من ذكريات الساعاتي

من ذكريات الساعاتي

وثبة 1948
كان صباح يوم الثلاثاء المصادف 27 من كانون الثاني 1948 بهيجا غير ان بغداد بدت عابسة مكفهرة على الرغم من اشراقة شمسها كما بدا (شارع الرشيد) موحشا على الرغم من تقاطر الناس على ارصفته وارضه وتزاحمهم في ساحاته.

وكان محلي الصغير في منطقة (حافظ القاضي) من شارع الرشيد مستقرا مقابل ساحة (الوثبة)، الساحة الخالدة، التي تشرفت يومها بهذا الوسام الوطني النضالي، وفي ذلك الصباح كان الشعب الغاضب، على اختلاف طبقاته وقومياته ودياناته واتجاهاته السياسية متجمهرا وداعيا بصوت هادر الى اسقاط (معاهدة بروتسموث) الجائرة هائفا بحياة (فلسطين) حرة عربية.
واقبل الموكب المهيب من بعيد، وفي طليعته الوطنيون الاحرار من اهل الفكر وارباب السياسة وقادة الاحزاب الوطنية، والعلماء والروحانيون، والكسبة والعمال الوطلاب يحدو بهم الخطباء والشعراء.
فهذا شاعر الشعب (محمد صالح بحر العلوم) يرتقي اكتاف ابناء الشعب، وهو يلقي بحماسه المعهود قصائده النارية الملتهبة:
واغنية المجد ما وقعت
على غير ارودة قطع
ثم يمضي مع الجماهير. مخاطبا خونة الوطن وعملاء الاستعمار:
ويمينا لو هادنتكم يميني
لحظة لاقتطعتها بشمالي
واستمرت المواكب الجماهيرية طيلة ذلك اليوم الحزين، تطوف شوارع بغداد، كرخها ورصافتها، حاملة نعوش شهداء الوثبة الاحرار، (شمران) وجعفر الجواهري) و(قبس الالوسي) وغيرهم..
وفي الايام التالية اقيمت الفواتح ومجالس العزاء في (الصحن الكاظمي) و(الحضرة الكيلانية) و(جامع الامام الاعظم) و(جامع الخلاني).. كما اقامت الطوائف المسيحية في الاديرة والكنائس (القداسات)، فتوالت على بغداد وفود المعزين من المدن العراقية للمشاركة في مؤاساة عوائل الشهداء وهم يرددون قوله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون". وعندما زرت مع صديقي (عبد العزيز جعفر ابي التمن) – طيب الله ثراه – الحضرة الكيلانية لقراءة سورة القاتحة على اراوح الشهداء الابرار، شاهدنا شاعر العرب الكبير (محمد مهدي الجواهري) يقف شامخا وقد لفه الحزن العميق لاستشهاد ابناء الوطن ومنهم شقيقه (جعفر)، وهو يلقي رائعته الخالدة التي رددتها الجماهير في كل مكان، وتغنى بها الوطنيون الاحرار والثوار:
اتعلم ام انت لا تعلم
بان جراح الضحايا فم
فم ليس كالمدعي قوله
وليس كآخر يسترحم
اتعلم ان جراح الشهيد
تظل عن الثأر تستفهم
اخي (جعفرا) يا رواء الربيع
الى عفن بارد يسلم
تعلمت كيف تموت الرجال
وكيف يقام لهم مأتم
وكيف تجر اليك الجموع
كما انحر للحرم المحرم
اسالت تراك دموع الشباب
وفور منك الضريح الدم
وفي عودتنا الى (باب المعظم) وجدنا المتجمهرين في الساحة الكبرى المقابلة لقاعة (الملك فيصل) – انذاك – يحملون الشاعر المبدع (السيد محمود الحبوبي) على الاعناق وهو ينشدهم قصائده الوطنية.. يتلوه الشاعر الشاب الناشيء (بدر شاكر السياب) رحمه الله...
وعندما عبرنا (جسر الشهداء لحضور مجالس الفاتحة المقام في محلات (الكرخ) (الشواكة)، (باب السيف) (الصالحية)، (رأس الجسر)، (الشيخ بشار)، (الدوريين)، (الارضروملي)، (الرحمانية)، (الشيخ معروف)، (الجعيفر)، (الست نفيسة)، (السوق الجديد) وغيرها.. كان الشعراء الوطنيون الاحرار يؤججون نيران الغضب بالقاء قصائدهم اللاهبة، اذكر منهم الشاعر الجريء الشاب (عدنان فرهاد) والشاعر الشعبي (عبد المجيد الملا) والشاعر العصامي (جاسم الجبوري) والشاعر المناضل (عدنان الراوي) طيب الله ثراهم وجعل الجنة مثواهم.. واذكر بان الشاعر (بحر العلوم) كان يتجول بين تلك المحافل، وقد استشارته الجماهير بالقاء قصيدته المرتجلة التي كان يرددها بمظاهرات تشييع الشهداء، ولم تستطع الجماهير عند القائها في حينه تسجيل ابياتها الا ما يزيد قليلا على (40 بيتا)..
ومطلعها:
يا وثبة الشعب اخرقي
باللعن (عهد) الاخرق
فعهد (بورتسموت) قيد
لاحتلال مطلق
لاح لك الدرب فسيري
حرة وانطلقي
يا وثبة الشعب احفظي
الصف من التفرق
فوحدة الصف
سلاح الظفر المحقق
ويا ضحايا عهد (بورتسموث(
للخلد اسبقي
وقد كان للاحزاب الوطنية الثلاثة التي كانت قائمة رسميا انذاك، وبينها المشترك، اضافة الى اجماع الرأي لدى (20) نائبا وطنيا من نواب المجلس النيابي على الاحتجاج ثم الاستقالة، التي اعقبتها استقالة رئيس المجلس واستقالة بعض الوزراء وما تمخض عن هذه التطورات المتعاقبة السريعة من نتائج ايجابية لمصلحة الوطن والشعب.
كل هذه المؤثرات وغيرها، كانت لها القوة البالغة الفعالة ايضا على اجبار عاقدي المعاهدة للتراجع.. ثم سقوطهم مع المعاهدة.
ولايفوتني هنا ان اسجل باعتزازي ما كان لوثبة كانون الشعبية تأثير بالغ في انفتاح وعيي سياسيا وبلورة موقفي وطنيا.
كما كانت تشكل – بكل مبرراتها ونتائجها – مرحلة انعطاف فكري بالنسبة لكثير من ابناء جيلي – شباب الاربعينيات، اذ كنت وكنا لا ندرك من هذه المناورات السياسية والمؤامرات الدبلوماسية والمؤتمرات الدولية والمعاهدات الا ظواهرها الخلابة ودعاياتها الكاذبة ودعوات ولائمها المستطابة. فلم اكن ادرك سعة المطامع الاجنبية في منابع (العراق) النفطية، وكنوزه المعدنية وثرواته الزراعية، وطرق مواصلاته البرية، وملاحته النهرية والجوية، إلا حينما انتهت الحرب العالمية الاولى (1914 / 1918)، ثم عشنا الحرب العالمية الثانية 1939 / 1945، عندها ظهرت نوايا واهداف الدول الغربية والشرقية على حقيقتها في استلاب غنائم الشرق والغرب، خاصة البلاد العربية الغنية بخيراتها الوفيرة، بشرية ونطفية وزراعية، حيث بدأت المناورات الدولية تظهر على شكل مؤتمرات (مالطة)، (برلين)، (موسكو)، (باريس)، (سان فرانسيسكو)، (نيويورك).
وقد كان الشرق اهم هذه الميادين التي تعرضت للهب تلك المنافسة السياسية الشرهة بين (الروس) واتباعهم من جهة والمعسكر (الانجلو امريكي) وحلفائه من جهة ثانية ومن الطبيعي ان يكون عراقنا الحبيب، جزءاً مهما من هذا الشرق وهل يخفي على احد اعتبارهم (العراق) حلقة من السلسلة الذهبية، الذي تحرص بريطانيا على ان تجعله (زنارا) تشد به وسطها النحيف.
وكم كنت اصغي الى الحوار السياسي والفكري، الذي يتبادله المثقفون في الندوات الادبية، حول الهموم الوطنية والقيود الاقتصادية التي يشكو منه التجار والحرفيون في الاسواق.. فادركت مدى المطامح الاجنبية وغرابة المؤامرات الاستعمارية التي اجهضت (الثورة العربية الكبرى) عام 1915، بقيادة المغفور له الملك (حسين) شريف مكة، الذي ذهب ضحية رفضه الاعتراف بوعد (بلفور) فخسر عرشه وبقي منفيا في جزيرة (قبرص) طيلة حياته، ولم يكتف الانكليز بتأمرهم على حريته وحياته، بل تأمروا على ارضه وشعبه وقسموا ارضه العربية الى دويلات ومشايخ وامارات وشردوا الشعب الفلسطيني من ارضه العربية وسمحوا لليهود باقامة دولة صهيونية.
ومنذ صباي – في الثلاثينيات – كنت اشاهد المظاهرات الجماهيرية تطوف شوارع بغداد علها تحمل الحكام، وتثير نخوة الوطنيين الاحرار لصيانة حقوق الشعب العربي الفلسطيني. وبعد سنين عجاف، استيقظ ضمير (البلاط) فاستجاب لتلك المظاهرات الشعبية من اجل تهدئة الغضب الجماهيري فسمح بعقد اجتماع ضم بعض رؤساء الوزارات السابقين والوزراء، وبعض اركان الحكم اضافة الى مجموعة من الشخصيات الوطنية التي تتمتع باحترام الاواسط الشعبية وتقديرها، لاضفاء الصفة الشرعية على الاجتماع، وخلع الصفة الوطنية عليه..
فتمخضت المحاورات الدبلوماسية والمناورات السياسية فولدت – فآرا – سمي (معاهدة بورتسموث)، لتكون بديلا عن المعاهدة السابقة المعقودة عام 1930 بين العراق وبريطانيا، في 30 حزيران.
فكان ما كان.. من تضحيات وطنية جسيمة ومظاهرات جماهيرية عارمة في وثبة كانون الخالدة، التي كان شهداؤها الابرار ومناضلوها الاحرار عاملين مؤثرين في اخضاع السلطة الغاشمة على الانصياع لصوت الشعب وارادته بالغاء (معاهدة بورتسموث) الجائرة.

كيف أسسنا مكتبة الخلاني العامة؟
منذ ما يزيد على اربعين عاما. يوم كنا نخبة من الاخوان والاصدقاء، تتفاعل مع احداث الوطن ووقائعه، ونتحسس بما كان يعانيه ابناؤه من الجهل والفقر والمرض، لقد كنا ندرك عن وعي بما قرأناه وبما القى الينا من حقائق الامور التي رواها لنا اهلنا ما خلفته الحرب العالمية الاولى من جوانب التخلف والتأخر في الحياة العراقية.. ثم ادركنا بالحضور والمعايشة ما جلبته الحرب العالمية الثانية من مصائب وويلات لعموم العالم وشعوبه، ممن اشترك مباشرة في الحرب او لم يشترك.
وحين انزاحت عن البشرية المفجوعة باوزار الحرب واثامها.. تلك الغمة المظلمة القائمة، باعلان نهايتها والعودة بالعالم الى السلام، وبالحياة الى غايتها النبيلة الاصيلة في خدمة الانسان، عام 1945، قررت تلك النخبة من الاخوان والاصدقاء، ان تقوم بخدمة عامة للمواطنين الاميين الذين لم تسعفهم الظروف للدراسة والتعلم في طفولتهم وصباهم..
وهل اشرف واجل من مهمة ايصال العلم والثقافة الى من بحاجة اليهما من المواطنين، الذين كان عددهم كبيرا جدا يومذاك في بغداد خاصة وارجاء الوطن عامة. وتحولت الفكرة النبيلة الى حيز العمل والتطبيق واستقرت الاراء على ان نستنير باستاذنا العلامة الجليل السيد (محمد الحيدري)، العالم المسؤول عن جامع (الخلاني) وراعيه وامام الصلاة فيه. وكانت العلاقة بيننا وبين السيد الجليل علاقة وثيقة طيبة، اذا قلت انها علاقة اب بابنائه او اخ كبير باخوته فلا اتجاوز الواقع.
ولما قصدناه لعرض الموضوع والتماس حسن التوجيه قال:
ان خدمة العلم ونشره بين الناس عمل مبرر مشكور من الله والناس، وهو فرض يرقى الى مستوى العبادة.
وقد كان هذا الموقف المتجاوب من السيد الحيدري هو المأمول فقد كان متميزا عن اقرانه وزملائه من رجال الشرع الشريف وعلمائه، بمميزاته فريدة نادرة، فقد كان فضلا عن تضلعه في علوم الدين والتفسير والفقه والتاريخ الاسلامي واللغة.. رجلا اجتماعيا يطعي لكل حقه، جم التواضع مع الصغير والكبير، وحين وجدنا مستعدين لمباشرة التدريس وادرك بومضة مشرقة من تفكيره بان المشروع معلق بايجاد المقر الملائم لاستيعاب الدارسين..
خصص لنا غرفة بجوار المصلى لتكون صفا تقام فيه الدروس كل مساء، وكان مقتصرا على تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب.. وثبتت السبورة السوداء على الجدار واكتملت مقومات الدراسة.. وحين شرعنا بنشر دعوتنا بين ابناء حارة (الخلاني) توافد علينا الراغبون في الدرس من مختلف الاعمار ممن لم تسمح لهم اعمالهم اليومية المضنية بتوفير فرصة الدراسة والتعلم لهم والمواظبة في المدارس النهارية. وكان الاقبال شديدا، وتلقى الدارسون دروسهم بشوق ولهفة واصغوا بادب ورغبة، وضاقت الغرفة بالعدد واضطررنا الى لقائهم بوجبات وكنا نحن النخبة قد تقاسمنا العمل بيننا لكل واحد منا اسبوعا كاملا، (ناجي جواد، صالح عباس الحداد، علي حسين ومحمد علي درويش وعبد الحميد المحاري) كنا متعاونين ومتفائلين جدا لنجاح المشروع يدفعنا عاملان قويات للمضي في العمل، اولهما اقبال المواطنين وانتظام مواظبتهم وثانيهما الشعور الوطني الذي يملا قلوبنا..
وكانت في الجامع مكتبة صغيرة هي مجموعة كتب ومصاحف ومصادر تتعلق باختصاصات رجل الدين وممارساته يملكها علامتنا (الحيدري). وذات مساء كنا مجتمعين به لتدارس احوال المشروع وشؤون الدارسين اثار اجتماعنا بفكرة جديدة، عبرت عن رغبته الصادقة وامنيته الكريمة في نشر الثقافة بين الناس وخاصة من كان متعلما او مثقفا منهم عن طريق تأسيس مكتبة ملحقة بالجامع، على ان تكون غرفة التدريس مقرا لادارتها.. معولا في ذلك على همم الشباب، وعلى ما يجود به الخيرين لمدنا بالكتب وبالمال.. وانهالت التبرعات كتبا واموالا من كل مكان، من علماء وادباء واساتذة واصحاب مكتبات خاصة وعامة في العراق، يشاركهم في البذل والتبرع المؤلفون والناشرون.
وكانت هذه البداية الرائعة هي بداية تاسيس (مكتبة الخلاني العامة) عام 1364 هـ، 1945م، نفس السنة التي باشرنا فيها تعليم الاميين.. وتطور المشروع وباركه الخيرون من اجل ان تكون المتكبة منارا لنشر الثقافة وكنزا يضم جواهر المعرفة.
وضاقت الغرفة القديمة (صف التدريس) بالكتب ومجموعها يتزايد يوما بعد يوم، خاصة بعد ان اعلن السيد في ذلك المساء المبارك عن تبرعه بمكتبته النفيسة ذات الكتب القيمة للمشروع الجليل، فما كان من الحاضرين الا الاقتداء والامتثال، ممن كان يملك مكتبة تبرع بها او ببعض كتبها، ومن لم يكن كذلك تبرع بالمال، ومن لم يكن يملك لا هذا ولا ذاك تطوع بالجهد والسعي.
وممن اذكرهم بين اوائل المتبرعين بالكتب السادة (وائل السعدي) وهو يهدي مكتبته الصغيرة في عدد كتبها الكبيرة في مغزاها، والاستاذ (يحيى الباجه جي) وقد هزته الاريحية فيقدم مجموعة طيبة من كتبه، كذلك فعل المحامي (عبد الرزاق الشيخلي) و(الحاج حسين علي المحاري) وغيرهم كثيرون، ثم تسعفنا عائلة المجاهد الكبير والوطني الحر (الحاج محمد جعفر ابو التمن) فتهدي مكتبته ذات الكتب النادرة والمظان الفاخرة، وبهذه الاريحية العالية والتجاوب الكريم، تضاعف نشاطنا وازداد بالخيرين ايماننا، والناس هم الناس، في كل مكان وزمان، تسحرهم الدعوة الخيرة، ويساندون العمل المجدي الذي تعود ثماره لصالح المجموع، اما انا فقد بلغ ايماني بالفكرة وحماسي لتاييده حدا دفعني لتقديم كتبي كلها هدية الى المكتبة، مع جميع ملحقاتها ومكوناتها من منضدة كبيرة للكتابة وخزانة للكتب ودولاب خاص بالبطاقات المكتبية والارشيف، وحين غصت الغرفة الصغيرة باعداد الكتب الكثيرة المنهالة علينا من كل مكان، وقعنا من امرنا في حيرة، وتوالت اجتماعاتنا لدراسة الموقف وحل ازمة الكتب المكدسة!.. وفي مرة من المرات اشار علينا السيد الحيدري باشغال الارض التي تهدمت مكوناتها ولم يبق من معالمها سوى بقايا جدار، وكومة من تراب واحجار.. فدهشنا للاقتراح الضخم، وكادت تقعد بنا همتنا عن تحقيق هذا الامر الذي يكاد يكون في حكم المستحيل، اذ من اين نأتي بالمال لتشييد القاعة والخزائن وسائر مستلزمات المكتبة..؟
ولكنني اعود لنظرتي المتفائلة الى طبيعة الاشياء، واوكد على ما امنت به دوما من ان الروح الخيرة في الانسان، تطغي على الشر، فالانسان اقرب للاصلاح منه للهدم والفضيلة منه للرذيلة، وبهذه الروح المتفائلة لطبيعة الاشياء، عقدنا العزم على اكمال المشروع والسعي من اجله قدما، وفي صباح اليوم الثاني عرضنا طلبنا على المواطن الغيور الاستاذ (صادق البصام) رحمه اله، لنحصل منه على (تخويل) بجسور الحديد من لجنة التموين العليا.
فمنحنا التخويل المطلوب وجمعنا المال لشراء الحديد وبقية المواد الانشائية، وما هي الا بضعة ايم حتى طرحت كلها في ساحة الخلاني وهي تستعطف الايدي الكريمة والسواعد الفتية والقلوب المؤمنة، لتتبرع برفعها عن الارض، ثم تحويلها الى بناء شماخ يضم تراث العلم والادب والفكر..
وهكذا ارتفعت وقامت.. ولكننا حين وجدنا اكثر رفوفها وخزائنها خالية من الكتب عاودنا حملة التبرعات داخلا وخارجا واصبح العدد يتضاعف والاقبال عليها يتنامى حتى اصبحت مقرا للدارسين من كل فئة بما فيهم الدارسين الطامحين لدراسة الماجستير والدكتوراه بما اغنيت به من مصادر ومراجح وكتب قيمة..
وكانت الفرحة الكبرى عندما بلغ عدد الكتب حداً تجاوز الـ (25) الف كتاب، اقام مؤسسها العلامة (الحيدري) معرضا للكتاب في قاعاتها الرحبة عام 1950، فتوافد على المكتبة مساء الاحتفال جمهرة كبيرة من المثقفين والعلماء والشعراء والادباء واهل الفضل للمشاركة في الاحتفال، وكان في طليعتهم العلامة الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وعميد الحقوق الاستاذ (منير القاضي) والشاعر (محمود الحبوبي) والشاعر (حافظ جميل) والاستاذ (فؤاد عباس) والدكتور (عبد الرزاق محيي الدين).
ويجمل بي ان اوضح عما صاحب مشروعنا هذا من تلكؤ وتعثر. واراني ملزما بشرح هذه الناحية بوضوح، فقد ظهر لي بعد هذه التجربة الرائدة.. ان اخطر ما تتعرض له هذه المشاريع الخيرية العامة هو الاهمال والصدود، وذلك بانطفاء جذوة المتحمسين لتأسيسها، ثم بالاخير انفضاضهم من حولها وعدم مدها بالعون والعناية اللتين تعهدوا بمواصلتهما باتجاه انعاش المشروع وادامته.
وهذا ما حدث فعلا لمكتبتنا الفتية، حيث انصرف كل منا لبناء حياته، فشغلته همومه اليومية عن الهموم الاجتماعية، ولم تعد تزور المكتبة الا لماما، ولم نسع اليها حثيثا كما كنا وانطفأت جذوره حماسنا، وتركنا المكتبة واعباءها وخدمتها، على السيد (محمد الحيدري) وحده. ولحلمه الواسع وخلقه الرضي وحسن تقديره لظروفنا، لم ينح باللائمة على احدنا ولم يوجه اليه عتبا، ولم يتخل عن مشروعنا.. فصبر صبر المؤمنين.. حتى كتب لمشروع المكتبة النجاح الشام.. ولتستقر بهمم الخيرين مستودعا للعلم ومعونا للثقافة ومنهلا عذبا يرفد رواده من المطالعين المتطلعين للمعرفة.

عن كتاب الساعاتي
(بغداد سيرة ومسيرة)