونحيفًا جدا ولم يظهر عليّ أنى تخرجت فى الجامعة أو أنهيت دراستى الجامعية، وكنت معيدا وقتها بالجامعة.
وشك يحيى حقى فى أن أكون أنا من كتب هذا البحث فأخذ يسألنى بعض الأسئلة حتى يتأكد من كونى كاتب البحث وقال لى «اقرأ البحث أنا عايز أسمعه منك»، وبالفعل قرأت له البحث وكان مكاراً للغاية فلم يكتف بسؤالى بعض الأسئلة السطحية التى تخص البحث أو قراءتى للبحث وإنما أخذ يسألنى أسئلة فى غاية المكر حتى يتأكد له أنى أنا من كتب البحث وفى النهاية قال لى «يا ابنى إنت هيبقالك شأن كبير جدا»، وطلب صلاح عبد الصبور وقال له «يا صلاح مجلة المجلة فيها بحث عنك محدش كتب زيه».
اليساريون حفظوا سطوره
وكان اليساريون كلهم حفظوا سطور هذا الديوان الذى يحمل امتزاجًا قليلاً من بعض الوجودية القديمة لكنه يحمل الكثير من النزعة الإنسانية الاشتراكية، ونجح الديوان نجاحًا ساحقًا سنة 1957، وكنا منتصرين على العدوان الثلاثي، وحرب 1956 وشعر «عبد الصبور» كان يتصدر القمة وقتها على الشعر الماركسي، وأصدر بعده ديوانه الثانى «أقول لكم» ولكن الاستجابة وقتها كانت قد اختلفت عن استجابة الناس لديوان «الناس فى بلادي»، حيث إنه فى عام 1956 بدأ يحل ارتباطاته بالاشتراكية خصوصا بوجهها الشيوعي، وذلك لأن فى عام 1955 دخل الاتحاد السوفيتى على تشيكوسلوفاكيا وحدثت الأحداث التى تناولها بعد ذلك أحد الكتاب التشيك فى إحدى رواياته، وشعر صلاح عبدالصبور أن دخول الاتحاد السوفيتى بالدبابات لا يختلف كثيراً عن الغزو النازى لبقية البلدان وقال إنه إذا كان الاتحاد السوفيتى يدعو للاشتراكية فلا يدعو لها بالدبابة والمدفع، إنما يدعو لها بالفكر ومن هنا فقد احترامه للاتحاد السوفيتى وانصرف عن الاشتراكية بمعناها الشيوعى وبحث عنها بمعناها الإنسانى وهى المبادئ الإنسانية التى تحقق العدل الاجتماعى فى البلد وليس العدل الاجتماعى بالمعنى الماركسى أو الشيوعى وكان نتيجة هذا أنه خسر كل أصدقائه الشيوعيين القدامى وبدأوا مهاجمته فى ديوانه الثانى «أقول لكم»، وعندما أصدر ديوانه الثالث «أحلام الفارس القديم» بدأ يصنع توازنًا بين دواوينه السابقة وهذا الديوان وجذب الديوان الميالين للنزعة الاشتراكية وأيضا الميالين للنزعة الإنسانية بمعناها الاشتراكى.
وكان هذا الديوان علامة مهمة جدا فى تاريخ الشعر العربى ومن وقتها أصبحنا أصدقاء، وأصدر بعدها كتابًا بعنوان «حياتى فى الشعر».
وفى عام 1981 كان صلاح عبدالصبور رئيس هيئة الكتاب وبدأت أنا وعز الدين إسماعيل نفكر فى عمل مجلة متخصصة فى النقد الأدبى بناء على اقتراح من صلاح عبدالصبور- عليه رحمة الله- واجتمعنا لكى ننفذ هذا الاقتراح وبالفعل بدأنا التنفيذ، وجمعنا مقالات، ولكن فوجئنا أثناء الطباعة بأن الميزانية المخصصة للمجلة لن تكفى كل هذه المادة، فذهبنا أنا وعز الدين إسماعيل إلى منزل صلاح عبدالصبور لنخبره أننا مستعدون للتنازل عن المكافأة المخصصة لنا مقابل إصدار المجلة كما ينبغى وكما نرجوها، فضحك كثيرا «عبد الصبور» طبعا لأن مكافآتنا لن تساهم فى إصدار ورقة من ورقات المجلة فهى تحتاج تكلفة عالية جدا، وفى النهاية فكرنا فى تغيير قطع المجلة إلى الأكبر لكى تحتوى كل المادة ونجحنا فى ذلك، وكان أول إصدار لمجلة «فصول»، ونجحت مجلة «فصول» وكانت تبيعًا كمًا هائلاً من النسخ وفرح كثيرا صلاح عبدالصبور وتوالت النجاحات بعد ذلك، إلى أن رجع أحمد عبدالمعطى حجازى من باريس وجاء المكتب لصلاح عبدالصبور يدعوه إلى عيد ميلاد ابنته وكنت أنا بالمكتب فدعانى بالطبع، وذهبنا الحفلة أنا وأمل دنقل وزوجته عبلة الروينى وصلاح عبدالصبور وزوجته سميحة غالب وابنتاه معتزة ومي، وهناك قابلنا بهجت عثمان الذى تعرفت عليه لأول مرة بمنزل أحمد عبدالمعطى حجازى فى هذه الليلة.
وضع أمل دنقل شريط كاسيت وإذا بصوت عبدالرحمن ينطلق بقصيدة «المشروع والممنوع» من ديوان يحمل نفس الاسم وكان هذا الديوان احتجاجا على سياسة الانفتاح يقول «الأبنودي» بديوانه:
دا زمان الأونطه والفهلوة والشنطة
تعرف تقول جود نايت وتفتح السانسونيت
وتبع أمك وأبوك
الصدام الأخير
وكانت القصيدة هجاء للمحبذين سياسة الانفتاح، فقال صلاح عبدالصبور «والله الشعب المصرى دا يستحق اللى بيجراله لأنه ساب الناس دى تعمل فيه اللى اتعمل دا»، فرد عليه بهجت عثمان بنوع من الانفعالية الشيوعية التقليدية قائلا «وهو الشعب المصرى هيعمل إيه يا صلاح طالما المثقفين بتوعه خانوه»، فرد صلاح «مين اللى بيخونوه يا بهجت»، فقال بهجت «أنت يا صلاح خنته وبعت القضية كلها بمليم».
وبدأت تحدث مشادة كلامية بين بهجت عثمان وأحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وحاولنا تهدئة الموقف ولكن استحالت التهدئة وشعر بعدها صلاح عبد الصبور بعدم توازن وسعال وعدم انتظام فى النبض والتنفس فذهبنا به إلى مستشفى هيلوبوليس وكانت بجوار منزل أحمد عبدالمعطى حجازى وعندما وصلنا وكشف عليه الطبيب قال لنا «أنا شاكك فى حاجة يارب متطلعش هي»، وذهبت لينادى أستاذه وبعدها بدقائق خرج الطبيب من الغرفة ليبلغنا خبر الوفاة.
لم أعرف ماذا أقول لزوجته وبناته المنتظرات بمنزل أحمد عبدالمعطى حجازى فذهبت لأقول لهن إن الطبيب أمر بحجزه ولكنه بخير وأوصلتهن إلى منزل أخيها بمدينة نصر.
وأخبرت أخاها بما حدث وقال لها أخوها ما حدث قبل نزولى من العمارة عدت إلى المنزل وبدأت أخبر الجهات المعنية وأولهم الدكتورة سهير القلماوى فقالت لى اتصل بفلان وكان فلان وقتها وكيل أول وزارة الثقافة وقال لى سأكون عندك بعد ساعة وبالفعل أتى وتولى كل شيء.
انتهت علاقتى بصلاح عبد الصبور الإنسان وتحولت إلى علاقتى بصلاح عبد الصبور الشاعر التى لم ولن تنتهى إلى الأبد, فهو كان ولا يزال واحدًا من أكبر شعراء العربية وأكبر شعراء مصر على الإطلاق.
عن مجلة العربي الالكترونية